المحتوى الرئيسى

بين الثورة والفوضى

02/10 12:47

رياض نعسان أغا

ما يحدث اليوم في بلدان الثورات العربية من سفك دماء ومن عنف مريع يجعل الثورات مهددة بأن تفقد البوصلة التي توجه المسار، ويهدد الشعوب بفقدان كل ما أنجزت من تنمية عبر عقود فضلاً عن الخسائر الأهم في الأرواح والأجساد، ولكن الثورات عبر التاريخ كله محكومة بهذا الثمن الفادح وهو يزداد ويكبر حين تنتشر الفوضى على هوامش الثورات، فيستغل الوضع المتردي أمنيّاً لصوص وقتلة ومجرمون يعيثون فساداً، وهم يجدون من يحثهم على افتعال مزيد من الاضطراب وارتكاب مزيد من الجرائم، حدث هذا في كل البلدان العربية التي شهدت ثورات وفوجئت بالسفلة المجرمين من حملة السيوف والسواطير والسكاكين والأسلحة العسكرية يهاجمون الناس الآمنين كما حدث في ميدان التحرير في مصر في الأيام الأولى للثورة وكما حدث في بورسعيد مؤخراً، وكما حدث في اليمن وسوريا، وهؤلاء المجرمون يقتلون ويسفكون الدماء دون وازع من وجدان أو ضمير.

ومع حمى القتل والدمار تأتي فوضى الفكر والثقافة، ويظهر في الساحة منظرون يكيلون الاتهامات لمن يخالفهم الرأي أو العقيدة، ويفتون بالقتل والتدمير، ويقدمون له الأعذار والمبررات، وينسون أنهم أبناء وطن واحد.

ويبدو أن العصبيات أعمق تأثيراً في نفوس الناس من كل القيم والمبادئ التي تدعو إلى نبذ التعصب، ولم يفتك بأمتنا شيء كما فتكت بها العصبيات، وثمة مثل عصبي يكاد يسيطر على الثقافة الشعبية العامة يقول "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب". وهذا فكر غريب حقاً عن ثقافة العدل التي هي ذروة ما دعا إليه الإسلام، في نصرة المظلوم، وكف يد الظالم.

والمؤسف أننا توارثنا هذه العصبية في التاريخ العربي وكادت تفتك بثورة الإسلام الكبرى لولا أنه كان قويّاً في نفوس الصحابة، ولكن العصبية سرعان ما عادت من أجل التنازع على السلطة فكانت حرب صفين أخطر المعارك الأهلية التي فتك المسلمون فيها بعضهم ببعض ولا تزال ظلالها تهيمن على الثقافة العامة بين سنة وشيعة، يختلفون على التاريخ ومن كان أجدر أن يحكم سنة 37 هجرية، ولم تكد صفين تضع أوزارها حتى اشتد صراع قبلي جديد بين القيسية والمضرية وصل إلى طوفان دم في معركة مرج راهط عام 65 هجرية وكانت سبباً مهمّاً من أسباب سقوط دولة بني أمية التي انتقلت عصبياتها إلى الأندلس وقد انتهت دولة العرب فيها لأنهم تقسموا إلى دول طوائف يحارب بعضهم بعضاً.

والمفجع أن العرب لم يفيدوا من تاريخهم شيئاً، فهم لا يزالون يعيشون حالة استعداد للخوض في صراعات الطوائف والمذاهب، وتكمن لديهم العصبيات، وكأن مفهوم المواطنة لم يتأصل لديهم بعد، وأخطر ما قد ينجم عن دخول العصبيات في الثورات الراهنة هو خطر الوقوع في حمى الحروب الأهلية الداخلية، فإذا وقعت لا سمح الله فإنها ستكون كوارث لا تبقي ولا تذر، ولن يخرج أحد منها منتصراً، ولن يفيد أي طرف من أطراف الصراعات العصبية حتى وإن ظن بعضهم أن الحرب الأهلية تخلط الحابل بالنابل، وتجعل الثورات تفقد أهدافها، فالحرب بلاء ضخم لا ينجو من كوارثه أحد.

ومن الواضح أن العدو الإسرائيلي وحده من يفيد من اشتعال الحروب الأهلية في البلدان العربية، فقد دفعت الصهيونية العالمية بنفوذها القوي جيش الولايات المتحدة لتدمير العراق وكانت التكاليف ضخمة، ومن حسن حظه الآن أن يجد العرب يفني بعضهم بعضاً ويدمرون بلدانهم دون أن يكلفه ذلك عناء، ثم لا يبعد أن يحلم بأن تقسم البلدان العربية إلى دول صغيرة تقوم على أسس طائفية أو مذهبية أو عرقية، وتنشغل بحروب تفتك بهم جميعاً، فتصير إسرائيل وحدها الدولة الآمنة المستقرة وسط مستنقع من الفوضى والدمار.

وما نشاهده اليوم من شحن طائفي بغيض هو إنذار مخيف، ينبغي أن يتوقف عنده كل المواطنين العرب بوعي شديد، قبل أن تمتد النار إلى كل مكان.

ومما يزيد الأمر سوءاً أن أصوات العقلاء والحكماء تخفت حين يعلو أزيز الرصاص، وهدير انفجار القنابل، ولا ينقذ الموقف سوى الفكر الرشيد القادر على تجنيب البلدان مزيداً من طوفان الدم، ومن يظن أن مزيداً من سفك الدماء ومزيداً من العنف سيوقف اندفاع الثورات ويخمد لهيبها في نفوس الناس هو مخطئ في التشخيص وفي العلاج، فلابد من وعي حقيقة أن الشعوب لا تقهر، وطالما ردد الزعماء العرب هذه المقولة في خطاباتهم وترسخت في الوجدان العام.

وأما فوضى الفكر والثقافة فقد برزت في المشهد الذي تتيحه الديمقراطية الجديدة في بعض البلدان التي وصلت إلى بدء تجاربها، لقد بتنا نسمع آراء مدهشة ولا سيما في الشأن الإسلامي الذي يخوض في فتاواه كل من يرغب في الشهرة، وأعتقد أن أكبر خطر على الإسلام يأتي من مدعيه حين يقدمون نماذج متخلفة من الممارسات التي يرفضها الإسلام، والمؤسف أن تسهم بعض القنوات الفضائية في التركيز على ما هو مثير بدل أن تهمله، فالإعلام صاحب رسالة واعية، وليس مجرد تتبع للأخبار الغريبة المثيرة حتى لو كانت هامشية، وقد بدا سخيفاً أن يتم تقزيم الفكر الإسلامي إلى تخوف من منع "المايوه البكيني" على شواطئ السياحة، ومن منع للمشاهد الجنسية في الأفلام السينمائية، وهذا التسخيف يتجاهل أن رسالة الإسلام أولاً هي تحقيق العدل ومنع الظلم والبغي والعدوان، وذاك هو ميزان التجربة، وليس تلك القضايا السخيفة التي لم تشغل الدولة الأموية الأقرب إلى صدر الإسلام، ولم تحجز حريات من شاء اللهو أو المتع، ومن يقرأ كتاب "الأغاني" للأصفهاني يجد من التفاصيل ما يدهشه عن حريات الناس، فالحكم الرشيد لا يجبر الناس على عقائد أو سلوك شخصي، ولكنه يحقق العدل، فإن أخفق دالت دولته، ولو أن المسلمين الأوائل انشغلوا بالقضايا التافهة أو الصغائر لما تمكنوا من تحقيق معجزة الفتوحات في بضع سنين.

وأسوأ ما في فوضى الفكر والثقافة في هوامش الديمقراطية الراهنة هو تلك الأفكار التي تسيء إلى علاقتنا بالغرب، بينما نحن بحاجة ماسة لبناء عقد جديد مع العالم كله، يحرص على تقديم صورة أمثل للحضور العربي بعد أن أعاد العالم احترامه للعرب وقد رأى في ثوراتهم حيوية جديرة بأن تستلهم.

نقلا عن (الاتحاد) الإماراتية

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل