المحتوى الرئيسى

ليس نعيا لإبراهيم أصلان ولكن محاولة لاكتشاف تجديده

02/09 09:15

لايغرق ساحر البيان ابراهيم أصلان في تجارب الصياغة اللغوية ولا تعنيه درر الأسلوب وتبدو لغته التلغرافية شديدة التقشف‏,‏ فإلي أي شيء إذن يرجع سحرها؟ربما لكونها محاولة جادة لخلق أشكال جديدة للوعي‏

. فالواقع الذي تقدمه قصصه ورواياته ليس مجموعة من أنماط سلوك متفق علي القالب الذي يضمها, بل هو عالم يعاد اكتشافه بدءا من السطح, وكأنه عالم بديل.

يحاول أصلان تنقية لغة العشيرة بأن يحررها مما يشوبها من كلشيهات مبتذلة هي تفسيرات شائعة لآثار المدركات الحسية المتوهجة التي يقدمها في كتاباته كما هي. فأصلان رسام التفاصيل المتمكن لا تحجب رؤيته أيديولجية جاهزة أو رسالة يلح عليها الوعي الرائج. وقاموسه شديد الكثافة والإيجاز يرفض ما أصاب القاموس العام من تورم. ومن السمات البارزة عند أصلان أن رواياته وقصصه لا تحاول الدخول إلي الأعماق النفسية للشخصيات كما لا تحاول تقديم هيكل شامل للواقع الاجتماعي, بل تعتمد علي مرئيات جزئية وعلي ألوان للوقائع وعلي مواقف رغم تكررها تثير مشاعر الاهتمام والشجن الرقيق والأمنية. وقد عقد كثير من النقاد مقارنة عن التماثل بين سرد أصلان ونموذج هيمنجواي في الأسلوب التلغرافي والاقتصار علي قمة جبل الجليد الطافية, والاعتماد علي ما حدث والإحساس بالمكان والواقعة وتصوير الحقيقة الملموسة وحدها للإيحاء بالمشاعر والمعني. ولكنه يعيد اكتشاف هذا النموذج بطريقته المصرية الخاصة وعلي أرضه. فهو لا يصور مثل هيمنجواي تجارب قصوي. فحرب أصلان ونبراته الهجائية تدور حول التجارب اليومية العادية وعلي تفاصيل أماكن العمل وعلي الرصيف. فأسماكه الصغيرة تختلف عن مصارعة ثيران لكنها لامعة كالفضة وقد يكون داخلها خاتم ثمين. فإبداع أصلان لا يزعم أن السطح وحده هو الجدير بالتتبع أو أنه لا وجود لجوهر وراء السطح, بل كثيرا ما تومئ التفاصيل إلي أعماق تناقضات أو أمنيات أو طبائع غير مرئية.

وهناك نقد جاد( عند د. صبري حافظ) يربط بين أصلان وبين تقنية الوصف الشيي عند آلان روب جرييه إذ يصل إلي أنه يشبه تلك المدرسة في اعتبار الوضع الإنساني برمته هو وضع الإنسان المعزول في عالم من الأشياء والمجردات غير المترابطة. حقا إن أصلان يطعم حياديته الوصفية بلمسات تقترب من تلك المدرسة ولكننا نري أن الاغتراب في عالمه لا يصل إلي المدي الذي يصل إليه الاغتراب في عالمها. فأصلان لا يؤكد في قصصه ورواياته استعصاء تجارب العالم علي التفسير وهو يعمل فيها الحذف والاختزال بحيث لا يضيع انطباع الصورة. فالتفاصيل عنده,علي العكس منها عند المدرسة الشيئية, موحية. فهو يجتهد في رسم صورة للواقع يحسم فيها التناقض بين السطح والأعماق والجزئي والكلي والمباشر والمتصور بحيث يلتقي الطرفان في تكامل تلقائي داخل الانطباع المباشر للتلقي, وعالمه الخاص ليس الواقع الذي تقدمه صفحة الحوادث عن امبابة أو شيئا مجردا لا علاقة له بالزمن. إنه مغامرة تعبيرية تخلق لامبابة ذاكرة فنية لها منطقها المتميز وتبلور علاقة شائقة بين الأحداث والشخصيات. فهو ينزع الألفة عن أحداث وشخصيات عالمه التي يتميز بعضها بدرجة عالية من غرابة الأطوار ولكن الإيجاز والحذف إذا استمرا أديا إلي الصمت, وسرد أصلان ليس صامتا. إنه يحاول أن ينزع عن اللغة أدرانها وصولا إلي كل ما هو أساسي لحياتها وقوتها دون الوصول إلي بضع نقاط تختزل المنظر. وأصلان يقدم المدركات الحسية في توزيع دقيق للثغرات; للفجوات والحفر. فكل حدث مصور يبدو في الظاهر كأنه يحدث مستقلا رغم تضمين أحداث أخري كثيرة لا تلقي سوي الصمت. فيبدو تأثير الأحداث المسكوت عنها وكأنه يقع مباغتا لأنه احتفظ بنقائه الأصلي. فهناك فراغ ضخم ممتد وراء الحدث يتمثل في الابتعاد عن التعقيدات والمشاكل وفي التكتم عن الإفصاح كما لو كان السرد يقرر أن الناس يجب أن ينزعوا عنهم أوهامهم كما ينزع السرد عن اللغة أدرانها. إن أصلان يقف عند الحد الأدني من التوكيد فحسب ورغم اندهاشه الدائم من غرابة ما يقع; فهو لا يصل إلي لا أدرية.

لقد رفض أصلان ما هو شائع في القص من أن إنسان الطبقة الوسطي هو ممثل الإنسانية جمعاء وأن قيمه هي المقياس الوحيد للحكم, فقد تجاوز أدبه الشخصية الإنسانية المحدودة لأفراد تلك الطبقة ماضيا نحو تجارب رجال ونساء ينتمون إلي الطبقات الشعبية. وكانت قصصه القصيرة تتميز كل منها بطابع مزدوج, فهي تحكي حكايتين إحداهما في الصدارة علي حين تبني الثانية في تكتم وخفاء. وإن يكن عالمه من الممكن حتي للنظرة العابرة أن ترسم حدوده علي باطن الكف, يتألف من المقهي وحجرة في بيت وكشك السجائر مشبعة جميعا برائحة الملل والعرق والإخفاق.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل