المحتوى الرئيسى

مرة أخرى.. «قوة الأخلاق» وسحرها

01/23 10:03

بمناسبة سطور كتبتها فى هذه الزاوية الأسبوع الماضى، ركزت فيها على ما اعتبرته السبب الأهم ضمن حزمة أسباب الدوى الهائل الذى أحدثه إعلان الدكتور البرادعى انسحابه الاحتجاجى من لعبة «احتمال الترشح للرئاسة»، نشب بينى وزميل عزيز جدل حار وجاد وطويل جدا حول مسألة علاقة الأخلاق بالسياسة، فقد صارحنى الزميل مشكورا برأيه الذى مختصره أننى بالغت وعظمت كثيرا فى السطور المذكورة من أهمية البعد الأخلاقى فى المواقف السياسية، مع أن هذه الأخيرة مشدودة دائما للمصلحة (عامة أو حزبية أو خاصة) والمصالح بطبيعتها تقاس بمعايير موضوعية ومادية بحتة، ومن ثم فكل ما هو معنوى ونسبى بما فى ذلك الأخلاق «ethics» قليل الأهمية وضعيف التأثير فى الشأن السياسى عموما.

طبعا هذا اختصار مخل لرأى الزميل، غير أننى قد أعود يوما إلى تفاصيل الجدل المفيد والمقارعة الحامية التى دارت بينى وبينه حول هذا الموضوع، أما اليوم فإننى أهدى زميلى العزيز مع القراء قصة فيلم رائع شاهدته قبل أكثر من ربع القرن ضمن أسبوع لأهم أعمال السينما الروسية (السوفييتية وقتها) نظمته إحدى دور العرض القاهرية التى كانت متخصصة فى جلب هذه النوعية من الأفلام.

الفيلم حققه مخرج روسى مهم جدا (لا أتذكر اسمه الآن) فى بداية مشواره الفنى أى ثلاثينيات القرن الماضى، وقد عرفت بعد سنوات أنه اقتبس أحداثه من رواية شهيرة (لعملاق الأدب الفرنسى جى دى موباسان) اسمها «بول دى سويف» وهو نفسه اسم الفيلم.

الفيلم كما الرواية تدور أحداثهما فى مطلع سبعينيات القرن التاسع عشر عندما كان الألمان يحتلون أجزاء واسعة من فرنسا، بل تمكنوا من أسر نابليون الثالث، كاشفة (حسب الروائى الروسى العظيم مكسيم جوركى) عن وضاعة منظومة الأخلاق السائدة بين الطبقات العليا «على رغم مظاهر تأنقها وترفعها الكاذب»، وتبدأ مشاهد الفيلم بعربة تحمل تسعة مسافرين عبارة عن عائلتين من الأعيان وراهبتين، وإذ تمضى الرحلة بهدوء وفى أجواء تظللها حالة من الدعة والفخامة تستوقف العربة فجأة سيدة شابة سرعان ما نتعرف عليها ونفهم أنها فتاة من فتيات الليل الغلابة تدعى بول دى سويف.. تنقلب الحال فى العربة رأسا على عقب بعد انضمام هذه الزبونة الجديدة للركاب، الذين لا يخفون تأففهم واستنكارهم لوجودها بينهم، معبرين عن ذلك بالنظرات والتلميحات الوقحة، وحتى عندما تعرض الفتاة بطيبة قلب على رفاق الرحلة أن يشاطروها طعاما جلبته معها يصدونها بعجرفة وجليطة فجة.

يهبط الظلام على الطريق فتتوقف العربة ويبيت الجميع ليلتهم فى استراحة، ولكن فى الصباح عندما يتأهب الركاب لاستئناف الرحلة يبلغهم الضابط الألمانى قائد قوة الاحتلال المتمركزة فى المنطقة بأنه لن يسمح لهم بالتحرك ما لم توافق «دى سويف» على مطارحته الغرام.. فى البداية يظن الكل أن الأمر سهل فتلك هى صنعة الفتاة غير أنها تفاجئهم بالرفض القاطع «أنا مواطنة فرنسية، فكيف تطلبون منى أن ألبى دعوة عدو الوطن»، هكذا تصرخ الفتاة ملتاعة بعدما هجر السادة الأشراف فى غمضة عين موقفهم المتعالى المتأفف وراحوا يتوسلون إليها أن تنقذهم وتعمل فيهم معروفا وتقبل دعوة الضابط الألمانى لكى يرضى ويفرج عنهم ويدعهم يكملون الرحلة بسلام، «يا فتاتى هذه تضحية من أجل الوطن أيضا، ألسنا جزءا من شعب فرنسا العزيز عليك؟».. يقول أحدهم!!

تنهار مقاومة الفتاة المسكينة تحت الضغوط الهائلة والتوسلات الملحة وتذهب مع الضابط كالمساق إلى حبل المشنقة، ولما تعود كسيرة حزينة وتنطلق العربة على الطريق من جديد يصدمنا الأشراف بأنهم ليس فقط عادوا إلى سيرتهم الأولى فى الغطرسة ومعاملة ضحيتهم بازدراء، بل زادت وقاحتهم معها وبلغت بهم السفالة حد أنهم كادوا يعايرونها صراحة بأنها «متهتكة خائنة نامت مع عدو الوطن»!!!

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل