المحتوى الرئيسى

بغداد عاصمة تهجرها الكفاءات !بقلم:جمال محمد تقي

01/16 00:57

بغداد عاصمة تهجرها الكفاءات !

جمال محمد تقي

الانسان اهم من المكان ، فهو وحده من يمنحه الصفات كل الصفات ، لانه وحده من يستشعرها ويتآلف معها او يغيرها او يهجرها ليستعيدها فيه بعد ان يكون قد غار عليه وربما اغار عليه بحثا عن غار الحنين الذي لا يركبه مركب النسيان ، من اجل ان يكون المكان رديفا لانسان !

بغداد روح تكاثفت فيها الازمنة والامكنة والرهفة المزمنة ، بغداد ليست شقفة من الجنة يشقها نهر لا يرى غير الاسماء الاولى ، وكانه شريان ابهر ، كرخه بطين ايسر ورصافته بطين ايمن ، بغداد صرة تصرصر بها كل اسرار الرؤيا الاولى ومتن الرواية التالية ، نهر بغداد قد يغير مجراه من المنبع ، والمنبع مكان يعبث به من لم يرى بعد نهاية حكاية الماء الذي لا يعيشق الا مجراه .

اخطر من كل المشاكل المزمنة للماء والكهرباء والصرف الصحي ، والتشوه الذي تبثه اطنان الكتل الاسمنتية المتكلسة على تضاريس عاصمة الفراتين ، بهدف حماية دور واماكن عمل المسؤولين فيها ، ومن خطر اختفاء دور السينما التي كانت تعج بها بغداد ، وتهتك الحياة الطبيعية فيها والتي كانت تزخر بالنشاط الثقافي والادبي والفني والعلمي والسياحي ، وخطر التصحر والغبار والاشعاعات ، خطر تصحر الانسان فيها ، وتهتكه ، انه خطر افراغ بغداد من محبيها العارفين ، خطر هجرة الكفاءات التي يعول عليها عودة النهر الى مجراه !

يطردونهم بتعميم وتعويم الفطائس المستشرية في كل الزوايا والتكايا الحساسة ، باستشراء حالة "الفالصو" كماركة مسجلة لعصر بغدادي مظلم ، اغراق متعمد للاسواق والمحال والبنايات والساحات والمدارس والمستشفيات والصيدليات بالخدمات والبضائع الخربة والمقلدة والغير الصالحة للاستخدام البشري ، كادوية الفالصو وماركات الفالصو ومعلبات الفالصو والمراجع الفالصو، مثلها كمثل اي شيء اخر في العراق الجديد ، شعارات ويافطات وشهادات ومفوضيات وانتخابات ووو فالصو !

لا نأتي بجديد اذا قلنا ان اغلب عناصر الثقافة العراقية والاكاديمية المبدعة وقواها الحية كانت من اوائل ضحايا حصار العراق والحرب عليه وغزوه واحتلاله ، ولا نجافي الواقع اذا قلنا بان النكبة كانت عادلة بمقاسات مآساويتها على كل صنوف وتخصصات الثقافة والابداع والمعرفة العلمية والاكاديمية في العراق ، ماديا وبشريا ، فحالة البنى التحتية للمؤسسات الراعية للثقافة والفنون والابداع الاكاديمي كحالة الاواني المستطرقة ، جميعا تغرف من اناء واحد هو اناء الدولة الوطنية الجاذبة للكفاءات والساعية لتطويرها والاستثمار في رعاية نتاجاتها للارتقاء بمستوى التمدن العام للدولة والمجتمع ، وغذ سيرهما لاستكمال مهمات الانتقال من مرحلة دولة النخبة الى دولة المواطنة ، حيث تعدين الهويات الخاصة الى هويات عامة وبما يتلائم وشروط الحداثة القائمة .

في مدينة سويدية صغيرة " نيشوبنغ " لا يتجاوز تعداد سكانها حوالي الستين الف نسمة ، يوجد من بين عشرات العوائل العراقية فيها ، ثلاثة اطباء اسنان ، وطبيبين عامين ، ومهندسين معماريين ، ومهندس كيميائي ، و مهندس نفط ، وفني متخصص في الطاقة الذرية ، ومهندسة زراعية ، وطيار عسكري ، وثلاثة مدرسين بمختلف الاختصاصات ، وطبيب نفسي متمرس ، ومترجم انكليزي محلف ، واديب ، وممثل محترف ، ومصممة ازياء ، كل هؤلاء تركوا العراق مضطرين بعد عملية تحرير العراق عام 2003 !

خمنوا معي كم هو عدد الكفاءات العراقية المهاجرة والمهجرة والمجتثة من بين اكثر من ثلاثة ملايين عراقي غادروا العراق بعد احتلاله ، وبعد سيادة الفوضى غير الخلاقة فيه ؟

مجموعة ميرسر العالمية اصدرت تقرير عام 2011 عن المسوح السنوية التي تجريها بخصوص حالة عواصم العالم ، وجاء فيه ان بغداد هي اسوء عاصمة في العالم ، لثلاث اعوام متتالية ، وتحديدا في مجال السلامة الفردية والخدمات !

بغداد من حاضرة العالم وعاصمة للابداع فيه الى اسوء مكان للعيش فيه ، هذا ماورد في تقرير محايد لواقع معاش ، واقع ليس ملتبس وليس بعفوي وليس بموسمي ، لانه مكرر في يوميات ليس بغداد وحدها وانما العراق كله ومنذ احتلاله وحتى الان !

الاحتلال الامريكي يستبقي لحكم العراق خليط لا يتجانس الا في تغييب الوعي بالثقافة الوطنية العراقية وتشويهها على اقل تقدير ، بعد ان عمل خلال سنواته العجاف على تفكيك اللاصق الوطني في النسيج الاجتماعي الاقتصادي والاداري ، متعمدا تصيير هوية المكونات كواجهة تضاهي اي هوية اخرى ، استعدادا للمرحلة "البايدينية " مرحلة تفليق العراق نهائيا الى ثلاث كيانات ندية " كيان كردي وشيعي وسني " .

قادة احزاب العملية السياسية الامريكية في العراق يقدمون انفسهم كممثلين عن كتل بشرية لا ملامح لها غير ملامح الغرائز البدائية ، ويمثلون دور المدافعين عن مكوناتهم ، واغلب هؤلاء ينتمون الى مجاميع منسلخة ومتغربة عن بوتقة الصلصال الوطني العراقي حيث تزاوجت تطلعاتهم الوصولية ، والافتراضية مع مغذيات الجوار الاستقطابية ، ومع استقطابات المشروع الامريكي للشرق الاوسط الكبير ، في مرحلة معقدة واستثنائية شهدت تداخل الخنادق واحباطات مابعد نهاية الحرب الباردة ، وراحت هذه المجاميع تؤهل ذاتها كل مرة وتتلبس ما يجعلها تحت الطلب ، لتمثل ادوارا مدفوعة على مسرح الاحداث ، لقد انقلب بعضهم حتى على زوايا كانت مضيئة عندما كانت الموازين غير تلك القائمة الان .

شيوعيو الاحتلال مثلا وبعثييه ايضا وتلك القوى التي كانت محسوبة على التيار الاسلامي التحرري والليبرالي الوطني ، كل هؤلاء كانوا ضمن كورس مجلس الحكم البريمري ، وكانوا عونا لمعاول تخريب الدولة العراقية !

خذوا عينة الحزب الشيوعي العراقي ، تجدوها قد دخلت مجلس الحكم كاحد ممثلي الشيعة في العراق ، وذلك بعد ان استقل الحزب الشيوعي الكردستاني قطار القوميين الاكراد ، اما البعثيين السابقين من امثال علاوي وحسن العلوي ووفيق السامرائي ومشعان الجبوري وغيرهم فقد توزعوا بحسب الخانات المكوناتية التي تتيح لهم الانسجام مع المشروع الامريكي ، فعلاوي تحول الى ليبرالي معولم في تخابره وتحت الطلب ، خاصة وانه يمكن ان يؤدي ادوار التمثيل العام التي تسمح لقيام كيان تنظيمي يجمع كل الليبراليين الجدد ، الذين يصعب عليهم الالتحاق بالكيانات المكشوفة بطائفيتها وعنصريتها ، وذلك ليس حبا بتجميع القوى والعناصر العابرة بادوارها للطائفة والاثنية وانما ليكونوا بديلا مظللا عن قيام اي تنظيم سياسي وطني حقيقي جامع .

اما الاسلاميون ، فنجدهم كما في حزب الدعوة والحزب الاسلامي حزبين طائفيين حتى النخاع ، الاول بحكم قيادته للسلطة المركزية ، يعمل على تغليف طائفيته برتوش الحكم الذي يشمل الجميع والثاني بحكم مشاركته بالسلطة كاحد ممثلي السنة يحاول ان يبرر وجوده بمزيد من مقتضيات التحاصص ، اما الليبراليون القدامى والجدد فحدث ولا حرج ، من الجلبي الى مهدي الحافظ الى فخري كريم فنجدهم يراوحون بالتساير مع التيار بكليته طائفيا كان ام عنصريا ام بالتعامل المباشر مع اصحاب الشأن من الامريكان .

لقد استثنينا من هذه النماذج جماعات البرزاني والطالباني لانها غنية عن التعريف ، فهي مناوئة نظريا وعمليا لاي مشروع وطني عراقي ، انها سائرة على خطة خارطة طريق بايدن ، وهي راس الحربة في لتنفيذه ، انها تسعى وبأبتزاز قل نظيره لاقامة مشروعها الانعزالي !

لقد التحق بهؤلاء المتنفذين من الداخل طبالون ومثقفون انتهازيون ومدعون مشبعون بثقافة التشرنق الطائفي والعنصري المهجن ببرغماتية ارتزاقية لم يشهد لها مثيل في كل تاريخ العراق ، ومن الخارج التحق بهم كل من على شاكلتهم من المتكسبين ومن مزدوجي الجنسية الذين يجدون في عملهم داخل العراق فرصة ذهبية للاغتناء ومن ثم العودة للوطن البديل ، او من الذين يتشبثون بما هم عليه لان فقدان ما اغتنموه لا يعوض ، فاغلبهم بلا كفاءات علمية او ثقافية او اكاديمية ، وما يسود من مظاهر تزوير الشهادات الدراسية بين المسؤولين في عراق اليوم شاهد فاقع على ما نقول .

هل يعقل ان يكون اتحاد ادباء العراق مثلا عبارة عن ، كدس من الخردة الذي يتسير بمراسيم الاميين ؟ هل يعقل ان لا يتجرأ حتى في الدفاع عن خصوصيته التي تفترض عبور حواجز الطوائف والاعراق ؟ هل يعقل تمسحه ليل نهار باسم الجواهري ، والاتحاد بوضعه الانتهازي ابعد ما يكون عنه وعن عالمه المفعم بمقارعات المحتلين والطائفيين ؟ لا يعقل كل ذلك الا اذا كان القائمين عليه من المنخرطين في المشروع الانحطاطي القائم ؟

هل يعقل ان تكون اكبر مؤسسة اعلامية داخل العراق من حيث التمويل " مؤسسة المدى لصاحبها فخري كريم مستشار جلال الطالباني " عبارة عن شركة متاجرة بكل مساحيق تجميل القبح العنصري والتقسيمي الساري في الجسد العراقي وبمقاولات متعددة الاطراف ، يسارا ويمينا ، لتعميم نهج فساد الذمم ، والتحوط من اي يقضة جذرية بين المثقفين العراقيين الحقيقيين والذين لا صوت لهم بين الاصوات المسموعة الان ؟

لقد جندت هذه المؤسسة اسماء كانت يسارية وكان لها اسهامات في النضال الثقافي الوطني والديمقراطي ومسختهم كما مسخ الاحتلال شعارات الحرية والتعددية والديمقراطية وغيرها من الاهداف الجميلة التي كان يتوق لها كل عراقي متعطش للتغيير الجذري الذي تصنعه الشعوب بايديها وليس محتليها !

هل يعقل ان يجتث خيرة اساتذة وعلماء الجامعات العراقية ليحل محلهم اللصوص والنصابون ومزوري الشهادات العلمية والمتخلفون من ذوي العاهات الطائفية والعرقية ؟

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل