المحتوى الرئيسى

عذاب طفل صغير

01/12 09:55

من الحكايات الدالة التى تروى عن دنيا العمالة الوافدة فى الخليج أن رجلا اصطحب ابنه فى الإجازة إلى موطنه الذى غاب عنه لسنوات، وفى أثناء استماع الولد الصغير إلى خطاب من أحد الساسة بالتليفزيون لفت انتباهه قول السياسى: ويجب على كل مواطن أن يقوم بكذا وكذا وكذا… فما كان منه إلا أن مضى إلى أبيه متسائلا: «أبى.. هل يوجد هنا أيضا مواطنون؟» (كان سبب السؤال أن الولد يظن أن كلمة «مواطن» تعنى خليجيا من أهل البلد الذى يعمل به أبوه ويعيشون معه فيه). أجابه الأب مدهوشا: «طبعا يا بنى، كلنا هنا مواطنون». فتعجب الولد وظن أن والده يضاحكه.. واحتاج الأب إلى شرح طويل من أجل إقناع ولده بأن كلمة مواطن لا تعنى جنسا بعينه أو فئة معينة من البشر كما صور له عقله الصغير، لكن تنطبق على كل أبناء الوطن الواحد الذين يعيشون فى بلدهم.

طبعا من السهل إدراك الخلط الذى ملأ عقلية الطفل بعد إجابة والده التى عدّها غامضة، بسبب أن الطفل قد وُلد فى ذلك البلد العربى ونشأ وتربى ودخل المدرسة وكوّن صداقات وليس فى ذهنه ذكريات عن مكان آخر.. صحيح هو يسمع الكبار يتحدثون عن أماكن لا يعرفها وأهل لم يرهم فى بلد آخر، لكن هذا مجرد كلام، أما الحقيقة الماثلة بوضوح أمام عينيه فهى أنه يعيش هنا وينتمى إلى هنا، لكنه مع ذلك ليس مواطنا، وقد عرف هذه الحقيقة من أقرانه فى المدرسة، وقد عرف أيضا أن كلمة «مواطن» تعنى إنسانا صاحب امتيازات لا يحصل عليها هو أو أبوه.. يكفى أن الطفل المواطن لا يكلّف أباه مصروفات مدرسية كما يفعل هو، ولقد كان أحيانا يكره نفسه لإحساسه بأنه أخطأ فى حق عائلته، وقد كان يمكنهم لو كانوا محظوظين أن ينجبوا -بدلا منه- «مواطنا» سعيدا لا يكلّفهم من أعباء الحياة رهقًا!

وهو تربى طوال سنوات حياته القليلة على خطاب سياسى يتحدث عن سياسة التوطين وعن أهمية التوطين وعن الخطط المستقبلية التى توضع من أجل بلوغ هذا الهدف العظيم. ولمس أيضا أن حرارة الخطاب عن التوطين وجمال التوطين تزداد يوما بعد يوم.. وعندما استفسر من الكبار عن معنى هذه الكلمة التى تملأ الصحف والمجالس ونشرات الأخبار عرف أن هذه الكلمة تعنى فى المحصلة النهائية خروجه من المدرسة ومن المنزل وابتعاده عن أصدقائه وذهابه هو وأسرته إلى مكان آخر لا يعرفه وليس له فيه رفقاء. صحيح هو لا يحس أن هذا الهدف يتحقق لأنه يلمس زيادة عدد الوافدين كل يوم، فضلا عن أن الكبار هدّؤوا من روعه وطمأنوه بأن هذا الشعار مرفوع منذ عشرات السنين، لكنه للاستهلاك فقط لا للتطبيق.. لكنه مع هذا لم يطمئن ولا هدأت مخاوفه خصوصا وهو يلمس الإحساس بالمرارة لدى أبيه وأصدقائه كلما تردد هذا الشعار. ووقر فى ظنه أنه ليس شيئا طيبا بالمرة أن يعيش المرء وسط أناس يحبهم ويخلص لهم، ومع ذلك تكون أغلى أمانيهم أن يتخلصوا منه هو وأسرته معتبرين هذا هدفا يتعين أن لا يغفلوا عنه طوال الوقت!

مسكين الطفل الصغير.. يعيش مشاعر اللاجئ الذى لا وطن له مع أنه ليس فلسطينيا قامت إسرائيل باغتصاب أرضه وتشريده فى المنافى.. وهو مُحِقٌّ فى هواجسه، لكن مشكلته الحقيقية أن من أسباب حالة الشتات التى يعيشها رغم وجود وطن له أن اللصوص قد سرقوا وطنه بعد أن جرّفوه ونهبوا خيره وجعلوا منه مكانا لا يصلح للحياة، وعندما يكبر سيدرك أنه لا يحق له أن يلوم أصحاب الأوطان الأخرى حتى لو كانوا جارحين لا يراعون مشاعره ولا تقلقهم عذاباته، لدرجة أن يكون الهدف الأسمى الذى ينطلقون نحوه والذى يضعون الخطط للوصول إليه هو أن يصحوا ذات يوم فلا يجدوه بينهم.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل