المحتوى الرئيسى

الأسبست في قطاع غزة خطر مميت يهدد حياة الآلاف بقلم: خالد عودة

12/30 23:19

تبدو صبحية سلامة وهي تقف في أحد ممرات مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة أكبر من عمرها بعشر سنين و كأن أحزان هذا العالم قد جمعت في قلب هذه السيدة التي تبلغ من العمر سبعة وثلاثين عاما كيف لا؟ وهي أم لثمانية أطفال والدهم نايف سلامة يرقد في قسم الأورام في مجمع الشفاء الطبي في قطاع غزة بعد إثبات التشخيص الطبي أنه مصاب بسرطان الرئة.

تقول صبحية باكية بصوت متقطع: " أنا مش عارفة من وين إجاه هل المرض مع أنو عمره ماحط سيجاره بتمه ولا شيشة ...أنا سمعت كتير انو هل المرض وبالرئة بالذات صعب إنه يطيب منه البني آدم بس الله على كل شيء قدير الله يشفيه" ويستمر البكاء المرير...

تعيش عائلة نايف في مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين في بيت مكون من غرفتين مسقوفتين بألواح أسبستية حالها كحال آلاف الأسر اللاجئة في مخيمات القطاع وقد شخصت حالة زوجها منذ أكثر من شهرين...

نايف وفق قول زوجته عاطل عن العمل حاليا لكنه قبل فرض الحصار على قطاع غزة كان يعمل خياطا ثم فقد عمله نتيجة إغلاق مصنع الخياطة و أضافت أنه كان يعمل قبل زواجهما مع قريب له في قص وتشكيل ألواح الأسبست لسقف المنازل لكنه تركها لأنها شاقة، وكانت لديه خبرة في الخياطة أخذها من والدته.

المسكينة صبحية لم تدرك أبدا أن الأسبست قد يكون السبب الرئيس في إصابة زوجها.

أحد الأطباء في القسم همس في أذني_ وهو بالمناسبة يعرف جيدا مخاطر الأسبست القاتلة_ قائلا : " لم أخبر هذه السيدة ولن أخبرها عن شكوكنا في أن الأسبست هو سبب مرض زوجها، فماذا عساها أن تفعل هل ستتمكن من إزالة سقف بيتها الأسبستي؟ طبعا لا ، وبالتالي ستعيش في جحيم خوفا على حياة أطفالها و حياتها"!

قطاع غزة الصغير بمساحته و الكبير بهمومه والمحاصر منذ أكثر من خمس سنين والذي يعيش هذه الأيام الذكرى الثالثة للحرب القاسية التي شنتها إسرائيل عليه مستخدمة أقوى أنواع الأسلحة يبدو أنه معرض لخطر مميت إن لم يتم تدارك الأمر .

هذا الخطر المميت قادم من الأسبست الذي ثبت بشكل قطعي أنه مسبب لأشد أنواع سرطان الرئة فتكا، ويكفي لكي تعرف حجم استخدام الأسبست في قطاع غزة أن تصعد إلى الطابق الأخير في إحدى البنايات المرتفعة المحيطة بمخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين الذي يعد من أكثر بقاع العالم اكتظاظا وتنظر إلى بيوته الكثيرة المتلاصقة و البائسة والمسقوفة بألواح الأسبست ، و حتى من تحسن حاله في هذا المخيم الفقير و قام بسقف بيته بالحديد والإسمنت لا يفرط أبدا بألواحه الأسبستية فهو يقوم بتخزينها إما على السقف الجديد فربما يحتاجها يوما ما أو يقوم برصها أمام منزله حتى يجد لها مكانا أو مشتريا وقد يستمر الأمر أشهرا وخلال هذه الأشهر قد يعبث بها كثيرون أغلبهم من الأطفال الذين قد يقومون بتكسير أجزاء منها لوضعها في نار يشعلونها لكي تطرب آذانهم بصوت الطقطقة الناتج عن احتراقها وترتسم على شفاههم ابتسامات عريضة فهم مساكين ولا يعرفون شيئا عن أي مرض خبيث قد يصيبهم جراء استنشاقهم لغبار الأسبست . الأطفال ليسوا وحدهم من يجهلون هذا الأمر بل إن أكثر الناس في القطاع لا يعلمون ، وكانت مفاجأتي كبيرة للغاية عندما وجدت إعلانا على موقع الكتروني شهير عنوانه :( ثلاثون لوح أسبست للبيع مجرب وممتاز) ولقد تم تدوين رقم جوال في الإعلان فقمت بالاتصال على هذا الرقم فرد علي شاب و أخبرني أنه سيبني بيتا جديدا سقفه إسمنتي لذلك عرض ألواحه الأسبستية للبيع وقد ازداد حجم مفاجأتي عندما أخبرني أنه طالب في الدراسات العليا ويلقي محاضرات في بعض الكليات كما أن لديه فكرة عن خطر الأسبست لكنه استدرك قائلا إن هنالك أنواعا جيدة مقللا من خطورتها ! قررت بعد انتهت مكالمتي مع هذا الشاب أن أكتب على محرك البحث الجوجل عبارة ( أسبست للبيع) فوجدت أكثر من إعلان متعلق ببيع ألواح أسبستية أو بيوت مسقوفة الأسبست، وللعلم فإن المادة (10) من قانون البيئة الفلسطيني تلزم جميع الجهات أو الأفراد عند القيام بأعمال الحفر أو البناء أو الهدم أو التعدين أو نقل ما ينتج عن ذلك من مخلفات أو أتربة باتخاذ الاحتياطات اللازمة للتخزين أو النقل الآمن لها لمنع أي تلوث بيئي .

كما أن المادة (12) من نفس القانون تقول بشكل واضح : "لا يجوز لأي شخص أن يقوم بتصنيع أو تخزين أو توزيع أو استعمال أو معالجة أو التخلص من أية مواد أو نفايات خطرة سائلة كانت أو صلبة أو غازية إلا وفقاً للأنظمة والتعليمات التي تحددها الوزارة بالتنسيق مع الجهات المختصة." ، وحدد القانون عقوبات للمخالفين يبلغ حدها الأقصى ثلاثة آلاف دينار أردني و الحبس لمدة لا تزيد عن ثلاث سنوات أو بإحدى هاتين العقوبتين.

استخدام الأسبست في قطاع غزة لا يقتصر فقط على أسقف البيوت في مخيمات اللجوء بل إن هنالك بيوتا في قلب مدنه مسقوفة بالأسبست ليس هذا فحسب... هنالك بعض الجامعات التي تضم كليات علمية عتيدة تقيم مؤتمرات كثيرة ويعمل فيها أكاديميون أكفاء فيها قاعات دراسية ومظلات للوقاية من الشمس مسقوفة بألواح الأسبست ! ولكم أن تتخيلوا كمية غبار الأسبست التي انتشرت جراء تشقق وتحطم العديد من الألواح الأسبستية أثناء الحرب على قطاع غزة أواخر عام 2008 وأوائل عام 2009 فمنطقة الجامعات تعرضت لقصف عنيف ، فيا ترى كم يبلغ عدد الطلاب والطالبات الذين يحملون في رئاتهم غبار الأسبست الفتاك كما يحملون أيضا أحلاما وردية لمستقبل مشرق!

من الأمور المثيرة للصدمة أيضا وجود مخازن أغذية تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ( أنروا ) مسقوفة بالأسبست .

الأمر لا يقف عند هذا الحد فبعض المناطق في قطاع غزة مرتبطة بشبكة مياه أنابيبها مصنوعة من الأسبست وعند تلف هذه الأنابيب و إزالتها يقوم بعضهم باستغلالها كسياج لحظيرة أو قطعة أرض صغيرة تحيط بمنزله لكي يوفر لها الحماية وهو لا يدري أنه أحضر لها ويلا!

الدكتور زياد الخزندار مدير مستشفى الباطنية واستشاري الأورام في مجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة قال خلال حواري معه إن سرطان الرئة في قطاع غزة يحتل المرتبة الثانية بعد سرطان الثدي وتبلغ نسبته من بين أنواع السرطان التي يتم تشخيصها حوالي 20% وهي نسبة تعد كبيرة بلا شك ، و أضاف أن علاج السرطان في القطاع يعاني كثيرا جراء الحصار فهنالك طرق علاجية و أدوية للسرطان غير متوفرة مما يجعلنا نقوم بتحويل المريض للعلاج بالخارج وهذا ليس بالأمر السهل أيضا.

وأشار إلى أن الأسبست يقف في مقدمة مسببات الأمراض السرطانية التي تصيب الرئتين بالذات بالإضافة إلى أشياء أخرى كالتدخين والمبيدات الحشرية وهذا ما أكدته منظمة الصحة العالمية حيث وضعت الأسبست في مقدمة العوامل الكيميائية المسرطنة قبل التبغ.

ووجه الدكتور الخزندار النصيحة للمواطنين بشكل عام و وللذين تعرضوا لغبار الأسبست بشكل خاص بأن يقوموا بفحوصات دورية فالكشف المبكر عن المرض يساهم بشكل كبير في علاجه.

من جانبها حذرت الدكتورة أنسام صوالحة عميدة كلية الصيدلة في جامعة النجاح الوطنية ومديرة مركز السموم والمعلومات الدوائية في ذات الجامعة بشدة من خطورة الأسبست وقالت إنه من أخطر المواد على سطح الكرة الأرضية ولقد أصبح محظورا في العديد من دول العالم و أضافت أن هنالك نظرية مدعمة في علم السموم تقول إن التعرض ولو لمرة واحدة لغبار الأسبست قد يكون كفيلا لنشوء السرطان ، وطالبت السلطة الوطنية الفلسطينية إلى سن قوانين صريحة وواضحة لمنع استيراد واستخدام الأسبست في الأراضي الفلسطينية ودعتها إلى التخلص من الأسبست الموجود ومساعدة المواطنين لاستبداله بمواد أخرى آمنة لكي تحافظ على صحتهم سليمة ، وتابعت أنه مهما كلف هذا الأمر فإنه سيكون أقل ثمنا مقارنة بتكاليف العلاج وفقدان الإنسان.

و أردفت قائلة:" إنني أدرك أن هنالك قوانين يمكن أن نعدها مساهمة في مكافحة التلوث البيئي لكنها غير مطبقة وغير كافية أبدا ولا يوجد مراقبة أو إشراف"

وسردت الدكتورة صوالحة قصة حدثت أمامها أثناء دراستها في جامعة تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية حيث تم العثور على لوح أسبست صغير في قبو مبنى قديم تابع للجامعة فقامت الجهات المختصة بإرسال فريق مجهز بملابس خاصة وأقنعة الأكسجين وكأن الأمر متعلق بأشد أنواع الأوبئة فتكا ومن ثم وضعوه في سيارة خاصة تشبه سيارة نقل المتفجرات ثم قاموا بطريقة ما بسحب الهواء من هذا المبنى خوفا من انتشار غبار الأسبست فيه وجددوا الهواء في كل المبنى وأغلقوه يومين ، ورجت صوالحة أن يقتدي المسؤولون في أراضينا بتلك الجهات.

على خط مواز نبه المحاضر في جامعة فلسطين عائد أيوب والحاصل على الدكتوراة في الهندسة البيئية من فرنسا إلى خطورة عدم التخلص السليم من الأسبست مذكرا بتدهور أوضاع مكبات النفايات في القطاع وعدم وجود أية خطة تؤهل للتخلص من الأسبست بطريقة لا تسبب الضرر للإنسان والبيئة كما عبر عن استغرابه الشديد بسبب وجود مواطنين يعملون حتى اللحظة في منشآت تتعامل مع الأسبست رغم إثبات مضاره المهلكة!.

ولدى مراجعتي لقانون الصحة الفلسطيني وجدت أن المادة (31) تقول : "يحظر مزاولة أي عمل أو حرفة لها أثر على الصحة العامة أو صحة البيئة، إلا بعد الحصول على موافقة مكتوبة من الوزارة."

وهنا كان لا بد أن أتوجه إلى سلطة جودة البيئة في قطاع غزة لأعرف نشاطاتها في هذا الموضوع وما هي خططها لتجنيب الإنسان والبيئة تلك الأخطار ولقد وجدت لديها معلومات عميقة عن خطورة الأسبست إلا أنه وفي المقابل لم أجد أي برنامج معد وواضح لتخليص القطاع من الأسبست ، فمدير التخطيط العام والسياسات في سلطة جودة البيئة بهاء الآغا قال إن قلة الموارد تقف وراء عدم القيام ببرامج وخطوات لتخليص القطاع من الأسبست ، وقال عندما سألته هل بإمكانكم السعي لاستصدار قانون صريح وواضح لا يقبل التأويل يحظر و يمنع استخدام الأسبست بتاتا قال إن ذلك لأمر يجب الوقوف عنده فهو أمر مهم جدا , ثم أضاف: "أنا أنصح _من خلالكم أنتم يا من تعملون في وسائل الإعلام المختلفة_ المواطنين بأن يكونوا حذرين عندما يتعاملون مع الأسبست!".

سمير زقوت ناشط حقوقي يعمل في مركز الميزان لحقوق الإنسان في قطاع قال أثناء حديثي معه إن قدرة أية منظمة ناشطة في مجال حقوق الإنسان في قطاع غزة لا يمكن أن تصل إلى مرحلة تتمكن خلالها من تبني جميع القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان فإمكانياتها محدودة لكننا على أية حال نسعى لتسليط الضوء على قضايا الصحة والبيئة و أعتقد أن المسؤولين بإمكانهم أن يفعلوا أمورا إيجابية في هذه القضايا وهنالك مشكلات صحية و بيئية حلولها سهلة و متاحة وبالإمكان تمويلها ووضع خطط قوية لمعالجتها لكن التقصير هو سيد الموقف للأسف.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل