المحتوى الرئيسى

المشكلة مازالت تنتظر الحلول: شهادات أطفال شوارع «التحرير»

12/29 22:29

رمضان : "خايف أموت في الشارع"!. محمود: "أنا مخنوق هنا.. هاروح التحرير علشان نصبة الشاى". عبد الحميد: "كنا بنموت و ما حدش حاسس بينا". مسئول بإحدى الجمعيات: "يجب التعامل معهم كضحايا.. وليس كمتشردين وبلطجية".

وكأن المجتمع اكتشفهم فجأة فى الأحداث الأخيرة، بعد أن تداول الإعلام بعض الصور لأطفال يلقون الحجارة و"المولوتوف" فى أحداث مجلس الوزراء، وبعد ظهور فيديوهات تتضمن اعترافات صغار تم استغلالهم بأشكال مختلفة.

بين صورمشوهة عن حقيقتهم، تلقى كالعادة بأصابع الاتهام نحوهم، ومبادرات لمساعدتهم وإنقاذهم من بؤر الاستغلال والإفساد فى مجتمع طالما لفظهم وقسا عليهم، تظل قضية "أطفال الشوارع" فى ذمة مجتمع ما زال يلفظ الكثيرين منهم، ولا يقدم حلولا حقيقية لحمايتهم وتأهيلهم أولتجفيف منابعهم.


«يالا يا ولاد علشان تروحوا تاكلوا وتستحموا وتلبسوا هدوم جديدة،».. دعوة تبدوغريبة فى وسط ميدان التحرير تقابلها أسئلة من بعض الموجودين "انتوا واخدينهم على فين؟" فى حين تنتظر سيارة ميكروباص بالجوار ليستقلها الأطفال.

النداء يوجهه بعض الشباب للأطفال الذين يستجيب بعضهم ويصعد للسيارة، بينما يحاول البعض الآخر التهرب خوفا من الحبس فى الجمعية، أو رغبة فى الاستمرار بالميدان «علشان أشوف حالى»، وهو رزقه إما متسول أو وبائع للشاى أو الأعلام وتى شيرتات الثورة، فى حين قرر آخرون مثل محمود، الذهاب للحصول على الطعام والملابس ثم يعود مرة أخرى إلى الميدان بعد أن عرف من زملائه أن مشرفى الجمعية لن يمنعوه من الخروج إذا أراد.

مشهد استوقفنا حين ذهبنا للميدان لمعرفة الجديد عن أحوال هؤلاء الصغار الذين نسمع كل يوم تصريحات رسمية عن ضرورة حمايتهم وعدم الزج بهم فى السياسة، بالاضافة إلى كم كبير من الإدانات والاستنكارات لاستغلالهم وحين سألنا الشباب عما يحدث، قال علاء رشاد، إنه وصديقه ماهر وبعض شباب الميدان يقومون بتوصيل الصغار إلى مركز استقبال أطفال الشارع فى قرية الأمل بمنطقة السيدة زينب، ضمن إحدى المبادرات التى يقوم بها الشباب فى محاولات تبدو حتى الآن فردية لإنقاذ الصغاروحمايتهم، فبعد أن أقام لهم البعض خيمة وقدم لهم الأطعمة والمشروبات يظل استمرار وجودهم فى الشارع خطرا يهدد بالمزيد من الانتهاكات والاستغلال.


وقص علاء علينا أثناء الطريق، محاولات بعض الثوار مثل عم «وليد» و«هانى» و«أبلة غادة» مساعدة هؤلاء الصغار بإقامة خيام وتوفير ملابس وأطعمة، فى حين علمنا أن هناك مبادرات من البعض الآخر لضم بعض الأطفال إلى أسرهم فى حالة مناسبة الظروف.

وفى مقرالجمعية الذى يبدو شديد التواضع بإمكاناته، يحاول الجميع من الإخصائيين وحتى المدير التعامل مع هذا العدد المفاجئ من الصغار الذى يفوق قدرة المكان وطبيعته كمركز استقبال للصغار يقومون فيه بالاستحمام والحصول على بعض الأطعمة وممارسة الأنشطة لكنه ليس مقر إقامة كما أوضح إسماعيل عبد العزيز، مدير المركز.

يروى عصام زكى مشهد اليوم السابقن حين أتى عدد كبيرمن أطفال الميدان وقاموا بتكسير قاعة الطعام وحدثت الكثير من المشاجرات، ولكن حاول الإخصائيون التعامل معهم وتهديد القادة منهم بأن من لم يحترم المكان لن يكون مقبولا فيه ليخرج القليل منهم، ويبقى الكثيرون باحثين عن بعض الأمان والملابس والأطعمة.

يوسف، محمود، بكار، رمضان وشيكابالا، والكثيرون غيرهم، صغار ألقت بهم ظروفهم المختلفة من عنف واستغلال أسرى وانتهاكات بسبب التفكك والفقر وعشوائية الحياة التى يعانى منها ملايين من الأسر فى مصر، إلى الشارع واجتمعوا فى الميدان.

وأصبح التحرير طوال الشهور الماضية، مأوى شديد الجاذبية لأطفال لا تقل قسوة حياتهم عن قسوة أم منحت بضعة قروش للإخصائى الذى أتى ليعيد لها صغيرها ذا الخمس سنوات، الذى فر إلى الشارع، قائلة له "اشترى بها جركن بنزين وولع فيه".
الأم كانت حاملا، وتحمل طفلا بين ذراعيها، ولديها خمسة آخرون بالداخل، هان عليها ابنها لتلقيه مثل الآلاف غيره إلى عالم من الغموض والعنف والانتهاكات فى الشارع.


واندمج الكثير من الصغار بين الثوار وتظللوا بحماية الميدان، وشعروا فى كثير من الأحيان بأن من واجبهم حمايته و الدفاع عنه. بل كشف تجمع الكثير منهم فى الميدان عن حجم الظاهرة ونموها و ضرورة اهتمام المجتمع بها، توجد له مبرراته من وجهة نظرهم لكنه أيضا لا يخلو من الأخطار والعنف تجاههم ومحاولات الاستغلال، وفى تدافعهم للحديث عن تجربة الميدان والحياة التى تبدو مختلفة جدا لصغار لا تتعدى سنوات عمر أكبرهم الأربعة عشر عاما، تختلط الكلمات البسيطة بالتحليلات المهمة ورؤى الصغار بمنطق الكبار الذين أصقلتهم التجارب وفى بعض الأحيان الحقائق ببعض من الخيال.
وأثناء جلسة مع الإخصائيين بعد الاستحمام وارتداء الملابس الجديدة التى اشتراها لهم بعض شباب الميدان وبعض المتطوعين، تدفقت الكلمات لتعبر عن حالهم فى الشارع الذى تحول حتى على لسان الصغار إلى سياسة، «إحنا كنا بنموت كل يوم وما حدش حاسس بينا، هو ينفع يضربوا علينا قنابل مسيلة للدموع، إحنا كنا بنضربهم علشان بيضربونا» بهذه الكلمات بدأ رمضان الذى ترك أهله بسبب العنف والقسوة وإجباره على ترك المدرسة ليعمل نجارا.

ويحكى: "فى التحرير تعرفت على مصطفى، وكنا بندافع عن الميدان فى محمد محمود وبنضرب طوب لما يضربونا"، وبكثير من التأثر قال، لما صاحبى مصطفى مات جبت عشر أزايز مولوتوف واستخبيت وضربتهم بيهم، ليه صاحبى يموت حرام حرام؟ تساءل رمضان مرددا أغنية ارتجل كلماتها ولحنها :«مش عايز ابقى فى الشارع علشان اللى ح يروح هناك ح يموت ، صاحبى مات بالخراطيش، لو محدش معانا ح نبقى فى الشوارع، حرام يا دنيا حرام».
أما عبد الحميد، فقال «هناك ناس جت التحرير بعربيات هامر وحاولوا يدونا فلوس علشان نضرب مولوتوف بس احنا ما رضيناش»، لكن أحمد قال "أنا جبت قبل كده خرطوم وسحبت البنزين من العربيات وحاطيته فى أزايز أيام الثورة بس علشان البلطجيه دخلوا علينا المنطقة وكانوا عايزين يسرقونا، أما عبد الحميد فزعلان من قسوة رجال الشرطة العسكرية معه كما يقول، "ضربونى وكسروا نظارتى علشان بيقولوا إن إحنا كنا بنضربهم".
شهادات مختلفة على الأحداث من وجهة نظر صغار قست عليه الحياة، ووجدوا أنفسهم فى خضم أحداث سياسية وصدامات أمنية راح البعض منهم ضحيتها، فى حين تم استغلال البعض الآخرأو تشويهه، وهو ما يرفضه محمود قائلا: أنا بطلع استرزق فى التحرير واطوق عربيات وكل شويه الناس تيجى تشتمنا وتقولنا انتو اللى خربتوا البلد، بتاخدوا كام؟ دى ناس عايزة تشوه صورتنا وصورة الثورة، اللى بياخدوا فلوس دول البلطجية بتوع الشرطة لكن أنا هنا فى التحرير علشان عايز أعيش حر فى بلدى.


كلمات تبدو كبيرة على من هم فى مثل أعمارهم، لكن التجارب كثيرة وهو ما يؤكده أحمد كمال، مسئول وحدة الخدمات المتنقلة فى الجمعية الذى يروى قصة تعرضه ومن معه لهجوم شديد من بعض رواد المترو أثناء اصطحابه لبعض الأطفال من التحريرللمركز: "بعد أن صاح أحدهم قائلا هما دول اللى بيولعوا الميدان ، انتو اللى بتحرضوا العيال، اضربوهم انهالوا على و لم ينقذنى إلا وعى البعض بعد أن أخرجت لهم بطاقة هويتى و أكدت لهم أننى أحاول مساعدتهم".

و يضيف أحمد، أن قضية أطفال الشارع تحتاج إلى كثير من الوعى لدى المجتمع للتعامل معها وفهم ظروفهم كضحايا لا متشردين وبلطجية ومجرمين. فى حين يؤكد إسماعيل عبد العزيز، مدير المركز، أنه لا يمكن حل مشكلات هؤلاء الصغار بهذه الطريقة و تذكرهم فقط وقت حدوث أزمة والتحدث عنهم وعن مشكلاتهم وقتها ثم تركهم فى عالمهم شديد القسوة مرة أخرى حتى نفاجأ بالكارثة.

ورغم أن مشكلة أطفال الشارع، كما يقول إسماعيل، تناولها فيلم ليوسف وهبى إلا أن التعامل معها حتى الآن ما زال قاصرا فى مصر، عصام زكى وأمير إبراهيم، اثنان من الإخصائيين اللذن اضطرا للمبيت مع الأطفال القادمين من الميدان، لكنهما يؤكدان أن هؤلاء الصغار يحتاجون إلى دور للضيافة الدائمة. "فهنا العدد كبير ولا يوجد مكان يكفيهم كما أننا نضطر للسهر بجانبهم خشية من حالات الانتهاكات أوالاعتداءات الجنسية أو من تناول المخدرات. المسألة ليست سهلة خاصة أننا لا نعرفهم، ولا نستطيع ببساطة توجيه هذا العدد للالتزام بقواعد المركز، فنحن حين نظل هنا لشهور طويلة نتابع حالة من الحالات حتى نقرر الوقت المناسب لنقلها إلى دور الإيواء الدائم إذا تعذر إعادتها للأهل»، لكن يبدو أمير فرحا بسبب إعادة أحد أطفال التحريرفى اليوم السابق إلى أسرته بعد أن تم التفاهم مع والده وإقناعه بتغيير أسلوب معاملته معه، لكن هناك الكثيرين غيره، كما يقول ماهر سعد أحد الشباب المهتمين بالأطفال، إما لا يعرفون مكانا لأهلهم أو يريدون العودة لكنهم فى محافظات مثل المنوفية أوالفيوم والموضوع كما يقول ماهر مكلف وإحنا بنشتغل بإمكاناتنا البسيطة».
مشكلات كثيرة ومتعددة تواجه محاولات إنقاذ أطفال الميدان وغيرهم من الشارع. فالحاجة إلى دور إيواء جاذبة وإخصائيين مدربين هى خطوة مهمة، كما يقول أعضاء مركز استقبال جمعية الأمل التى تعد أقدم الجمعيات فى المجال، فجذب الأطفال من عالم الشارع الرحب ومن براثن القوادين ورؤساء العصابات ليس بالأمر السهل، وهو ما يؤكده عصام الإخصائى الذى هدده عمرو تفاحة، أحد قادة الشارع، بسيف لكى يخرج له أحد الصغار من الجمعية لأنه «تبعه».
ويقول إسماعيل عبد العزيز، يجب أن تطبق الدولة مشروع حماية هؤلاء الصغار وأن تقدم وتوفر لهم الخدمات والمشروعات التى يحتاجونه فعلا لاجتثاثهم من بيئة الشارع الجاذبة بسبب الحرية والجنس و الفلوس. و يتساءل لماذا لا نقوم من الأصل بعلاج أسباب فرارهم من الشارع وتحسين ظروف معيشتهم وتقديم خدمات جاذبة فى المدارس و الورش؟. وهو ما تتفق معه غادة جبر، أحد مسئولى جمعية صحبة خير باسطبل عنتر مؤكدة ضرورة عمل خطط محددة فى المناطق العشوائية والفقيرة لتوفير فرص أفضل للعمل والحياة لهؤلاء الصغار لتجفيف منابعهم. وتدخل أحمد كمال، قائلا إن هناك مشروعا لإنشاء شبكة للأطفال بلا مأوى. مشروعات وخطط ولجان أخرى كثيرة أعلن عنها المجلس القومى للطفولة والأمومة فى اجتماعات ومؤتمرات، لكن ما هى الحلول العملية كما تقول سهام إبراهيم، مسئول مؤسسة طفولتى لأطفال الشارع.
تصريحات رسمية ومؤتمرات تتحدث عنهم وجهود فردية تحاول إنقاذهم وحمايتهم لكن تظل المشكلة قائمة فى انتظار حلول فى الوقت الذى يمتلئ فيه الشارع بالمزيد من الصغار الفارين من قسوة الفقر والعنف وعشوائية المكان والسلوك.
فهل من منقذ؟ وهل يتدخل فضيلة المفتى على جمعة بعد أن صرح بمسئولية المجتمع عن هؤلاء الصغار لإيجاد حلول لحمايتهم لأن وجودهم فى مراكز استقبال مؤقتة ليس حلا خاصة بعد أن بدأ البعض منهم يتسرب من جديد ليعود مرة أخرى إلى الشارع لأنه الأكثر جذبا.


رابط دائم:

أهم أخبار حوادث

Comments

عاجل