المحتوى الرئيسى

الإغواء الأخير

12/28 10:43

مع اقتراب أعياد الكريسماس تمتلئ شاشات التليفزيون الغربية بالأفلام المأخوذة عن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، تماما كما يحدث عندنا فى المناسبات الدينية، الفارق أن عدد الأفلام الدينية فى السينما العربية قليل جدا، لا يتجاوز أصابع اليدين، كما أن موضوعاتها تدور داخل منطقة زمنية واحدة هى فترة ظهور الإسلام، لذلك تتكرر المشاهد، وتعاد جمل الحوار، وتتشابه تعبيرات الممثلين، ويكفى أن تشاهد فيلما واحدا منها حتى تحس أنك قد شاهدتها جميعا، وأجملها بالطبع هو الفيلم الأول والأقدم «ظهور الإسلام» المأخوذ عن كتاب «الوعد الحق» للدكتور طه حسين، وتعود قلة هذه الأفلام بالدرجة الأولى إلى كم المحظورات التى تواجه إخراج أى فيلم، فالشخصيات والرموز الدينية ممنوع ظهورها على الشاشة تماما، لا يمكن تجسيد أى من الأنبياء أو الصحابة أو آل البيت، ولكن الأمر يختلف مع الأفلام الدينية كما تقدمها السينما العالمية، فهناك كم هائل منها، ولا توجد محظورات وكل وجه قابل للظهور، لذلك فقد استطاعت هذه الأفلام أن تسرد قصة الخليقة منذ بدايتها، وأن تصور سيدنا آدم وحواء، والثعبان الذى زرع بذور الشر بينهما، ولا يوجد نبى من الأنبياء الذين تم ذكرهم فى العهد القديم إلا وقد صنع عنه أكثر من فيلم، أما أفلام عذابات المسيح وصلبه وانتشار المسيحية من بعده فهى عديدة ولم يتوقف إنتاجها حتى الآن، وقد شاهدنا منذ سنوات قليلة فيلم «عذابات المسيح» الذى أخرجه الممثل ميل جيبسون وآثار حنق اليهود، لأنه حملهم عبء جريمة الصلب التى يريدون التخلص منها، الشرط الوحيد الذى يضعه الفاتيكان لإنتاج هذه الأفلام أن الممثل الذى يقوم بدور المسيح يجب أن يكون وجها بكرا، لم يظهر على الشاشة قبل هذا الدور، وعليه أن يعتزل كل أنواع التمثيل بعد ذلك، فهو ممثل الدور الواحد الذى لا يتكرر..

ولكن الذى أثار دهشتى بحق هو رؤيتى فيلم «الإغواء الأخير للمسيح» وهو يعرض على شاشة التليفزيون كاملا دون قص أو حذف. بعد نحو ثلاثة وعشرين عاما من إنتاجه استطاع هذا الفيلم المثير للجدل أن يدخل البيوت ويعرض أمام جميع الأسر بما فيها الأطفال، صحيح أنه يعرض متأخرا بعد موعد النوم، ولكن ما يدرينا أن كل الأطفال قد ناموا. الفيلم مأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب اليونانى المشهور نيكولاس كازانتزاكس، مؤلف «زوربا اليونانى» و«الإخوة الأعداء» و«المسيح يصلب من جديد»، والعديد من الروايات التى جسدت أزمته الروحية، وبحثه الدائب عن يقين، ومن إخراج مارتن سيكورسيزى، أهم وأغزر المخرجين الأمريكيين وقد تم تكريمه مؤخرا عن فيلمه الجديد «هوجو»، ولكن «الإغراء الأخير» أثار ضجة هائلة عند صدوره فى عام 1988، وقبل أن يتم عرضه اتصل الفاتيكان بشركة «يونيفرسال» المنتجة وعرض عليها أن يدفع كل تكاليف الفيلم ويأخذها منها ليقوم بتدميره، ولكن الشركة رفضت، وعندما هبط الفيلم للأسواق تم منع عرضه فى العديد من الدول بما فيها مصر، وما زال عرضه ممنوعا حتى الآن، وحتى فى باريس مدينة النور والحرية، ألقيت القنابل الحارقة على السينما التى تعرضه واضطروا إلى رفعه منها، ولم يشهد عرضا جماهيريا منذ ذلك الحين، لذلك كان غريبا أن أراه وهو يعرض فى قناة عامة وغير مشفرة.

ويركز الفيلم على الجانب البشرى للمسيح، فهو فى الفيلم إنسان يشعر بالغضب والحنق والشهوة، ولكن ميزته أنه يتسامى فوق كل هذه الرغبات، يحمل رسالته كما يحمل صليبه ويمضى لنهايته بحثا عن الخلاص، ويؤكد الفيلم أن مولد المسيح هو نتاج زواج عادى بين السيدة مريم ويوسف النجار، أى أنه يعارض مقولة الحمل العذرى، وقبل أن تهبط الرسالة نرى المسيح وهو يعمل نجارا، ولكنه حانق، يشعر أن السماء قد تأخرت عليه أو تخلت عنه، لذا فقد تخصص فى صنع الصلبان، كلما ادعى واحد من بنى إسرائيل النبوة وجد الصليب فى انتظاره، ويكشف الفيلم أن علاقة المسيح بمريم المجدلية قديمة، فهى من أقاربه وكانت تربطهما علاقة غرامية فى طفولتهما، وهو يشعر بالذنب نحوها لأنه كان السبب فى إثارة شهوتها وتحولها إلى بائعة للهوى، فقد رقدا سويا عاريين وسط الأعشاب البرية، واستطاع هو أن يتمسك بطهارته بينما عجزت هى عن كبح جماح شهوتها، وعندما يزورها فى المبغى الذى تعمل به، يظل جالسا حتى ينصرف آخر الزبائن ويتحمل الإهانات التى توجهها إليه صاغرا، لكنه لا يتخلى عنها، ويتصدى للذين يحاولون رجمها قائلا: «من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر»، ومع توالى معجزات المسيح وتكاثر أتباعه، يشعر اليهود بخطره ويتربصون للإيقاع به، ويوغرون صدر الحاكم الرومانى فيقبض عليه ويأمر بصلبه. الأحداث نفسها التى تتكرر فى كل فيلم تقريبا، ولكنه فى لحظاته الأخيرة فوق الصليب. يتذكر فجأة العالم الذى تركه، والأشياء التى أرادها بقوة، رغبته الدفينة فى مضاجعة مريم المجدلية، وهكذا يعرض الفيلم مشهدا كاملا وساخنا لهذه المضاجعة المتخيلة، ولا تترك الصورة مجالا للخيال، وهذا هو المشهد الذى أثار كل الضجة وجعل الفيلم ملعونا من الجميع، فهو لم يكتف بعرض نقطة الضعف التى انتابت المسيح، ولكنه أصر على أن يجسدها، وقدم صورا للمخلص وهو عار فى فراش البغى، ولا أدرى كيف تخطى الفيلم كل هذه المحرمات، بل وصل إلى أعماق البيوت. إن قضية التناقض بين الطبيعة الإنسانية للمسيح «الناسوت» والطبيعة الإلهية «اللاهوت» قد شغلت الفكر المسيحى طويلا، وانعكس هذا الجدل فى الكثير من الأعمال الأدبية، ففى رواية «شفرة دافينشى» للكاتب دان براون، يكشف السر الذى أخفته الكنيسة الكاثوليكية طويلا، على حد زعمه بالطبع، فالمسيح ليس إنسانا فقط، ولكنه نجا من الموت على الصليب، واستطاع أن يتزوج مريم المجدلية وينجب منها أولادا، وما قضية البحث عن الكأس المقدسة التى شرب منها المسيح فى عشائه الأخير إلا تعبير رمزى عن هذا النسل الذى يعيش بيننا، ويرى المؤلف أن فرسان الهيكل الذين ما زالوا موجودين من أيام الحروب الصليبية هم المكلفون بحماية نسل المسيح من شرور العالم التى تحيق بهم. ولا تعتمد هذه الرواية على الخيال المطلق، فهى تستوحى العديد من الأخبار التى عبرت الزمن وتتحدث عن بقاء المسيح حيا بعد نزوله من على الصليب، وقد استطاع أتباعه أن يهربوا بجسده إلى مكان أمين، حيث تم تضميد جروحه، وبعد أن استعاد قوته حرصوا على أن يهرب بعيدا عن أرض فلسطين، وعن كل مكان يمكن أن يصل إليه الرومان، هرب إلى جبال كشمير المنيعة، حيث كانت توجد هناك قبيلة يهودية من بحر الخرز، ويقال إنها القبيلة اليهودية الثالثة عشرة التى تاهت فى الصحراء. القبيلة الضائعة التى هربت من مصر وضلت طريقها لأرض فلسطين، ولأن المسيح كان قد استوعب التجربة القاسية التى مرت به فلم يجاهر بتعاليمه، وفضل أن يعيش كإنسان عادى، وفى الوقت الذى كان العالم يتحول فيه إلى المسيحية كان المسيح قد تخلى عن مسيحيته، وكما ترى كل هذه مجرد حكايات.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل