المحتوى الرئيسى

الثورة ... والثوار ... والثيران بقلم:د.عادل بشير الصاري

12/25 19:27

الثورة ... والثوار... والثيران

من حق المواطن الليبي الذي تابع على مدى اثنتين وأربعين سنة أفعال الثائر الأممي معمر القذافي وأفعال عياله من رعاع اللجان الثورية أن يتساءل ببراءة ، ما الثورة ؟ .

هل الثورة في الميدان السياسي تعني حقا ـ كما يقول المنظرون لها والقائمون بها ـ التغيير الإيجابي لمختلف مناحي الحياة ؟ .

هل الثورة هي التقدم والتحضر والحرية والاستقلال والرخاء ؟ .

إننا لو أخذنا بهذا المعنى فإن القذافي لا يعد ثوريا ، بل هو رجعي موغل في رجعيته ، لأنه بسياساته الهوجاء أرجع ليبيا إلى قبل مرحلة الاستقلال 1951 م .

إننا لا يمكن أن نصف ما قام به القذافي على مدى سني حكمه العجاف بأنه ثورة أي تفدم وتغيير إيجابي ، فهو ردة ونكوص إلى الوراء ، وفوضى اتخذت لها طابعا رسميا ، فقد كان مهرِّجا سياسيا يمثِّل بامتياز على المسرح السياسي العربي والدولي .

أين الثورة التي طالما عرَّفها القذافي وعياله بأنها الحرية والعدالة والسعادة والازدهار الذي سيحيل ليبيا إلى فردوس أرضي ؟ .

هل الثورة في المصانع العاطلة والمشاريع الزراعية الكاسدة ، أم في المدارس والجامعات والمستشفيات والطرق المتهرئة ؟ .

هل الثورة في إحياء النعرات القبلية ، أم في شنق طلاب المدارس والجامعات ؟ أم في إلهاء شعب بكامله بالبحث عن ضرورات الحياة ؟ .

هل الثورة في الدعوة إلى مجتمع بقوم على نظام الكومونات والمقايضة والمناوبة الشعبية وباقي أنماط الحياة في عصور ما قبل التاريخ والعصور الوسطى ، أم في إلغاء تعليم اللغة الإنجليزية ، وإحراق الكتب والمكتبات ومحفوظات التسجيل العقاري ، وتكسير الآلات الموسيقية ؟ .

هل الثورة في الإمساك عن بناء مؤسسات الدولة العصرية ، أم في الإنفاق بسخاء على المنظمات الإرهابية والمجرمين والقتلة ؟ .

أين الثورة ، وماذا تعني هذه الثورة ؟ .

لا خلاف أن المفهوم العام لكلمة ( ثورة ) هو التقدم والتغيير والتطوير ، ويشمل جميع مجالات الحياة ، ولقد استفادت البشرية أيما استفادة بفعل الثورة الصناعية والزراعية والطبية والتكنولوجية والأدبية والفنية ، لكنها لم تستفد من معظم الثورات السياسية والانقلابات العسكرية سوى الفوضى والتدمير والخراب ، لذلك غدا مفهوم ( الثورة ) في المجال السياسي ذا دلالة سلبية ، بحيث إذا ذكرت كلمة ( ثورة وثوار ) يستحضر الذهن فورا صورة الثيران الهائجة المنفلتة من عقالها ومرابضها، وهي تحطم كل شيء يصادفها .

وهذه الدلالة السلبية لطالما جسدتها سلوكيات الثوار عندنا في ليبيا ، حيث غلب على سلوك رعاع اللجان الثورية التهريج والنزق والهيجان والإثارة والتطرف ، وهو سلوك تم رصده بالعين المجردة في الميادين العامة وهم يسحلون ويمثلون بجثث قتلاهم من معارضي القذافي ، وتم رصده أيضا في المهرجانات والمسيرات والمظاهرات ، فهم إذا خرجوا لها شرعوا في القفز والتصفيق والزعيق والصراخ بالأناشيد والهتافات والشعارات الرنانة ، وفي الرقص والتطبيل والتزمير ساعات حتى يغيب بعضهم عن وعيه .

وبعض من هذا التهريج الثوري استورده ثوار القذافي من ثوار عبد الناصر الذين شبَّه تجمعاتهم الكاتب التونسي حسين المغربي ، فقال : (( كأنها حلقات الذكر التقليدية التي كانت شائعة ، تدور في جو صاخب ، بين الاهتزاز والهدير ، وتمس كل مقترب من الحلقة بطائف من الهوس المأخوذ المرتعش ، وفي غمرة من ذلك يصبح جائزا دق الدبابيس وهرش الزجاج وبلع المسامير )) .

شاع استخدام كلمة ( ثورة ) خلال القرن الماضي في كتابات عدد من المفكرين القوميين واليساريين والشيوعيين مثل : ميشيل عفلق وسلامة موسى ولويس عوض وكلوفيس مقصود وانطوان سعادة ومنيف الرزاز ، فقد أعلن هؤلاء في كتاباتهم أن العالم العربي لكي يلحق بالغرب بحاجة ماسة إلى ثورة شاملة تكتسح مخلفات الماضي على غرار ما حدث في تركيا .

يقول الكاتب اللبناني جميل المعلوف (( ولا بد أن يعقب هذا الانقلاب السياسي الصغير ــ يقصد انقلاب مصطفى كمال أتاتورك على الخلافة الإسلاميةـ ثورة أدبية ضد المبادئ القديمة ، فيثور الابن على أبيه ، والمرأة على زوجها ، والخادم على سيده ، والرعية على كاهنها وشيخها ، ورجال الدين على كتبهم )) .

كذلك كان لجمال عبد الناصر وإعلامه دور كبير في انتشار كلمة ( ثورة ) على الألسنة وفي الإعلام المقروء والمسموع والمرئي ، فقد كان زعيما شعبيا يكثر من استخدامها في خطبه ليستميل بها أفئدة الجماهير المتعطشة للتغيير، ثم خلف من بعده القذافي ، فكان أسوأ خلف ، حيث توسع في استخدام الكلمة ، بحيث سمى ووصف بها أفعالا وأشياء كثيرة ، ومنذ انقلابه المشئوم سنة 1969 م ترددت في إذاعاته وصحفه مصطلحات من مثل : الإنسان الثوري ـ الفكر الثوري ـ المثقف الثوري ـ الفلاح الثوري ـ الطالب الثوري ـ الأدب الثوري ـ الإعلام الثوري ـ التحالف الثوري ـ الأخلاق الثورية ـ المناهج الثورية ـ الأنظمة الثورية ..

كما ترددت كلمة مقابلة لكلمة الثورة هي كلمة ( الرجعية ) ، وبدأ الليبيون يسمعون القذافي وأبواقه يعلنون سخطهم عن : الإنسان الرجعي ـ التحالف الرجعي ـ النظام الرجعي ـ السياسة الرجعية ـ الثقافة الرجعية .. إلخ .

غير أن للرئيس المصري الأسبق محمد نجيب مفهوما مغايرا للمعنى الشائع لكلمة ( ثورة ) ، فقد ذكر الأستاذ محمد حسنين هيكل أن الرئيس أصدر تعليماته إلى الصحفيين ورجال الإعلام بعدم استخدام كلمة ( ثورة ) في كتاباتهم والاستعاضة عنها بتسمية حركة الجيش المصري ، لأنها في نظره (( وحشة أوي وهتبهدل الدنيا وهتسبب فوضى وهتدمر الاستثمار الأجنبي في البلد )) .

ولا شك أن مفهوم محمد نجيب لكلمة ( ثورة ) يعد في حينه غريبا ، حيث كانت الدلالة السائدة في أذهان الناس أنها تعني تغيير نظام الحكم بوساطة الجيش، لأجل الخلاص والتحرر من سيطرة الأجنبي ومن الإقطاعيين والمستبدين ، ويبدو أن نجيبا كان يشير إلى سلسلة الفتن والاضطرابات والجرائم التي ارتكبها الثوار في كثير من دول أوروبا إبان القرن الماضي .

كذلك فإن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي حين قام بانقلابه الأبيض في السابع من نوفمبر 1987 م على الرئيس الحبيب بورقيبة آثر استخدام كلمة ( تغيير) ، ولم يستخدم قط كلمة ( ثورة ) ، والحق أن الأولى أكثر تهذيبا من الثانية ، وأقل استفزازا .

اعتقد أن كلمة ( ثورة ) لم تعد تصلح لأن تقع اسما أو وصفا لجميع أوجه النشاط الإنساني ، فإن تسمية أو وصف حركة من حركات الإصلاح السياسي أو الديني أو الاقتصادي أو الاجتماعي بالثورة يعد إساءة لها ، ولا أرى مكانا مناسبا لهذه الكلمة سوى انتفاضات الشعوب ضد الطغاة والجبابرة والمحتلين ، فمن المناسب جدا أن يُطلق ـ مثلا ـ على انتفاضة الشعب الفلسطيني ضد الصهاينة المحتلين بأنها ثورة ، لأن المعانى اللغوية للكلمة في هذا المقام مثل : الهيجان والغضب والتمرد والتطرف تكاد تكون مطابقة لمقتضى الحال ، لكن لا تكون كذلك إذا وصف بها برنامج حكومة أو حركة إصلاح ديني مثلا .

إن ما يجعل وقع كلمة ( ثورة ) ثقيلا على النفس وموجعا أشد الإيجاع هو جرائم الثوريين ـ وبخاصة العسكريين منهم ـ التي ارتكبوها في حق شعوبهم ، فهم قد فككوا وحدة الأمة باسم القومية العربية ، وخنقوا الحريات وأعدموا معارضيهم باسم الحفاظ على حرية الشعب ، ونشروا الفقر والحرمان والبؤس بين طبقات شعوبهم باسم المساواة والعدالة والاشتراكية ، ودمروا البنية الثقافية والخلقية للمجتمعات باسم محاربة الفكر الرجعي .

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل