المحتوى الرئيسى

أُفق التجريب القصصي في المغرب:نزق اللغة عند القاص أنيس الرافعي،بقلم د. عبد النور ادريس

12/23 02:41

أُفق التجريب القصصي في المغرب:

نزق اللغة عند القاص أنيس الرافعي

بقلم الدكتور عبد النور ادريس



■ تعتبر القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، شكلان من الأشكال الأدبية التي تثير الانتباه من حيث الثراء الكيفي والتنوع على المستوى الكمي، وبفضل انخراطهما المستمر في التجريب وعكسهما للحالة النفسية لكُتابها، وخلقهما لمستويات عالية على صعيد الرؤية والتقنية، حتى باتا من أكثر الأنواع الأدبية التي تستقطب اهتمام المبدعين والمتلقين على حد سواء، فكون القصة القصيرة المغربية في طور التجريب يعني أنها ما تزال في طور التأسيس.

إن القصة القصيرة تتميز على الرواية بما يخلقه التكثيف والترميز من إشباعات دلالية لدى المتلقي، وهي تشاكس المعاني عبر فضاءات سردية متعددة كالأمكنة والأزمنة والأحداث والأشخاص، وما تنطوي عليه من أبعاد درامية مشحونة بالتوتر والقلق. ولم تحز القصة القصيرة هذه المكانة إلا عندما اقترن حكيها بالوعي الحاد الذي ينخرط فيه الإنسان احتجاجا على واقع سريع التغير، تخترقه أزمات حادة في شكله ومضمونه، كما يعود الاهتمام بها لما تتميز به من إيقاع يتماشى وسرعة الإيقاع في الحياة العادية والذي نعتبره من أكثر الإيقاعات انسجاما مع طبيعة العصر السريعة، وتمثيل شخصياتها للواقع المعيش كما المتخيل، فالشخصيات الإنسانية عليها أن تتحرك على صفحات القصة سواء استمد القاص موضوعه من التجارب الحياتية المعيشة، أو تعدى نطاق العادي إلى عوالم المتخيل.

وقد اشتهر من القصاصين العرب على سبيل المثال كل من يوسف الشاروني، يوسف إدريس، يحيى حقي، زكريا تامر، إبراهيم عبد المجيد، جمال الغيطاني، يوسف القعيد ونجيب محفوظ، وغيرهم. ومن القصاصين المغاربة وحسب مرجعياتهم في الكتابة القصصية هناك:

1- كتابة الهامش، ومن مبدعي هذه المرجعية، محمد زفزاف في مجموعته ' بيوت واطئة' و إدريس الخوري في مجموعته' ظلال'([1]) وابراهيم بوعلو في مجموعته 'السقف'، ومحمد شكري في مجموعتيه ' مجنون الورد' و'الخيمة' ...

2-كتابة الذات الاجتماعية التي احتلت فيها المرأة الكاتبة دورا مهما من حيث سيطرة نزعة التمرد والحنين والمناجاة والبوح، نظرا لمحاولتها الاندماج النهائي في المجتمع والبحث عن مكان في الوجود. ومن قصص هذه المرجعية نذكر القاصة خناتة بنونة في نصّيها السرديين 'ليسقط الصمت' و'النار والاختيار'. وأحمد المديني في مجموعته 'المظاهرة'، ومحمد عز الدين التازي في مجموعته'أوصال الشجر المقطوعة'...

3- كتابة الذات والإحساس بالكتابة كأزمة، وتمتح هذه المرجعية من العوالم التي تنتمي للذات والعاطفة والبوح، وهي تغترف من الذاكرة والوعي الثقافيين، وتنحو نحو تقديم الكتابة القصصية كصنعة من أجل تكسير نمطية القص، ونذكر من بين قصاصي هذه المرجعية، محمد الغرناط في مجموعته القصصية ' الصابة والجراد'،وحسن برما في مجموعته'ضمير الخائب')[2](...

4- تبئير الواقع وكتابة الوعي الثقافي: هذه الكتابة تهدف إلى تبئير اليومي، وهي تُشعرنا بحضور الواقع المتعفن، وترصده وهو في نزعه الأخير يحتضر بفعل هشاشة مكوناته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ومن كتاب هذه المرجعية، محمد برادة في مجموعته 'سلخ الجلد'، وأحمد بوزفور في مجموعته ' النظر في الوجه العزيز'، الذي ضمنها القاص كتابة تسعى إلى خلق أنساق فنية تفوق انخراط كتابته في حل المشاكل الاجتماعية. فبدلا من أن توظف هذه المرجعية السردية الكتابة من أجل تغيير الواقع، حاولت أن تجعل الواقع منخرطا في عملية تغيير الكتابة.

5- الكتابة المُغايرة:– ولتمثيل ذلك على سبيل المثال لا الحصر- نجد أنها كتابة مُجدِّدة تستند على نزق اللغة، (علبة الباندورا لأنيس الرافعي) وشعرية الحكي،(ورثة الإنتظار لعبدالنور ادريس) والكتابة بالتيمة بدل النص المفرد، ( في انتظار الصباح لمحمد سعيد الريحاني)، والكتابة القصصية ذات الرؤية الروائية، (الليل العاري لعبد الرحيم العطري) وكتـابة الحالة الاجتماعية للنساء، (أنين الماء للزهرة رميج).

إن هذه الكتابة تلتحق بالمـرجعية المنفتحة على اللغة والمعنى، وهي مرجعية منفتحة أساسا على التجريب وتفترض إمكانية انصهار الأنواع والأجناس لتوليد نوع جديد.

ففي هذه المرجعية عبّر الجيل الجديد من القصاصين والقصاصات المغاربة، عن توجه نحو التجريب وكتابة القصة من الداخل، متجاوزين بذلك ماضي القصة القصيرة، راسمين بذلك خصوصياتها الفنية والجمالية المتشظية والمتفجِّرة على مستوى المعنى والمبنى، وأثبت تجارب هذه المرجعية أن القصة القصيرة المغربية فن، من خلال اهتمامها الواضح بالأداء الفني للقصة القصيرة، فجعلت من اللغة ورشة نشيطة لصقل اللغة، والحفر في مكوناتها الدلالية انطلاقا من الحرف ثم الكلمة فالجملة، ومن ثم خرجت اللغة من المختبر اللغوي إلى فضاء يحقق فيه النص توافقه مع ذاته في تجانس تام مع إمكانية تحقق النص بوجود متلقي يعمل على تخمين معاني النص بشكل فردي، يجعل عملية التفسير فردية غير متكررة، الشيء الذي يجعل تفسير نص ما محاطا بالتفسير المنفرد ([3])، بينما كانت القصة التقليدية تكتب المعاني الملقاة على الطريق انطلاقا من معيارية النموذج المكرس، وقد أكد التجريب القصصي أنه من الممكن كتابة اللاّمعنى غير المرتبط بالأحداث والشخصيات.

إن القصة القصيرة المعاصرة (بما فيها القصة القصيرة جدا) والتي يمثلها قصاصو المغرب المعاصر أمثال:( حسن برطال- أبراج وقوس قزح، حسن البقالي- الرقص تحت المطر و مثل فيل يبدو عن بعد، حميد ركاطة – دموع فراشة ، وآخرون..) .

بهذا المعنى لم تعد القصة القصيرة تتقمص دور المنتقد والكاشف عن عيوب المجتمع كما أنها لم تعد تهتم بالتحولات الإجتماعية المتسارعة الإيقاع، لذا فقد تجاوزت مفهوم الذيلية للخطابات السياسية والإيديولوجية تماشيا مع الإضطراب الإيديولوجي الحاصل لدى المتلقي المعاصر، والذي جعل القاص يكتب أساسا لذاته مركزا ومكثفا كل أشكاله الذاتية في حكي لا يهادن المعيش، ولا يضع في اعتباره أي مقوم من مقومات قارئ نموذجي محتمل.

6- 'علبة البّانْدورا 'وكتابة نزق اللغة،(أنيس الرافعي نموذجا)

تنخرط هذه المرجعية مع القاص أنيس الرافعي في تحميل اللغة سياقات لسنية حادة في خرق المرجع اللسني المتعارف عليه مع تفصيح للغة الدارجة وإكسابها سياقات فوق- محلية، ففي مجموعاته القصصية 'أشياء تقع دون أن تحدث فعلا' و'السيد ريباخا' و'البرشمان' ثم 'علبة البَّانْدورا' وهي مجموعة تجميعية حيث لم يعد للبطل أو الحدث من معنى، تكلمت اللغة واجتاحت الحكي بكامله، فتم الرهان على اللغة وإمكاناتها التدليلية وانشحانها بالتعدد في السياقات، معبّرة عن الأكليشيهات الإبداعية التي تربط اللحظة الإبداعية باللغة، وهي نصوص مُتْرعة بحمى التجريب القصصي على مستوى التقنيات السردية، وهي إذ تسعى ضمنيا إلى تدمير البناء القصصي التقليدي، تحاول أن تدمر في نفس الوقت ذلك التآلف الحاصل بين المتلقي وهذا النمط من الحكي، وتعمل على فتح آفاق سردية مغايرة لإنتاج نص مفارق تقنيا تكون فيه ذات القاص محورا للمعاني وموضع تشريح.

إن الجملة السردية عند أنيس الرافعي امتداد لنفسيته المتشظية ما بين الواقع كما يعاش على المستوى الوجودي، والمتخيل كما يوحي بذلك ذوبان لغة القاص في ذاته، وهو ما يمكن تسميته ب' شعرية الموقف اللغوي' الذي يؤسس له القاص مرجعا ينطلق ويعود إليه، حيث نجد أن عماء المعنى يتجاوز داخل النص إلى خارجه بسبب لجوء القاص إلى عدة تركيبات لغوية تضع أمامها كل امكانيات اللغة على المجاز والاستعارة والشعرية الطوباوية، حيث يجعل القاص عالمه ضمن قابليته القصوى لاحتلال دلالات مغايرة وعميقة في تجانسها الداخلي.

إن شخصيات قصص أنيس الرافعي نعرفها ونعلم بوجودها من خلال الوجود اللغوي الذي يحيل عليها، ويتميز بطابعه المزدوج في البناء القصصي، ويتحدد من خلال بنيتيه الشكلية والدلالية، وفيما استطاع القاص أن ينسجه أنموذجا تتصف به كل أعماله السردية، انتقلت اللغة من إطار البنية الشكلية إلى فضاء بنية الدلالة، فرغم أن اللغة هي أصل فعل الحكي فهي في سرد الرافعي استمرت في الوجود وتلاقحت من خلال قوة الشكل الغوي، وأشَّرَت على قص مفارق يتحدد في ما وراء فعل الحكي، هذا إن هذا التطور يُرغم المتلقي على القيام بعملية فك شفرة النص، واستحضار المعطى الغائب في النص عبر تمثيله المخيالي أيضا حتى يلامس حلم اللغة بأبعادها الجديدة التي تحتفل بالنص السردي، يقول القاص معبرا عن الإمكانية التأويلية التي يضعها بين يد القارئ منذ الجملة السردية الأولى متجاوزا بذلك الحكي التقليدي الذي ينتظر نهاية الزمن التأويلي كي يبوح بمساراته الدلالية، يقول في قصة 'ملاحظات حول الصور الفوتوغرافية': 'كأني نحيت إلى أبعد مسافة ممكنة يقظتي التي أخفقت مسدسات القهوة السوداء في إطفاء أنفاسها الأخيرة وتدهورت صوب نوم مضمون فوق القميص الداخلي للسرير، إلا أنني في حقيقة ' الوصف' كنت فحسب أغفو بعينين مفتوحتين داخل محبرة عيني المغلقتين' ([4]).

وإن كان الجسد وخاصة المرتبط بالشخصيات النسائية هو المحفل السردي الذي يطبع التحققات السردية، وتُقرأ وتُؤول التجربة الفنية لكل قاص من خلال إمكانية توظيفه، وإن كانت الشخصيات حسب يانيك رايش yannick Resch :' تكشف العالم والآخرين عبر جسدها' ([5])، فالجسد في 'علبة الباندورا' يشكل لحمة منسجمة مع اللغة التي تظهر كشخصية محورية في النص، يعشقها الكاتب ويقودنا بوساطتها إلى اكتناه لذة النص وسلطته من خلال جعل اللغة تتمرد على ذاتها، وجعلها بكل ما في السرد من جهد قليلة الحياء المعجمي، لا تستجيب للسياق المتداول، لغة ترفع إيقاع التوزع الذهني، وتنخرط ببطء في مجتمعها اللغوي، فتصبح قراءة النص لمسا للجسد، وتستحضر الكيفية التي تجعل الرغبة منبثقة من مختلف التفاصيل والأجزاء وتعبر في نفس الوقت عن الكل، ولهذا قال جان بودريار jean Baudrillard ' يجب القول أن الأنثوي يغري لأنه ليس أبدا في المكان الذي يُفترض وجوده فيه' ([6]).

فالجسد الأنثوي في قصص الرافعي لا يُقَدََّم في نصوصه إلا عبر ما يثير المساءلة عن هويته الحقيقية كجسد مملوء بالشر، ولايشير إلى نهد أو صدر أو خصر، فهو إما جسد مُشاع لا يقدم لإغراء المؤنث أي توصيف جديد كما يشهد بذلك نص ' انشطارات(1)' الذي تحضر فيه المرأة كمومس محترفة أو امرأة تبلغ سن الأربعين:' ومن هنا، وضع النادل-مرة أخرى- افتراضا مؤداه أن المرأة الأربعينية قد سلمت للمومس المحترفة السوار الذهبي المتفق عليه'([7]) ويمكن تلمس ذلك فيما فتحه أمام المتلقي من دلالة العنوان محذرا المتلقي من جموح التأويلات يقول:' بّاندورا(pandore)، حسب الأسطورة الإغريقية، هي أول امرأة خلقها هيفيسْتوس (Héphaïstos). أهداها ثيوس(Zeus) مملوءة بمزايا وسيئات الإنسانية، ثم أرسلها إلى الأرض مع أول رجل، إييميثيو(Epiméthe) . فتح هذا الأخير العلبة فتناثر محتواها عبر العالم، ووقعت الكارثة !أيها القارئ حذارٍ أن تفتح عُلبة هذه القصة حتى لا يقع'مابعد السرد' ! '(علبة البّانْدورا، ص: 5)، إن وظيفة المرأة في 'علبة الباندورا' قائمة على أشكال تلقيها في 'ما بعد السرد'، وقد تصبح فعلا جنسيا لا يُعطينا أوصافه العادية لتمظهره بشكل طبيعي، ولهذا فكل جسد في نصوص الرافعي هو كجسد دونكيشوطي.

وقد جعل القاص فضاء النص مكانا لالتقاط تحولات السرد بادراك العين التي تشاهد حكيا واصفا باللغة، فأعار أدواته من السرد الفني لعالم الكرتون carton التي يصنع بها 'والت ديزني' عالما سرديا واسع التخييل، يقول القاص في قصة 'التحولات غير المعقولة للسيد ريباخا' ما يمكن أن يتمثله فقط المنطق الذي تصاغ به أفلام الكارتون: ' فجأة وعلى نحو يتجاوز المعقول، يخرج منك شخص آخر يشبهك ويواصل الركض أمامك بخفة عداء .. تتوقف أنت، فتتجاوز المرأة بذات الخفة وتركض خلفه بلا هوادة.' (علبة البّانْدورا، ص: 76) ولهذا ممكن أن تتحول قصص المجموعة 'علبة الباندورا ' إلى قصص كارتونية من حيث يصعب إدراكها لغويا على القارئ العادي، ولكن يسهل تمثلها كحكي بصري يشهد للقاص أنيس الرافعي بالتفوق في بلورة جديدة لسينارية السرد المشهدي.

وما دمنا نردد مع أرسطو قولته الشهيرة بأن التقنية وحدها تولد الأفراد في حين تمسك المعرفة بالأنواع، نجد القاص في قصة ' ملاحظات حول الأحصنة المعدنية ' يستشعر بعده عن جمهور القراء الذي لا يني بول ريكور يلح على أن استجابة الجمهور هي التي تجعل النص مهما ودالا ([8]) عندما يقول ' على الرغم من كوني أعلمُ الصعوبات الناجمة عن محاولة ارتكاب مقترح سردي من هذا الطراز المعقد، لكني أريدك – بداية-أن تنجح في تخيل نافذة وكرسي ورجل'(علبة البّانْدورا، ص: 131)، فالتقنية التي يستعملها القاص في مجموعته التجميعية ' علبة البَّانْدورا' بعد أن يخترق القاعدة الذهبية للأدب والتي تقول بأننا يجب أن نكتب عمّا نعرفه، تحتوي على أمل ترويض القارئ الكلاسيكي للتماهي مع الإمكانات المفتوحة للمرحلة السردية الجديدة دون أن ننسى المتعة الكبيرة التي تلفحنا بها نصوص الرافعي ذات الرصد الحالم لزمن اللغة الأخرق باعتباره يسكن خارج سيطرة المعاني المتداولة، الشيء الذي يضع أعمال القاص في خانة ' السرد الأطروحي' للحكي البصري نظرا لنسقها الدلالي الخاص المشتمل على صيغ خطابية تنتعش بفضلها التحولات في اللغة والخطاب.


الهوامش

[1] - معتصم محمد، 'القصة المغربية'، تعدد المرجعيات في الكتابة القصصية المغربية'، سلسلة ملتقى القصة، منشورات الشعلة، الطبعة الثانية ، سنة 2006 ، الصفحة : 73.

[2] - 'ضمير الخائب' عنوان المجموعة القصصية لحسن برما التي صدرت سنة 1993.

[3] - ريكور بول: نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2003، ص: 125.

[4] - الرافعي أنيس ، علبة البّانْدورا، متتاليات ما بعد سردية، الطبعة الثانية تجميعية، الشاطئ الثالث (4) ، مطبعة دار القرويين، البيضاء، سنة 2007، الصفحة 117.

[5]-yannick Resch ,« corps féminin, corps textuel Essai sur le personnage féminin dans l’œuvre de colette », librairie c.klincksieck, paris ,1973,p : 15.

[6]- Jean Boudrillard ,« De la séduction », Ed ,Galilée , Paris ,1979, P: 17.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل