المحتوى الرئيسى

الحلقة الثامنة من تفسير سورة النساء القسم 2

12/16 21:11

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه

الشبيبة الإسلامية المغربية

[email protected]

www.achabibah.com

إصدار 19محرم 1433هـ

www.achabibah.com

الإخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

في إصدارنا الجديد:

الحلقة الثامنة من تفسير سورة النساء القسم 2

لفضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي

كف شر المنافقين في السلم والحرب

قال الله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) ﴾

أداء الواجب الديني هو قياس الصدق والإخلاص لدى المسلم، على أن يؤديه في المنشط والمكره، وفيما يحبه ويبغضه، بعزيمة لا لين فيها وجد لا هزل فيه وحزم لا يتخلله الوهن والتردد، راضية به نفسه مصابرا ومسلّما تسليما؛ إلا أن محبة الدنيا كثيرا ما تشغل القلب عن ذكر ربه، والعقل عن استيعاب آياته ومنهجه، والنفس عن الآخرة وحسابها، فينصرف كلية عما يجب عليه، أو يؤديه إن قام به ظاهرا لا باطنا، أو على غير وجهه أو في غير وقته، أو يشتغل بالواجب عن الأوجب، أو ينشغل عنه بما يزعم أنها وسائل إليه تجميعا للأموال أو سعيا للمناصب والجاه، متأولا قوله صلى الله عليه وسلم:(المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك ولا تعجز)...ألخ.

إلا أن الله تعالى قد قطع طريق التردد والمناورة والمراوغة والمماطلة في أداء الواجب، بأن جعله فرديا لا جماعيا، بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ الأنعام 94، وقوله: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ فاطر 18، وجعله نية صادقة وقولا سديدا وعملا صائبا وتسليما قلبيا بقوله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ النساء 65، وجعله نهوضا حازما وعزيمة جادة وقوة في الإيمان والمعرفة بالله والطاعة والبصر والبصيرة والأداء فقال: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة 63، وجعله اختيارا حاسما قاصدا بين الدنيا والآخرة فقال:﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ هود 15/16، وقال:﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ الإسراء 18/19، وقال:﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ الشورى 20.

ولئن حدث أن تخلفت الجماعات عن أداء الواجب فليس ذلك عذرا للآحاد في التخلف عنه، أو التنصل من تبعة القيام به، ومن قبل كان إبراهيم أمة وحده إذ آمن وكفر الناس جميعا، ذلك معنى المسؤولية الفردية في الإسلام وما يشير إليه قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ المائدة 105، لذلك عندما منع كفار قريش بالحديبية رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخول مكة قال:( وإن أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنَّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي[[1]]، أو لَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أمرَه)، وعندما واعد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيانَ بعد موقعة أُحدٍ على مناجزة أخرى ببدر في ذي القعدة، وبلغ الميعاد، دعا الناسَ للخروج إلى بدر الصغرى فكرِهه بعضُهم لِمَا أرجفه المرجفون وأشاعوه من كثرة عدد العدو وقوته، فنزل قوله تعالى:﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾الآية...، يأمره فيه بالنهوض للقتال حين تردد الناس وكرهوه، وذلك بعد أن ذكر في الآيات السابقة قبلها مراءاة المنافقين بالرغبة في القتال ثم بنكوصهم عنه عندما فرض عليهم، وأنكر عليهم سوء خطابهم للرسول عليه السلام والتطيرَ منه وإنكارَهم انفراد الله عز وجل بالأمر كله ابتلاء بالخير والشر والأمن والخوف، ووبخهم بإعراضهم عن تدبر القرآن وفهم معانيه ومراميه، وانسياقهم خلف أهوائهم عصيانا ونشرا للأراجيف والشائعات بغية فتنة الصف المسلم وإضعافه، ثم بعد قوله تعالى:﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ عاد للأمر بالقتال فخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بطريق الالتفات غير حافل بما يضعه المنافقون في طريقه من العوائق تثبيطا لأصحابه وتبطئة وتخويفا بقوله:

﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: وإذا أصر المثبطون على التخلف والمترددون على الخوف والقعود، فقاتِلْ في سبيل الله وحدك غيرَ مكترثٍ بما فعلوا ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ ليس عليك شيء من إثم أتباعك إن تولوا عنك، ولست مسؤولا إلا عن نفسك فادفع بها إلى ساحة القتال مطمئنا بنصر الله لك، وما النصر بكثرة العدد والعدة، إن هو إلا من الله، إن شاء نصرك وحدك وإن شاء نصرك ومعك الجيوش والجحافل:﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾آل عمران 126. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عند خروجه لغزوة بدر الصغرى وقد آنس من بعض أصحابه ترددا: (والذي نفسي بيده لو لم يخرج معي أحد لخرجت وحدي)، واقتدى به صاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه في قتال أهل الردة فقال للصحابة رضي الله تعالى عنهم: "والله لو لم أجد إلا هاتين - يعني ابنتيه عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما - لقاتلتهم بهما".

إن القتال لإنقاذ المستضعفين من نير الظلم والقهر وربقة الشرك والاستعباد كان بمقتضى هذه الآية الكريمة واجبا على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد نهض به خير قيام، لكن عليه أيضا واجبا آخر بمقتضى طبيعة رسالته، وهو تبليغ المؤمنين أمر القتال من ربهم كيلا يقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل إذ قالوا لموسى عليه السلام:﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ المائدة 24﴾، ولذلك خاطبه الحق تعالى عقب ذلك بقوله:

﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ على القتال، والتحريض على القتال هو الحضُّ والحث عليه وعلى مداومته، قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ الأنفال 65، ولئن كان النبي صلى الله عليه وسلم في غنى عن مشاركتهم له في القتال، لأن ربه كفاه أمر عدوه ووعده بالنصر، فإن المؤمنين ليسوا أغنياء عن أجر الجهاد ومراتب الشهداء، كما أن المسلمين كافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم معنيون بهذا التحريض ومطلوب منهم الاستجابة له، لأن طبيعة رسالتهم إلى البشرية جعلتهم مستهدفين من أعداء الكفر والضلال في كل عصر، قال تعالى:﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ البقرة217، وليس لهم إلا أن يتأهبوا كما يتأهب الأعداء ويقاتلوا كما يقاتل الأعداء، قال عز وجل:﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ التوبة 36، وقال صلى الله عليه وسلم:(جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم). وذلك سبيلكم لكف شر أعدائكم المتربصين بكم، ولحماية أنفسكم من العدوان، وحماية المظلومين والمستضعفين من الاضطهاد والاستعباد، ثم بين الحق سبحانه علة الأمر بالقتال وهي رجاء كسر شوكة المشركين وكف شرهم فقال:

﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ولفظ"عسى" من أفعال المقاربة والترجي مستعارة للإطماع والوعد من الله بالنصر القريب، وإطماع الكريم إيجاب، والوعد منه عز وجل واجب التحقق، والآية في ظرف نزولها بشارة بفتح مكة وإعداد له، وقوله تعالى بعدها ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا﴾ تأكيد لتحقيق الرجاء والوعد، أي أنه تعالى أشد قوة وبطشا بالمشركين ﴿وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ أي أشد عقابا لهم، ولفظ التنكيل من أصل الفعل: نكَل يَنْكُل نُكولاً عن العدو أي جبن، ونكَّلته عن الشيء: صرفته عنه، والنَّكال اسم لما جعلْتَه نَكالاً لغيره إِذا رآه خاف أَن يعمل عمله، ونَكَّل به تَنْكِيلاً إِذا جعله نَكالاً وعِبْرة لغيره، يقال نَكَّلْت بفلان إِذا عاقبته في جُرْم أَجرمه عُقوبةً تُنَكِّل غيره عن ارتكاب مثله، والنِّكل هو القيد الذي يمنع الإنسان أن يرتكب الجريمة مرة أخرى، أي إن الله تعالى بعذابه للمشركين أشد منعا لهم من العودة إلى العدوان على المسلمين.

وما دام التحريض على القتال يستدعي من المستجيبين له أن ينضم بعضهم إلى بعض في تكتل عسكري متراص، فقد بين الحق تعالى أجرَ الاستجابة لدعوة الجهاد والتعاون عليه، ووزرَ المتخلفين عنها والمشككين فيها فقال:

﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ ولفظ شفع يشفع يدلّ على مقارنة الشيئين، من ذلك الشَّفْع خلاف الوِتْر وهو ضم الشيء إلى مثله فتقول: شَفَعَه شَفْعَاً كَمَنَعه أي كان وتراً فصَيَّرَه زَوْجَاً، وقوله تعالى:﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾ أي: من انضم إلى أخيه وعاونه على الجهاد وصار له شفعا فيه، لأن الشفاعة الحسنة في هذا السياق هي الاستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بالانضمام إلى المقاتلين ﴿يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ يكن له نصيب من أجر هذه الدعوة وآثارها في الدنيا نصرا وعزا ومغانم، وفي الآخرة أجرا وفيرا وجنة عرضها السماوات والأرض. ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ والكفل هو النصيب المساوي، إشارة إلى قوله تعالى:﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ الشورى 40 أي: ومن يدع للتخلف عن القتال والتبطئة والتثبيط ويحرض على الانضمام للمخلفين والمنافقين يكن له عدل دعوته وزرا وسيئات. وقد نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما معنى آخر للآية هو أن الشفاعة الحسنة أن يشفع المسلم إيمانه بالله بقتال الكفار، والشفاعة السيئة أن يشفع نفاقه بمحبة الكفار وترك قتالهم، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ والمقيت هو الشهيد والحفيظ والقادر والحسيب والرقيب، أي إن الله شهيد على أعمال الخلق لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم إن كان الشافع يشفع في حق أو في باطل، حفيظ عليه يجازيه بما هو أهله، قادر على إيصال النصيب والكفل من الجزاء إلى الشافع والمشفوع فيه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

إلا أن النصر في القتال لا يكفي فيه انضمام المؤمنين إلى بعضهم في الصف بالأجساد، وإنما لا بد فيه من أن تأتلف قلوبهم بالمحبة والأخوة الصادقة ولئن كانت تسوية الصفوف واجبة بقوله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ الصف4، فإن تسوية القلوب بالمحبة وأخوة الإيمان أوجب، قال تعالى:﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ الأنفال 63، لذلك دلهم الحق سبحانه على ما يقرب القلوب إلى بعضها في الحرب والسلم وهو تبادل التحية وإفشاؤها بينهم، فقال عز وجل:

﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ وتحية الإسلام أن تقول لأخيك: "السلام عليكم"، كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل عليه عمير بن وهب قبل أن يسلم فقال:"أنعموا صباحا" وكانت تلك تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة)، وقال تعالى:﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ النور 61، وقال عن أهل الجنة:﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ الرعد 23/24.

إن تبادل التحية بالسلام بين المؤمنين يحببهم إلى بعضهم، ويخصب بذور التعاون والتآزر في نفوسهم، كما يرفع معنوياتهم القتالية في مواجهة أعدائهم، إذ يخوضون الحرب في حالة من الرضا ببعضهم والثقة بقوة التناصر بينهم، مما شرحه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).

وقد بين عز وجل في هذه الآية الكريمة أدب السلام بقوله:﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) إذا سلم أحد إخوانكم عليكم ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ بأحسن مما سلم به أخوك﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ أو ردوا عليه بمثلها لا بأقل منها، ذلك حق المؤمن على المؤمن، وقد روي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليكم ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم وقال : (عشر حسنات) ، وجاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله ، فرد عليه وقال : (عشرون حسنة )، ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ثلاثون حسنة). قال الإمام مالك في رسالته إلى هارون الرشيد:" اُرْدُدْ جوابَ الكتابِ على كلِّ أحَدٍ كَتَبَ إليك، فإنَّما هو كَرَدِّ السلام، وقد قال عز وجل: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾، وبلغني عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:( أرى رَجْعَ الجوابِ عليَّ حقّاً كما أرى رَجْعَ السلام)".

هذا ما أرشدنا إليه الكتاب والسنة من أدب يؤلف القلوب ويقربها إلى بعضها ويربطها بالمحبة والأخوة، في حالتي السلم والحرب، تحت رعاية الله وعلمه ووعده بوفير الأجر والثواب بقوله عقب ذلك:﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ﴾ أزلا وأبدا ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ مُحْصيا كل شيء في الكون دقيقا كان أو جليلا، ومحاسبا عباده على أعمالهم كلها، وعلى ما أُمروا به من الشرائع المتعلقة بنظامهم العام داخليا وخارجيا، والعمل بمنهج الإسلام المتكامل، بدءا بأعلى هرم النظام الاجتماعي والسياسي والحربي بكلياته وجزئياته، إلى أدق الآداب الفردية تبادلا للتحية وإفشاء للسلام، وتأليفا للقلوب ونشرا للمحبة والتعاون، ورصا للصفوف في حالتي الأمن والخوف، والرخاء والشدة، مجازيا المطيع منهم والعاصي بعدله المطلق الذي لا يبخس حقا ولا ينقص أجرا ولا يظلم أحدا، ثم علل ذلك بقوله دالا على تلازم التوحيد والإيمان باليوم الآخر وعدل الله بقوله:

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ لا معبود بحق إلا هو ﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ جوابُ قسمٍ محذوفٍ، مؤكد باللام والنون، تقديره والله ليحشُرَّنكم من قبوركم للحساب يومِ القيامةِ ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ لا يتطرق إليه الشك والريب ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ استفهام لإنكار أن يكون أحد أصدق من الله تعالى في حديثه وأخباره. قال مقاتل: "نزلت فيمن شك في البعث، فأقسم الله ليبعثنه". ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر علمه بأحوال الخلق وقدرته على حسابهم عقب تهديداً وتحذيراً من مخالفة أمره بذكر وحدانيته وما كتبه لعباده من الحشر والبعث والحساب.

ثم عاد السياق إلى ضرورة وحدة الصف، ليعالج أسباب الاختلاف بين المسلمين حول الموقف من المنافقين والحكم على تصرفاتهم، لا سيما وأن ناساً منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البادية للاستشفاء بجوها من أمراض أصابتهم بالمدينة، فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة بعد مرحلة حتى لحقوا بالمشركين، وآخرين رجعوا بثلث الجيش مع عبد الله ابن أبي يوم أحد، وغيرهم هاجروا إلى المدينة ثم رجعوا بدعوى الاشتياق إلى الأهل والوطن، وآخرون في مكة أظهروا الإِسلام وقعدوا عن الهجرة، فاختلف المسلمون في إسلامهم والحكم عليهم وطريقة معاملتهم، ورأى البعض أن من الحزم الضرب على أيديهم وإنهاء نفاقهم، ورأى آخرون تركهم ومطاولتهم ما داموا يظهرون الإِيمان لعلهم يثبتون عليه ويهاجرون مستقبلا، فلما اشتد الخلاف في شأنهم أنزل الله تعالى معاتبا من توقف عن الجزم بتكفيرهم قوله:

﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ والفئة: الطائفة والفرقة والجماعة، أصلها من الفاء والهمزة مع حرف علة بينهما وهي كلمة تدل على الرجوع،، فتقول: فاءَ يَفيء فَيْئا وفُيُوءاً، أي رجع وكلُّ رجوعٍ فَيْءٌ، قال الله تعالى: ﴿حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ﴾ الحجرات 9، أي ترجع إليه، ومنه قيل للظِّل الذي يكون بعد الزوال: فَيْء لأنه يَرْجع من جانب الغَرْب إلى جانب الشَّرق، كذلك كلمة فئة بمعنى الجماعة مشتقّة من الفيء وهو الرجوع، لأنّ أفرادها متكتلون مع بعضهم في كل شؤونهم. ووزنها الصرفي "فِلَة"، حذفوا عين الكلمة وهي الياء من وسطها وعوّضوا عنها الهاء. والاستفهام في هذه الآية إنكاري لانقسام المسلمين في أمر المنافقين، ومعناه: ما بالكم يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم انقسمتم فريقين في الحكم على المنافقين؟، والمراد منه وجوب إجراء المنافقين مجرى المجاهرين بالكفر في جميع الأحكام، وإنكار أن يكون للاختلاف في كفرهم مبرر وقد حكم به ربهم تعالى وقال:

﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ وقوله تعالى:﴿أَرْكَسَهُمْ﴾ من الارتكاس وهو التحول من حال حسنة إلى حال سيئة كالكفر بعد الإِيمان، لأن الركس هو رد الشيء مقلوباً، وقَلْبُ الشَّيْءِ على رأسِه أَو رَدُّ أَوَّلِهِ علَى آخِرِ. والمعنى: كيف تختلفون في كفر المنافقين والله تعالى تخلى عنهم وردهم عن بابه منكوسين منقلبين على أعقابهم خائبين ﴿ بِمَا كَسَبُوا﴾ بسبب ما كسَبوه من إثم اللّحوقِ بالمشركين والاحتيالِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإصرار على الكفر بعدما آمنوا، قال تعالى:﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ المنافقون 3.

لقد ختم الله على قلوبهم لِما أصروا عليه من الكفر والنفاق والخداع وأنتم أيها المسلمون مختلفون في أمرهم ومنقسمون فئتين، تودون أن يتوبوا ويهتدوا ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟﴾ والله طردهم من رحابه، ولا مجال لهداية من ارتد واختار الضلالة وأصر عليها وفرح بها بعد أن آمن، لقد أضله تعالى عن طريق الجنة وهداه إلى طريق النار جزاء ما اكتسب من الآثام ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ إلى الجنة. إنهم لم يكتفوا بالكفر في أنفسهم بل انقلبوا محاربين لدعوة الإسلام يريدون استئصال الدين من الأرض وإعادة أهله إلى الكفر، ولذلك عقب تعالى بقوله:

﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ إن هدفهم الذي يسعون له أن يوقعوا بينكم الفتنة، وأن يردوكم عن دينكم فتعودوا كفارا مثلهم. وهذه الآية من أكثر الآيات تصريحا بكفر المنافقين، لأن النفاق لم يترك لهم إلا التظاهر بالإسلام، وقلوبهم منطوية على الكفر البواح، ولئن عوملوا أحيانا في الدنيا بظاهر أمرهم حفاظا على السلم الاجتماعي فإن الله تعالى قد بوأهم الدرك الأسفل من النار، قال عز وجل:﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ النساء 145. ومن كان هذا حالهم:

﴿ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ عليكم ألا تتخذوا منهم أنصارا أو أعوانا أو مستشارين، وألا تثقوا بأحد منهم حتى يهاجروا إلى المدينة مثلكم، واشتراط الهجرة هنا دليل على أن الآية في فريق تخلف في مكة قبل الفتح كان يظهر الإسلام للمسلمين والشرك للمشركين، ولذلك وضعهم الوحي أمام اختبار حاسم، عقب ادعائهم الإسلام هو أن يهاجروا من أرض الكفر ويلتحقوا توثيقا عمليا لإيمانهم بأرض الإسلام وينضموا للجماعة المؤمنة ويخضعوا لنظامها.

﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ فإن أعْرَضُوا عن التوحيد مقرونا بالهجرة ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ خذوهم أسرى إن تمكنتم منهم واقتلوهم في الحل والحرم إن واجهتموهم في الحرب﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ ولا تجعلوا منهم أحدا متوليا أمرا من أموركم، أو نصيرا لكم في سلم أو حرب.

ولئن كانت الهجرة من مكة إلى المدينة في العهد النبوي واجبة لظروف تتعلق بتأسيس المجتمع الإسلامي الجديد، وضرورة بناء الدولة العقدية المكلفة بهداية الناس وإقامة الشهادة وإعادة تربية المسلمين بعيدا عن شغب الشرك ومعتقداته وعاداته وتقاليده، ، فإن الهجرة بعد فتح مكة لم يبق لها مبرر، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية).

إلا أن طبيعة دعوة الإسلام بمنهجها للحياة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم تستثير أعداءها في كل عصر فيحاولون الإجهاز عليها، كعادتهم دائما مع الرسل وأتباعهم قال تعالى:﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ إبراهيم 13، وقال: ﴿قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ النمل 56، لذلك نرى أن الهجرة بمقتضى هذه الآية الكريمة، من أرض الكفر ومواطن الاستضعاف والظلم، مستمرة وواجبة في كل حالة يعجز فيها المؤمن عن تأمين دينه ونفسه وأسرته، كما في آيات أخرى من هذه السورة يأتي أوان شرحها بتفصيل.

ثم استثنى الحق سبحانه من أمره بالأسر والقتل لهذه الطائفة من المنافقين ثلاث فئات أفرد لكل منها حكما خاصا، فقال عن الأولى:

﴿ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ أي الذين يلتحقون بقوم بينهم وبين المسلمين ميثاق موادعة ومسالمة أو يلجؤون إليهم، كالذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين هلال بن عويمر الأسلمي من عهدٍ على أنه لا يُعينه ولا يُعين عليه، وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجِوار مثلُ الذي لهلال.

وقال عن الفئة الثانية:﴿ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ أو قوم جاءوكم إلى المدينة مهاجرين كافّين عن قتالكم وقتالِ قومِهم، وقلوبهم حرجة عن قتال الطرفين، وتعهدوا ألا ينصروا أحدهما على الآخر.

لقد كف الله تعالى عن المؤمنين رحمة بهم وتخفيفا عليهم أيدي هذين الفريقين من المنافقين ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ ولو شاء عز وجل أن يسلطهم عليكم لتجرؤوا على قتالكم ولأجلبوا عليكم بخيلهم ورجلهم، وفتحوا عليكم جبهات حربية أخرى، ولكنه تعالى عدلا وإنصافا لهاتين الفئتين كف أيدي المسلمين أيضا عن قتالهما فقال:

﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ﴾ لم يتعرضوا لكم بأذى ﴿فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ لم يرفعوا في وجوهكم سلاحا ولم يعينوا عدوكم على قتالكم ﴿وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾وسالموكم فلم يُخِلّوا بأمنكم بأي وجه من الوجوه ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ فإن الله لم يجعل لكم طريقا إلى قتلهم أو قتالهم أو أخذهم أسرى، أي أن كلا الفريقين يعاملان بمقتضى قوله تعالى:﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ البقرة 190.

أما الفئة الثالثة التي استثناها الله تعالى من الأخذ والقتل ما اعتزلوا المسلمين ولم يقاتلوهم أو يعينوا عليهم فهي التي قال عنها جل جلاله عقب ذلك:

﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ﴾ طائفة أخرى من المنافقين غير الطائفتين السابقتين، قيل إنهم أسد وغطفان، وقيل بنو عبد الدار ممن كانوا حول المدينة قبل أن يخلص إسلامهم ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ كانوا كلما أتوا المدينة أظهروا الإسلام ليأمنوا المسلمين، وكلما رجعوا إلى قومهم خافوا مخالفتهم فعبدوا الأصنام معهم وهم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ﴾ والفتنة في هذا السياق كناية عن الاختبار والامتحان، أي كلما أعلنوا لكم إسلامهم وعرضوا على فتنة الاختبار بعودتهم إلى قومهم المشركين لتصهرهم وتكشف ما في أعماقهم ﴿أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ طغى عليهم ضعفهم وفشلوا في الاختبار فلم يثبتوا، وكشفوا للمشركين أحوال المسلمين في حالات السلم والحرب، وانغمسوا بذلك في الكفر البواح مرة، كما قال تعالى في آية أخرى:﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ الحج 11.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل