المحتوى الرئيسى

السياسة من باب نفى السياسة

12/08 10:24

بمجرد أن رفع جيش معاوية المصاحف على أسنّة الرماح، اعتبر «القراء» -فى جيش علِى- أن هذا نزول على حكم الله. لم يكن هذا رأى علِى بن أبى طالب، ولا كان راغبا فى وقف القتال، لكنهم أرغموه على ذلك. ربما اعتقدوا أن الطرفين سيُحَكِّمونهم هم، بوصفهم دارسى كتاب الله والمتفرغين للبحث عن معناه. قبل أن يكتشفوا لاحقا أن الخطة مختلفة، وأن التحكيم يشمل مناظرة بين رؤيتين مختلفتين. سيعارضون عليًّا مرة ثانية إذن حين يوافق علِى صيغة التحكيم، وفد من عنده ووفد من عند معاوية يتناظران أمام كبار الصحابة والتابعين. سيتهمونه مرة أخرى بعدم النزول على «حكم الله» بل وسيوشكون على أن يغتالوا الأشعث الكندى الذى حمل على عاتقه مهمة إبلاغ جيش علِى بما كان من أمر وثيقة التحكيم. سيطارودنه وهم يتصايحون «إن الحكم إلا لله»، لا حكم إلا لله.

كان خطأ علِى بن أبى طالب السياسى الأول أنه ترك هذه القوى فى جيشه بعد أن قتلت الخليفة عثمان أو دعت إلى قتله. لقد استخدم علىٌّ سلاحا سياسيا إيمانُه الأول الكفرُ بالسياسة. والسياسة هى فن التوفيق بين رغبات الناس. فن تحويل تلك الرغبات إلى معادلات جبرية لها محصلة إجرائية ملموسة.

لم يكن «القراء» يؤمنون بهذا المفهوم، بل كانوا يؤمنون بأن «حكم الله» لا بد أن يُفرَض على الناس. لكن أى «حكم الله»؟ حكم الله الذى اعتقد عثمان أنه يلزمه بالدفاع عن مقام الخلافة؟ أم حكم الله الذى جعلهم يطالبونه بالتنازل عنها؟ حكم الله الذى جعل معاوية يطالب بالقصاص لعثمان بوصفه ولى الدم؟ حكم الله الذى جعل الزبير وطلحة يقاتلان قبائل بأكملها لأنها تؤوى قَتَلَة عثمان؟ أم حكم الله الذى جعل عليًّا وإياهم يقاتلون طلحة والزبير والسيدة عائشة فى «الجمل»؟ حكم الله الذى جعلهم هم يقاتلون عليًّا، حليفهم السابق، وتكون -يا للمفارقة- مقتلتهم الكبرى على يده فى «النهروان»، وهو الذى رفض تسليم قتلة عثمان من البداية؟ أم حكم الله الذى جعل معاوية يقاتل عليًّا فى «صِفّين»، ثم يقاتل أبناؤه الحسين فى «كربلاء»، فى عداوة ستشق صفحة التاريخ الإسلامى لقرون قادمة؟ الإجابة: حكم الله كما يرونه هم.

إن رفع فصيل سياسى شعار «حكم الله» فوق الآخرين يعنى نفى السياسة تعريفا وغرضا. يعنى تنصيب الفصيل نفسَه محركا للعرائس فى عرض ماريونيت. بيده اختيار البداية ورسم مسار القصة وتقرير النهاية، بينما يتحول الآخرون إلى عرائس وظيفتهم التقافز والرقص لتسلية الجمهور. حب الجمهور وإعجابه لا يضمن لهم البقاء، ولا تفانيهم يضمن لهم الاستمرار. فتوى واحدة من صاحب الخيوط كفيلة بإنهائهم.

المشكلات الأولى فى التاريخ الإسلامى كانت صراعا بين «حق وباطل» (ضد مانعى الزكاة، ضد المرتدين). لم يتطور مفهوم السياسة لدى الدولة الناشئة بحيث يواجه الصراع «السياسى» الدقيق إبان حكم عثمان وما تلاه، الخلاف بين أصحاب الحق، أو أصحاب الأوجه المختلفة للحق. هذه هى السياسة الحق. دارسو القرآن «القراء»، رفضوا هذا. رفضوا التحكيم الذى يشمل وفدين ذَوَىْ رؤيتين متقابلتين. فأمر الله، بالنسبة إليهم، واضح ولا جدال فيه. لقد قال «فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله». قاتلوهم، لا «فاوضوهم»، ولا «ناظروهم».

لقد قتل أصحاب شعار «إن الحكم إلا لله» القدامى، أربعةً من العشرة المبشرين بالجنة. أسأل نفسى الآن: من أين نأتى لأصحاب شعار «إن الحكم إلا لله» المعاصرين بأناس ذوى فضل أرفع من العشرة المبشرين بالجنة لكى ننال فرصة عدم الحسم بالقتل؟ وإن كان هؤلاء المبشرون قد وجدوا من يرفع فى وجههم هذا الشعار، بل ويقاتلهم أو يقتلهم به، فهل من الممكن أن يسْلَم منه أحد بعدهم؟ لا. فالسياسى الذى يرفع شعار «إن الحكم إلا لله» أو «الدين هو الحل» إنما يدخل السياسة لكى ينسف السياسة.

أتدرون ماذا اشترط هؤلاء على علِىٍّ حين أرسل إليهم يدعوهم للعودة مرة أخرى إلى جيشه بعد أن رفض نتيجة التحكيم؟ لقد اشترطوا عليه أن يُقِرَّ بكفره أولاً ثم يتوب. على بن أبى طالب يقرُّ بكفره أولاً لكى يرضى عنه هؤلاء! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل