المحتوى الرئيسى

أنيس صايغ... قامة لم تنحنِ يوماً بقلم:محمود كلم-بودابست

12/02 00:00

أنيس صايغ... قامة لم تنحنِ يوماً

محمود كلم-بودابست

أغمض عينيه ونام في استراحة أبدية، راضياً بنهايته تلك، مقتنعاً بأنّ للحياة نهاية؛ فالموت هو جسر العبور إلى فضاءات أرحب. كذلك فإنه ليس نقضاً للواقع أو تجاوزاً له، ولا محاولة للقفز فوقه. إنّ الموت هو الوجه الآخر للحياة، وفي لحظة حضوره يكون الاستسلام هو الخيار.

بكته بيارات الليمون في الجليل، وأشجار الزيتون التي ينزّ في أرضها دم أهلها. بكته حارات الفقراء العظماء في عين الحلوة وصبرا وشاتيلا والرشيدية والبص والبرج الشمالي والقاسمية. بكته قرى الجليل التي تنام الليل بلا دثار على وجع الرحيل ودفء الكلمات وأحزان المنافي. حزن مُرّ وقاتل يرسم رغماً عنّا ملامح الغد الآتي، ملامح وجه طبريا الفتاة، وجه طبريا المرأة، تحلم بنهار مشمس لا غيمة في سمائه، طبريا العروس ليلة زفافها لم تبارح ذاكرته حتى لحظات رحيله، وقد ظلت كذلك وجعاً حلواً ينام في خاصرته ملتذاً بعذاباته.

في ضوء العتمة في النفوس، وقد استبدّ بها اليأس المرّ القاتل، وهي تلفّ بسوادها قرى فلسطين والمشردين في وطنهم ومن في الخيام وأطفال الحجارة، تلمّس طريقه المفضية نحو تراب وطنه وحجارته وبيوته الطينية؛ فبقعة الضوء محراباً تصير، وإن شقّت على الرؤية، فجأة تلوح كالومضة. تلك كانت أغانيه: العذاب والثوابت التي لا محيد عنها ولا حياد.

إن السعي إلى الهدف الحلم هو درب الآلام، والسير صوبه هو طريق الآخرة، فيه الأجر والثواب، وفيه العرس والدم. لم يتخلّ يوماً عن واجبه الوطني وثوابته، حين لاحت بوادر العُجمة والرطانة في لغة الثوار والكتبة، وصار القفز فوق الشعارات كالقردة فوق الحبال لغة العصر، وأصبح التفلسف في تفسير معنى الثوابت الوطنية يومئ إلى بيع كل شيء في مزاد السياسة وضرورة التخلي عن مبادئ الأمس بما فيها وما حوت. كان ذلك هو القدر، قدرنا نحن المقهورين. كان أنيس صايغ رقماً صعباً في معادلة أصعب، وكان في نظر أقرانه ورفاق دربه ومسيرته إنساناً عصيا على المطاوعة لا يساوم على الثوابت والمبادئ. ظلّ واضحاً كالشمس في قامتها طوال تلك السنين، قامة لم تنحن يوماً.

دافع عن فلسطين بالدم والكلمة، وكان أحد الأمناء على رسالة كامل التراب الوطني الفلسطيني.

رحل أنيس صايغ، وليس وقت رحيل، فما زالت به حاجة ملحة وضرورة بقاء أطول مما كانت عليه. رحل أنيس صايغ الجسد، لكن امتداده فينا لا يزال قائماً يثمر، وتشظت أفكاره أغاني تلقّفها حُفاة الأرض الفلسطينية، وتغنّى بها الأطفال والمغذّون السير نحو بقعة الضوء التي سبقهم إليها ومشى صوبها.

أنيس صايغ نسيج وحده، حالة متفردة تخطّت حدودها الجغرافيا، أممي الانتماء، العالم كله صار وطنه، لكن طبريا هي الثدي الذي أرضعه حب التشبث بالأرض التي حبا عليها وخطا أولى خطواته.

لم يكن منغلقاً في رؤاه وأفكاره. ترفّع عن المشاعر الطائفية والفكر الشمولي الضيّق، وكان نقطة التقاء الجميع واحترامهم. تميّز بسعة اطلاع ومعرفة وإمعان بقضايا شعبه ووطنه. عمل بوتيرة عالية وهمّة لا تعرف التراخي ولا الملل. كان ملتزماً ومنضبطاً؛ فهو شيخ المؤرخين الأساسيين للقضية الفلسطينية. لم يكن أنيس صايغ علامة مجهولة بحاجة إلى ترسيم وتعليم، ولا حرفاً وحده. كان كل الحروف وكل الأرقام، يعرفه الذين عاصروه ولازموه وتربوا على أخلاقه ومبادئه، أشادوا في حياته بمواقفه التي لا تعرف المساومة، وتزاحموا قرباً إليه ومنه، ووقفوا على قبره حين أهيل التراب عليه، لكنّ ذكريات أنيس صايغ لم تنتهِ!

❉ ❉ ❉

عاش أنيس صايغ أكثر عمره في لبنان، لكن سهم المنيّة أصابه في عمَّان. وفي بيروت دُفن وعيناه تنظران صوب الأفق، صوب فلسطين، صوب كامل التراب الوطني الفلسطيني، الذي لا بدّ من أن يُستردّ يوماً. ♦أنيس عبد الله صايغ كاتب، باحث ومفكر عربي، ولد في 3 نوفمبر 1931 في طبريا. بدأ تعليمه الثانوي في مدرسة صهيون الداخلية في القدس، لكن إثر النكبة نزخ وعائلته إلى صيدا في لبنان حيث أنهي الثانوية في مدرسة الفنون الإنجيلية فيها.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل