المحتوى الرئيسى

الشهيد سامي الأنصاري.. وبطولة في القُدس لم تنسى بقلم:حَمـزة أسـامـــة الــعـقــربـاوي

11/16 00:12

بسم الله الرحمن الرحيم

الـشـــــهـيـد ســــــامي إبـراهـيـم الأنـصـــاري

وَبُـطــولَـةٌ فـي الـقُــدْسِ لَـنْ تُـنْـــــسَى


حَمــــزة أســــــــــــامـــة الــعـقــربـاوي

2011

الشـــهـيـد ســـــامـي إبـراهـيـم الأنـصــاري فتى الفتيان وقدوة الشجان ومفخرة الشباب، ذو الشجاعة المنقطة النظير.. بَطلٌ من أبطال القدس ورمزٌ من رُموزِ جهاد شَعبنا، كان يَتمتع بِنَفْسٍ جهادية تَأبى الظُلم والعدوان، وكان يَرى في الإحتلال البريطاني لفلسطين عُدواناً غادراً لا بُد من إزاحته، وكان اعتقاده جازماً بأن على الإنسان أن يقوم بدوره في هذا المجال بأي وسيلة يستطيعها، فَتقدّمَ وَقَدّمْ وَسطر صَفحاتِ جهاد راقية، ثم خُتمت حياته بالشهاده وهو مُقدمٌ يُسطر أعظم الملاحم الجهادية.

ســامـي الأنـصــاري من مواليد القدس عام 1917. وعاش ودفن فيها، ولد في الأسبوع الأول لدخول الانكليز للقدس. وكان يَسكن في حي المصرارة. درس في مدارسها الابتدائية والثانوية. تخرج من المدرسة الرشيدية. وفي صيف 1935 تخرج من الكلية العربية في القدس (دار المعلمين). وقبل ذلك بسنة حصل على شهادة (المتريكوليشن) وكان مُتفوقاً فَعُينَ مُدرساً في المدرسة الرشيدية بالقدس سنة (1935-1936) الدراسية.(1)

وصفه الأديب خليل السكاكيني بقوله: ( بَطلٌ آخر سقط بالأمس في ميدان الشرف، بل هو أعظم بطل عرفته فلسطين، هو سامي الأنصاري ابن الشيخ إبراهيم الأنصاري ، خال موسى العلمي، لا يجاوز عمره التاسعة عشرة من عمره، وقد كان استاذاً في المدرسة الرشيدية للّغة الانكليزية فقد كان ممتازاً فيها، وهو من خريجي الكلية العربية للسنة الماضية، فهو حديث العهد بالتعليم بل بالحياة، فتى عالي الجسم مفتول العضل، ممشوق القوام، ثقفٌ لقف، جميل الصورة، مولع بالاستحمام بالماء البارد، والألعاب الرياضية، أنيق الثياب من رآه حسبه أقرب إلى الطفولة منه إلى الشباب، بل أحسبه أشبه بالبنات منه بالرجال... هذا هو البطل الذي سقط بالأمس، وإنه لبطل عظيم، بل أعظم بطل عرفته فلسطين..)(2)

أما الاستاذ أكرم زعيتر فقد قال في وصفه:( .. جميل الصورة، رياضي، عداءٌ من الطراز الأول، طالما قطع المسافة بين القدس وبيت لحم ركضاً. .. كان كثير الصمت، رَضيَّ الخُلق، كَريمَ النّفس، شهماً، هُماماً، أريحياً).(3)

في سنة 1934 انتسب سامي مع صديقه بهجت أبو غربية إلى النادي الرياضي الإسلامي بالقدس وكان مقره في شارع مأمن الله. وتدربا في النادي الاسلامي على المُلاكمة والمُصارعة ورفعِ الاثقال والركض لمسافات طويلة (4). وكان رحمه الله ذا وعي وفهم بمجريات الأمور ومنها تعليقه على خبر اكتشاف البترول في العراق:( يا سلام يا مصيبتنا !! "شرش" الاستعمار في بلادنا !! "راحت" الوحدة العربية).(5)

انتمى سامي الأنصاري لهذا الوطن وأدرك الخطر المحدق به ولذا كان يُجاهد في فترة مُبكرة ويُعدّ للجهاد مع رفاقه إلى أن استشهد في أحد بطولاته الفريدة.

كان بهجت أبو غربية من أعز أصدقاءه وأكثرهم إلتصاقاً به، وقلّما يَفتَرقان ، فَحيثُ يكون سامي يكون بهجت. وزمالتهم تَكوّنت من مَرحلةٍ مُبكره حيث كانا معاً في الدراسة، ثم كان بهجت رفيقاً له في درب الجهاد والإعداد للثورة. وهو من حَفِظَ لنا سيرته وروى لنا صَفحةً مُشرفه من جهاده وبطولته.

كان الشهيد سامي الأنصاري مولعاً بالعمل العسكري ومغرماً به حتى أنه اشترى مسدساً صغيراً من ماله الخاص، كما فعل ذلك أيضا صديقه بهجت أبو غريبة. وكانت أمنيتهما قبل الثورة أن يلتحقا بإحدى الكليات العسكرية في البلاد العربية كالعراق مثلاً. وفكرا بأن يلتحقا بالفرقة الأجنبية الفرنسية (ليجيون أترانجيه) ثم عَدلوا عن ذلك لأن سمعتها كانت سيئة (فهي مؤلفة من المرتزقه وهي أداة استعمارية قذرة) وفكرا بالالتحاق بمدرسة البوليس الفلسطيني ثم انصرفا عنها . ولذا ظل تدريبهم العسكري محدوداً. (6) غير أن العمل العسكري ظل يشغل بالهم رُغم كَونهم من المُتعلمين والمثقفين في البلد في تلك الفترة ، فَكِلا الرجُلان (سامي وبهجت) يَعملان في التدريس، ووضعهم المادي جيد .

في العام 1934 شكل مَجموعة من شباب القدس تَنظمياً مُسلحاً لمقاومة الاحتلال البريطاني حيث بات الخطر اليهودي عبر الهجرة للبلاد واضحاً وقد أدرك هؤلاء الشباب دور الاحتلال البريطاني وخدمتهم لليهود. وكان من شباب هذا التنظيم:( الشهيد سامي الأنصاري وبهجت أبو غربية ، الشهيد الشيخ عبد الحفيظ بركات (استشهد في موقع نمرة قرب الخليل سنة 1936)، والشيخ ياسين البكري، وعزت عبد المنعم أبو غربية، أحمد المحتسب، ومحمد سعيد بركات، وعبد القادر ادكيدك....الخ. (7) وكان لاستشهاد الشيخ عز الدين القسام أثر في نفسياتهم إذ شجعهم ذلك على مواصلة مسيرتهم والبدء بأعمال جهادية كانوا قد خططوا لها.

وكان أبرز ما قام به هذا التنظيم السري الذي تشكل في القدس من هؤلاء الشباب: احراق مخازن (زلبرشتاين) في شارع يافا، ومخازن أخرى في سوق الشماع، وكانوا قد خططوا لإغتيال المندوب السامي البريطاني (آرثر واكهوب) وبذلوا الكثير من الجهد والوقت كالتدريب والاستطلاع والترصد. إلا أنهم وصلوا الى طريق مسدود حيث أن بساطة الأسلحة التي معهم وشدة الحراسة على المندوب السامي حالت دون نجاح العملية.(8)

وقد حاول سـامي الأنصـاري وبهـجـت أبو غربية اغتيال المندوب السامي حيث حاولا الاقتراب من المندوب السامي أثناء وجوده في حفلة ألعاب لمدارس لواء القدس وكانا يحملان مسدسين صغيرين، فلم يُمكنهما الحرس من الاقتراب إلى مدى رماية المسدس الفعالة. (9)

ولم يقتصر عملهم الجهادي على احراق المخازن والتضييق على اليهود إذ باتوا أمام الأحداث الملتهبة وتطور الأمور يُدركون حاجتهم إلى السلاح لأن عدوهم يمتلك أسلحة حديثة في الوقت الذي يمتلكون أسلحة متواضعة وبدائية ولذا قرروا في تلك الفترة شراء السلاح من العراق، واتفقوا على أن يسافر بهجت أبو غربية إلى العراق وأن يقوم بشراء مسدسات رشاشة حديثة وأن يُهربها بين صناديق التمر العراقي.(10)

وبسبب قلة المال وعدم توفره لديهم تقرر أن يذهب كل من بهجت أبو غربية وسامي الأنصاري لمقابلة الشيخ سليمان التاجي الفاروقي صاحب جريدة الجامعه الاسلامية ورئيس تحريرها وأن يعرضا عليه الفكرة ويطلبا منه تزويدهم بالمال اللازم. وكان الشيخ الفاروقي من أكبر أغنياء مدينة الرملة ومن مُلاك الأراضي فيها وهو إلى جانب ذلك ينشر في جريدته مقالات بليغة نارية تملأ الشباب حماسة واندفاعاً. وهو من المعارضين للحاج أمين الحسيني ويرى نفسه أحق بالزعامة منه.

وتم السفر إلى الرملة وقابلا الشيخ الفاروقي في ديوانه وقد عرفاه بأنفسهم فرحب بهم ، ثم شرحا له عن مُنظمتهم وغايتهم من زيارته. ومن دون أن يفكر أجابهم: ( يا أبنائي أنا صحيح صاحب أملاك كبيرة، ولكنني لا أملك نقداً، لذلك لا أستطيع تلبية طلبكم) ثم فكر قليلاً بعد أن توسلا إليه وقال: ( أستطيع أن أقدم لكم نصيحة قد تساعدكم. اتصلوا بالشيوعيين! اتصلوا بالشيوعيين!). وخرجا من ديوانه يجرون أذيال الخيبة. (11)

غير أن حماسهم ودافعيتهم للجهاد لم تتوقف فواصل الشهيد سامي الأنصاري طريقة الجهادي مع رفاقه رغم قلة السلاح وانعدامه. ولم تثنهم الأحداث عن طريقهم الذي اختاروه.

وفي ثورة العام 36 ومع اندلاع الثورة في كل فلسطين تقدم الشهيد سامي الأنصاري مع رفاقه في القدس ليسطروا أعظم البطولات وليكتبوا بجهادهم بطولات القدس ومحطات مشرقة من تاريخها الثوري. فكانت عدة عمليات قام بها هذا البطل الشجاع الذي يفيض حماسة ورجولة ومنها :

1- عملية سينما أديسون:

وهي عملية بطولية نفذها الشهيد سامي الأنصاري ضد اليهود في سينما أيسون بالقدس وكان لقتل اليهود في السينما أثر مذهل جداً على العرب واليهود (12)

ذكر الاستاذ خليل السكاكيني في رسالته لإبنه سري في 1951936 : ( .. ولعلك قرأت عن بطولة ذلك الشاب العربي الذي دخل الى قلب الأحياء اليهودية، الى سينما أديسون، فلما خرج الناس من السينما وقف في الباب وأخذ مسدسه وأطلق خمس رصاصات فقتل ثلاثة وجرح اثنين، ثم ركب سيّارته واختفى، لم يظهر الى الآن بطولة مثل هذه، إذا استثنينا بطولة الشيخ القسام وعصابته، وما أدرنا أن هذه الأيام سترينا العجب !! ). (13)

وقد تحدث رفيق الشهيد سامي الأنصاري ووصف العملية والترتيب لها، حيث ذكر الأستاذ بهجت أبو غربية تفاصيل العملية وكيف جرى الترتيب لها ثم تنفيذها:

(( تقع سينما أديسون في صميم المنطقة اليهودية بالقدس. وكنا نعرف تلك المنطقة جيداً حيث يقع بالقرب منها مقهى برامونت اليهودي. وكنا أنا وسامي وآخرون نرتاد هذا المقهى لنلعب الشطرنج ولنعقد اجتماعاتنا في الوقت نفسه بعيداً عن الشبهات. ولذلك أوحت لنا معرفتنا بالمنطقة قبل الثورة أن نهاجم هذا الهدف، ولا سيما أننا نتكلم العبرية قليلاً. وبدأنا الاستطلاع والتخطيط. فنذهب إلى المقهى عادة وإلى السينما من شارع عام (شارع يافا) أو شارع المستشفى الألماني . ولكنني اكتشفت طريقاً فرعياً مُتعرجاً يبدأ بحي المصرارة العربي ويمر خلف المستشفى الايطالي في منطقة كان يملكها العرب، فزاد ذلك من حماستنا لأنه طريق مأمون للعودة إلى المنطقة العربية....

وضعنا الخطة أنا وسامي ومثلناها معاً على سبيل التجربة. اشترينا تذاكر لحفلة السينما المسائية ودخلنا السينما وحضرنا الفيلم حتى نهايته وجلسنا في الصالة وليس في (اللوج) ليسهل خروجنا. وعند انتهاء العرض تفتح للصالة ثلاثة أبواب تؤدي إلى شارع جانبي. وعند خروج الناس يتكدسون على الأبواب ونتأخر نحن قيلاً ثم نبدأ باطلاق النار ونفرغ مسدسين وبذلك لن تضيع طلقة واحدة من الأربع عشرة طلقة في الهواء، ونركض مع الهاربين إلى الشارع الفرعي ومنه إلى الطريق الفرعي المرسوم المؤدي إلى حي المصراره حيث يسكن سامي. وبعد المصرارة يكون دخولي إلى البلدة القديمة سهلاً حيث يقع بيتي. هكذا وضعنا الخطة وجربناها، ثم حددنا ليلة التنفيذ.

في الليلة المقررة في أواخر أيار/ مايو 1936، التقيت وسامي وكل واحد يحمل مسدسه و7 رصاصات احتياطية، وقبل أن نتوجه إلى العمل بقليل سمعنا من الإذاعة اعلاناً يفرض منع التجول على البلدة القديمة حيث أسكن... فاقتحرت التأجيل واعترض سامي بشدة قائلاً : (أنا أنفذ العملية وحدي، أنا وأنت سنطلق 14 طلقة. فلماذا لا أذهب وحدي وأحمل المسدسين وأطلق النار من المسدسين في آن. فرفضت الفكرة بشدة وأصررت على التأجيل وتجادلنا طويلاً، وأخيراً ناولته مسدسي وتمنيت له التوفيق وفي عيني الدموع.

فانطلق رحمه الله غير هياب ولا وجل ، ونفذ العملية بالشكل المرسوم مع تعديل اضطراري، وذلك أننا لم نكن تدربنا على اطلاق النار من مسدسين في آن. فشهر مسدسه في الوقت المناسب وأخذ يطلق النار عازماً على استعمال المسدس الثاني بعد افراغ رصاصات المسدس الأول. وهنا أيضاً وبعد انطلاق خمس رصاصات فقط توقف مسدسه عن الاطلاق...

وكان بالقرب من سامي يهودي ويظهر أنه أحمد العمال أو الحراس فأمسك به فضربه سامي بمسدسه على رأسه فأطاح به أرضاً وركض مع الراكضين، فلم يتمكن من اطلاق رصاصات المسدس الثاني...

الكل خارج من السنما يركض وسامي يركض معهم ، ويسأله يهودي (ما ييش) أي ماذا يجري؟ فيجيب سامي بالعبرية (أني لو يديع) أي لا أعرف. ...الخ)(14)

وكانت نتيجة هذه العملية البطولية التي نفذها الشهيد سامي الأنصاري رحمه الله مقتل ثلاثة من اليهود وجرح اثنان، يعني أن كل رصاصة أصابة أحدهم ولم تذهب أيٌّ من رصاصاته في الهواء. إذ كان كما يبدو مجيداً لاستخدام السلاح مما كتب لهذه العملية النجاح. ظهرت شجاعة سامي في هذه العملية البطولية التي أحدثت ضجة كبيرة في القدس وكان لها أثر كبير على نفسيات العرب .

وقد قامت الشرطة البريطانية بالمدينة بإتخاذ تدابير واجراءات لمنع وقوع مثل هذه الأعمال البطولية . وكان قائد الشرطة في المدينة قد بالغ في معاقبة الناس وملاحقتهم وإذلالهم انتقاماً من هذه العملية الشجاعة. وقد طلب البوليس من اليهود دفن قتلاهم ليلاً. (15)

وكان اهتمام السلطات شديدا في البحث عن العربي الذي أطلق النار على اليهود أمام سينما أديسون، وقد وصفه المشاهدون بأنه طويل القامة، نحيف الوجه، مجعد الشعر ،وعممت أوصافه على جميع المخافر . وقد احتشد الآف من اليهود في أحيائهم الجديدة وحاولوا السير نحو المدينة القديمة ففرقهم البوليس، وقابل وفد منهم المندوب]السامي[ مطالبا بالجد في اعتقال العربي. وأغلق اليهود حوانيتهم واشتركوا في تشييع القتلى الذين لم يدفنوهم ليلا كما طلب منهم البوليس...(16)

2- الهجوم على قائد شرطة القدس البريطاني:

(آلن سيكرست) مفتش بوليس انكليزي من أصل يهودي. وكان استعمارياً حاقداً، أراد أن يذل شباب القدس وأن يُرهبهم. وازاد شراسة بعد الهجوم على سينما أديسون وبخاصة بعد مقتل الشرطة البريطاني (بيرد) في شوارع القدس القديمة. كان يتجول يوميا بسيارته (الموريس)الصغيرة، وخلفها سيارة حراسة، وكلما رأى شابا أو أكثر يسيرون في الشارع يتوقف وينهال عليهم ضربا بعصاه وبيده وبرجليه من غير أي سبب. وقد جاوز طوره في الفضاعة يمر في الطريق فلا يسلم أحد من أذاه، يلكم هذا، ويرفس ذاك ويهين الكبير والصغير حتى كبار الموظفين من العرب، واذا دخل بيتاً يفتش عن سلاح ضرب النساء والأطفال وأتلف الأثاث، ومزّق وكسّر وكبّ والأمة تشكوه إلى المندوب السامي على غير جدوى (17).

(إن سيكرست ضابط البوليس الوحش، كان على أثر أي حادث أو تظاهرة، تصيبه الصرعة ويستحوذ عليه الجنون فيسير في الشوارع غطريساً بيده سوط يضرب به كل من يشاهده ماراً، يصفع هذا أو يركل ذاك، أو يشتم هذا وذاك، وما أكثر ما لكم الأبرياء. (18)

ومن جرائمة وفضائعة التي لا عد لها في القدس : (في أثناء الحوادث صعد إلى دار النادي الرياضي العربي بالقدس فوجده مغلقاً، فعرج على وكالة جريدة الدفاع فوجد السيد صبحي قطينة يخابر بالتلفون، فهوى على رأسه بهراوته دون ما سبب وكسر جمجمته وشوه وجهه، ثم عاد إلى النادي الرياضي فحطم بابه واقتحم غرفه وحطم أثاثه ومزق أوراقه، ثم غادر النادي إلى الشارع يضرب المارة دون وعي وتفريق. وكان ممن أصابهم: الشيخ الجليل حسام الدين جارالله وأمين بك التميمي والشيخ سعد الدين الخطيب والاستاذ جلال زريق والدكتور عبدالله مغربي والاستاذ عبد القادر الحسيني. ولم تنفع الشكاوي في ردعه. وفي محاكمة السيدين حسن صدقي الدجاني وصالح عبده تجمهر البعض فهجم عليهم وضربهم. ويوم قتل نمساوي بيد يهودي مشى العرب في جنازته، فباغت هذا الضابط الموكب (موكب الجنازة) بالضرب وفرقه بالقوة، وحال دون وصول الجثمان إلى الكنيسة مما اضطر حاملوه إلى نقله للمقبره رأساً بلا طقوس دينية، وكان بعض شباب العرب في المقبرة ينتظرون وصول الجثة فلما وصلت وانهمك البعض بانزالها الى اللحد، حاول أحد المشيعين العرب أن يقول كلمة عزاء، وإذا بسيكرست يصل ليضرب المشيعين ويفرق الجمهور ثم يخرج ليقول (لتوفيق وفا الدجاني): " مين طلع راس ؟ مين انتصر؟ أنا أم أنتم ؟ انني منعت وصول الجثمان إلى الكنيسة" (19)

ولم يرتدع هذا المجرم ولم يوقف فضائعة وجرائمه بحق أهل القدس، وحتى الحكومة والمندوب السامي أغظوا الطرف عن جرائم هذا الوحش عديم الانسانية ولم يكترثوا بالشكاوي التي قدمت ضده. ((واستمر سيكرست في فضاعته مما اضطر أمين سر اللجنه العربية العليا الاستاذ عوني عبد الهادي إلى أن يقابل السكرتير العام مرتين للشكوى عليه، ولكن أذن السلطة ظلت صماء!. وقدم القائمقامون السادة: خلوصي الخيري ونظيف الخيري ونقولا سابا ووديع منطورة، شكاوي ضده على انفراد فلم تصغ السلطة لشكاواهم. وقد أبرق الاستاذ شكري قطينة، شقيق صبحي بالبرقية التاليه على اثر ضرب أخيه:

المندوب السامي القدس

"وحشية سيكرست ألقت بأخي طريحا في المستشفى بجراح خطيرة . إذا لم تؤدبه الحكومة وتقطع يده التي اعتدت على الأبرياء فسنؤدبه نحن ومرحى للموت خلاصاً من ظلمكم" )).(20)

ولعل الدافع لقتل سكرست لدى الأنصاري وأبو غربية هو اعتراض دورية للشرطة لسامي الأنصاري وبعض أصدقائه الذين كانوا يسيرون في الشارع حيث ضربوا سامي ضرباً مبرحاً مهيناً. ولذا قرر سامي الثأر منهم ولذا اقترح سامي على أبو غربية الهجوم على مركز الشرطة في المدينة( الترافيك)، فاقترح أبو غربية بأن يكون الهجوم على سيكرست ووافق سامي واتفقا على ذلك.(21) وقيل إن سكرست صفع الاستاذ الأنصاري أثناء عملية التفتيش التي كان يجريها على الناس بشراسة وفضاضة عند الهوسبيس النمساوي.(22)

ولم تتخلص الأمة من هذا الوحش حتى أطلق فتى فتياننا ومفخرة شبابنا سامي الأنصاري النار عليه.(23) وبذلك استراحت الأمة من شره وجرائمه لا رده الله ولا رحمه.

أما تفصيل تلك العملية الشجاعة التي تعد صفحة مجيدة من جهاد شعبنا وبطولات أبناء القدس فقد قام الشابان المجاهدان بمراقبة سيكرست لمدة شهر بشكل يومي لتحديد كيفية تنفيذ العملية فتبين أنه في كل يوم جمعه في الساعة الحادية عشرة يتوجه بسيارته التي يقودها بنفسه للتفتيش على مخفر باب الأسباط من دون أن ترافقه سيارة الحراسة، ومعه حارس واحد يجلس إلى جانبه.(24)

وكان هذا التصرف يدل على وعيهم وفهمهم الصحيح للعمل العسكري، إذ لم تكن عملياتهم ارتجالية أو عفوية. ولذا درسا عن قرب مخطط تنفيذ مهمة اغتيال هذا الضابط. وتقرر أن يهاجمه سامي وأبو غربية عند مدخل وادي الجوز عند عودته من تفتيش مخفر باب الأسباط . وذلك لأن سيارته الصغيرة تكون صاعدة صعوداً صعباً فتكون بطيئة، ويجري الهجوم عند مفترق طرق...

(( وفي صباح 12 حزيران/يونيو 1936 .. ذهبنا في الوقت المحدد إلى مقبرة باب الأسباط وكمنّا في مكان مُلائم قرب برج لقلق. ونحو الساعة الحادية عشرة رأينا سيارة سيكرست تمر مُتجهة الى مخفر باب الأسباط ، وكان من عادته أن يعود حالاً بعد التفتيش. فنزلنا إلى الشارع العام (طريق أريحا) حيث (طلوع ستنا مريم) عند مفترق وادي الجوز، الطور، كرم الشيخ.

كان سامي مُمسكاً بمسدسه الجاهز للاطلاق وقد دسه مع يده في جيبه، وأنا أمسك بمسدسي جاهزاً للاطلاق وقد غطيته مع يدي بطروشي فقط. وأقبلت السيارة وكنا نسير وسط الطريق وكأننا في نزهة إلى أن وصلت السيارة صاعدة عقبة (ستنا مريم) ببطء. كُنا إلى يسار السيارة إلى الجانب الذي فيه سيكرست وكان يقودها بنفسه وإلى جانبه الحارس، وكنا اتفقنا أن نوجه نحن الاثنين النار إلى سيكرست أولاً ثم إلى الحارس باعتبار أن الحارس مسلح ببندقية ولا يستطيع أن يستعملها وهو داخل السيارة. كنا اتفقتا أن نقترب جداً من السيارة وأن لا نسرع في الرمي خشية أن يضيع رصاصنا في جسم السيارة.

وصلت السيارة إلى محاذاتنا فبدأنا أنا وسامي اطلاق النار على سيكرست من مسافة متر واحد، فأصيب فوراً، وألقى برأسه وجسمه إلى الخلف رافعاً يديه فوق المقود، كما رفع قدمه عن البنزين فتوقفت السيارة، ثم راحت تنحدر إلى الخلف لشدة انحدار الطريق.

إلا أن عدة مفاجآت جرت تباعاً: فاجأنا حارسه باطلاق النار من مسدس كان بيده وبدأ يرمي في اللحظة نفسها التي بدأنا فيها الرمي. والظاهر أنه اشتبه بحركتنا وسيرنا وسط الطريق فهيأ مسدسه قبل أن يصلنا..

أطلق سامي رصاصاته وانسحب بسرعة وذلك لأنه أصيب منذ بدء الهجوم برصاصة اخترقت صدره من اليمن الى اليسار فمزقت رئتيه. فيما واصل بهجت اطلاق النار حتى أصاب الحارس، ثم لاذ بالفرار مُبتدعاً عن الموقع.

أما سامي فإنه تحامل على نفسه وحاول الإبتعاد وقد ساعده أحد المارة وهو قاسم الريماوي وأدخله أول بيت صادفه.. إلا أن القوة العسكرية التي وصلت للمكان شاهدته يدخل البيت فداهمت البيت فوراً وقبضت عليه وهو ما زال حياً، ونقلوه إلى سجن مستشفى الحكومة بالمسكوبية من دون اسعاف .

وجرى التحقيق مع سامي وهو في المستشفى لمعرفة الشخص الذي كان معه في تنفيذ العملية غير أنه كان يُردد بالعربية والانكليزية بأنه لم يكن معه أحد. وفارق الحياة بعد ثلاث ساعات من اصابته.(25)

ويذكر بأن الشهيد الأنصاري أثناء وجوده بالمستشفى قد أدلى لشقيقه عبد القادر الأنصاري وأهله ببعض اعترافات عن بطولات قام بها، ومنها حادثة سينما أيسون. ثم قال لهم: ( لا تحزنوا، فقد قمت بواجبي) مما دل على فتانا هو ابن الثورة البكر وبطلها الحلاحل)(26)

وقد وصف الأديب السكاكيني المشهد بقوله:( ومما يؤسف له الأسف الشديد أن الجند الانكليزي الذين حملوه في السيارة إلى المستشفى، لم يتورعوا أن ضربوه بأعقاب البنادق اجهازاً عليه وهو جريح، فكان يرفس هذا برجله، ويلكم ذاك بيده...) (27)

عمّ خبر العملية البطولية التي نفذها الشهيد سامي الأنصاري وعمّ الفرح لمقتل سيكرست المجرم، لكن فرحة الناس لم تكن مكتملة إذ خيم الحزن على القدس لاستشهاد هذا البطل الشجاع.

وَأُقِرَ دفنه مساء اليوم نفسه بعد أن يُصلى عليه في المسجد الأقصى ، على الرغم من أن ذلك يتعارض مع أوامر منع التجول التي كانت مُعلنة على البلدة القديمة في القدس. وقد حضر الصلاة عليه في المسجد الأقصى جموع غفيرة وسارت جنازته بحشد مهيب وبحضور شخصيات وطنية كبيرة. وقد دفن في (مقبرة الرحمة) عند باب الأسباط . وقد ذهبت الأمة كما أشار السكاكيني في يومياته للعزاء بهذا الشهيد: ( ذهبت الأمة بالأمس إلى بيت ذلك الأب الذي أنجب مثل هذا البطل، فكانوا يهنئونه لا يعزونه، وكان هو يفخر بولده البطل وحقّ له أن يفخر.) (28)

وقد رثاه : الشاعر الفلسطيني الراحل :إبراهيم طوقان بقصيدة (الفدائي) :

لا تسل عن سلامته روحه فوق راحتــــــــه

بَـدّلـتـه هـمـومه كـفـنـاً مـن وســـادتـــــــــه

يرقب الساعة التي بعدها هول ساعتـــــــــه

شــاغـل فـكر مـن يراه بإطـراق هامتــــــــه

بـيـن جـنـبـيـه خـافـق يـتـلـظّـى بغايتـــــــــه

من رأى فحمة الدجى أضرمت من شرارتـه

حـمـلتـه جـهـنـم طــرفـاً مـن رســالـتــــــــه

***************

هـو بـالـبـاب واقــف والـردى مـنـه خــائــف

فـاهـدأي يـا عـواصـف خجـلاً من جراءتـــه

*****************

صــامــت لــو تـكلـمـا لـفـظ الـنـار والـدمـــا

قــل لـمـن عـاب صـمتـه خـلـق الحـزم أبكما

وأخــو الحــزم لـم تـزل يـده تـسـبـق الـفـمـا

لا تلـومـوه قـد رأى مـنـهـج الحــق مـظـلمـا

وبــلاداً أحــبـهـا ركــنـهـا قـــد تـهـدمــــا

وخصوماً ببغيهم ضجت الأرض والسمـا

مــر حـيـن فـكــاد يـقـتـلـه الـيـأس إنـمــا

***************

هـو بالـبـاب واقـف والـردى مـنـه خـائـف

فاهـدئـي يا عـواصـف خـجـلاً مـن جراءته

أما صديقه ورفيقة في الجهاد بهجت أبو غربية فقد سطر لنا سيرته وروى لنا شجاعته وقد رثاه بقوله:

(.. رحمك الله يا سامي قدمت باستشهادك مثلا للأجيال جديراً بأن يُقتدى، وغرست جسدك في تُراب باب الأسباط (مقبرة الرحمة) على بُعد أمتار من سور القدس فأضفت إلى قُدسية أرضنا ووطنا قُدسِيَة جديدة، ولا بُد أن تُفَرِخَ هذه الغرسة وتنبت وتينع وتثمر ثمار الحرية. وسلام عليك، وعلى رفيقك فريد العوري الذي دفن إلى جانبك بعد اسبوعين من استشهادك، وسلام على شهدائنا أجمعين. " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يروقون".).(29)

ثم كان الثأر للشهيد سامي الأنصاري على يد رفيقه إذ قتل في ذات الموضع الذي استشهد به سامي ضابط من سلاح الطيران البريطاني وأصاب آخر وذلك ثأراً لرفيقة وصديق دربه.(30)

كان الفرح بمقتل هذا المجرم كبيراً (فكان لهذا الحادث أثره البالغ في نفوس العرب عامة والمتعلمين خاصة، وفرحت نابلس وترحمت على الشهيد لأن سيكرست كلن ينوي المجيء لنابلس وتمثيل دوره فيها.(31)

أما الانكليز فقد خففوا من حدتهم بعد محاولة اغتيال سيكرست(32) . وقد وردت أبناء لندن أن الضابط سيكرست قد فصل من الخدمة محالاً على التقاعد بسبب عجزه عن العمل واستحالة برئه من الشلل والاصابات الخطيرة في جميع أنحاء جسمه. (33)

خُتمت بهذه الشهادة صفحة راقية من جهاد شباب القدس وبطولاتهم، ولا تزال القدس وشبابها، بل فلسطين كُلها تذكر جهاد هؤلاء الأبطال أمثال سامي الأنصاري، تقدم سامي إلى العُلا شهيداً وقد سَطر في صفحات المجد اسمه وخلّد بين المجاهدين ذكره. كذلك نحسبه والله حسيبه.

فرحمك الله أيها الشهيد وأحسن اليك وجمعنا بك في الجنان مع شهداء أمتنا الأبرار الأطهار









[email protected]

. .

1- يوميات خليل السكاكيني – الكتاب السادس(1935-1937) ص 262

2- المصدر السابق.

3- الحركة الوطنية الفلسطينية(1935-1939) أكرم زعيتر ، ص 179

4- في خضم النضال العربي الفلسطيني، مذكرات بهجت أبو غربية، ص22.

5- مذكرات بهجت أبو غربية ص 65

6- المصدر السابق. ص 64

7- المصدر السابق. ص 48

8- المصدر السابق. ص 50

9- المصدر السابق. ص 50

10- المصدر السابق. ص 65

11- المصدر السابق. ص 65

12- مذكرات محمد عزت دروزة، المجلد الثاني، ص 49

13- يوميات خليل السكاكيني – الكتاب السادس(1935-1937) ص 253

14- بهجت أبو غربية ص 68- 70

15- مذكرات محمد عزت دروزة، المجلد الثاني، ص 30

16- المصدر السابق.

17- يوميات خليل السكاكيني – الكتاب السادس(1935-1937) ص 263

18- الحركة الوطنية الفلسطينية(1935-1939) أكرم زعيتر ، ص 178

19- المصدر السابق ص 178.

20- المصدر السابق ص 179.

21- مذكرات بهجت أبو غربية ص75

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل