المحتوى الرئيسى

في الذكرى الرابعة لغزو العراق بقلم:معن بشور

11/14 22:18

رؤى استباقية -2-

 

        (مع إعلان الرئيس الأمريكي باراك اوباما عن سحب كامل قوات الاحتلال الأمريكي من العراق نهاية العام 2011، ومع كل احتمالات الالتفاف على هذا الإعلان عبر بقاء قوات أمريكية على شكل مدربين أو حرس للسفارة والقنصليات الأمريكية الخمس الموزعة في كل أنحاء العراق أو شركات أمنية، يبقى الجلاء الأمريكي انجازاً صافياً حققته المقاومة العراقية الباسلة ومع الشعب العراقي العظيم الرافض للاحتلال وكل أشكال التدخل الخارجي.

على أن أهمية الانجاز الذي حققته المقاومة العراقية مع كل أطراف المقاومة العربية والإسلامية في لبنان وفلسطين وأفغانستان وكل قوى المانعة في المنطقة، لا ينحصر بالعراق وحده بل امتدّ ليشمل المركز الامبريالي نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية التي باتت تنوء اليوم  بأعباء إنفاقها العسكري وبانكشاف الخلل البنيوي في اقتصادها واستراتيجياتها ومجتمعها وسمعتها.

وما المحاضرة التي ألقاها الأستاذ معن بشور عام 2007 في بيروت في الذكرى الرابعة لغزو العراق تحت عنوان " السنوات الأربع التي أسقطت المشروع الإمبراطوري الأمريكي" إلا واحدة من تلك الرؤى الاستباقية لمصير المشروع الأمريكي نفسه في وقت ظن البعض إن الهيمنة الاستعمارية والصهيوني هي قدر لا يرد.

        وفيما يلي إعادة لنشر ذلك النص)


في الذكرى الرابعة لغزو العراق

"السنوات الأربع التي أسقطت المشروع الإمبراطوري الأمريكي"[1]

معن بشور

بيروت  19/3/2007


مقدمة:



يعّز علينا ونحن نفتتح هذا اللقاء أن نرى المسيرات الشعبية تنطلق في عواصم العالم ومدنه، لا سّيما أمام البنتاغون في واشنطن وفي لوس انجلوس عاصمة الساحل الغربي الأمريكي، مطالبة بسحب قوات الاحتلال في العراق ولا نرى تحركات شعبية مماثلة في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي حيث الشعوب مكبّلة أما بقيود الحكام أو بانشغالات الحياة اليومية أو بانقسامات السياسة، ولكن ما يعّزينا أننا في بيروت لم نفارق معاناة شعبنا العراقي يوماً واحداً، ولا تركنا فصلاً واحداً من فصول عطائه المتدفق، بل كنا وهذا الأهم واثقين جداً، حتى في الأيام القاتمة التي رافقت احتلال بغداد، إن قوات الاحتلال ستتحطم على أسوار بغداد وفي بساتين بغداد، بل على أسوار كل مدينة وبلدة وقرية عراقية وفي شوارعها الفسيحة أو الضيقة، وكنّا مدركين إن الجبروت الأمريكي غير المسبوق بقوته سيكون قادراً على احتلال العراق لكنه لن يكون قادراً على السيطرة على هذا البلد العزيز المنيع الذي تحطمت فوق ترابه الكثير من الغزوات.


أما عزاؤنا الآخر في هذه المناسبة، أن الأخبار قد حملت نبأ محاكمة السيد كونراد بلاك صاحب صحيفة الدايلي تلغراف اللندنية بتهم الفساد واختلاس اكثر من 84 مليون جنيه استرليني ، وهي تهم حاولت صحيفته لاسباب صهيونية ان تسوقها، دون جدوى، ضد واحد من ابرز احرار العالم، واصدقاء العرب النائب البريطاني جورج غالاواي في محاولة لترهيبه وثنيه مع غيره من شرفاء العالم، عن دعمهم لشعب العراق، وشعب فلسطين وشعب لبنان، تماماً كما تحاول اوساط عديدة ان ترهب مناضلين آخرين سواء بالشائعات المفبركة او لوائح الافتراء والتضليل، ولكنهم لا يدركون ان الحقيقة ساطعة لا يمكن حجبها، وان الشعوب منتصرة لا يمكن لجمها، وان الاحرار ثابتون في مواقفهم لا يمكن ان يتراجعوا او يتخاذلوا.


ايها الاخوات والاخوة


في بداية حديثي عن "السنوات الاربع التي اسقطت النظام الامبراطوري" لا بد من تسجيل جملة ملاحظات واستدراكات تتصل بعنوان الحديث، كما بمضمونه.


الملاحظة الاولى: ان الحديث عن سقوط النظام الامبراطوري الامريكي لا يعني اطلاقاً نهاية النفوذ الامريكي في العالم، ولا حتى عن سقوط المرّكب الصناعي – العسكري المتحكم بصناعة القرار في واشنطن، والذي تحدث عنه عام 1952 الرئيس الامريكي الراحل ايزنهاور وهو يغادر البيت الابيض، بل هو حديث بالدرجة الاولى عن سقوط التجّلي الاكثر عدوانية، والاكثر شراسة، والاكثر تعلقاً بجملة اوهام ايديولوجية واساطير دينية بدأت في البروز في الثمانينات، ووصلت الى ذروتها مع وصول جورج بوش الابن الى سدة الرئاسة في البيت الابيض عام 2000 لتلتهب في الحياة السياسية والعسكرية الامريكية بعد احداث 11 ايلول/ سبتمبر 2001، ولينطلق معها بوش ومحافظوه الجدد في تنفيذ ما اسموه استراتيجية القرن الحادي والعشرين الذي ارادوه قرماً امريكياً.

الملاحظة الثانية: ان المشروع الامبراطوري الامريكي ليس مرتبطاً فقط بالحقبة الراهنة من تاريخ الولايات المتحدة، ولا بالقيادة الحالية فحسب، بل انه مشروع كان يطل برأسه بين الفينة والاخرى، وفي معظم الادارات التي تعاقبت على قيادة الولايات المتحدة، وان كان هذا المشروع قد اتخذ مع بوش الابن ومحافظيه الجدد مظهراً اكثر عقائدية، واقل براغماتية وأشد عناداً وهجومية.

 


فكما يقول زميلنا في الامانة العامة للمؤتمر القومي العربي المقيم في واشنطن الدكتور كمال خلف الطويل في مقالته المعبّرة "حزب الحرب":" لا يجب بحال من الاحوال حصر تبعية هذا الحزب بالجمهوريين.. هذا خطأ يبعد عن الحقيقة سنوات ضوئية. ومن باب الاشارة لا الحصر التنويه عن محورية دور سيناتور ديمقراطي من ولاية واشنطن هو هنري جاكسون والذي من مكتبه تم استيلاد نماذج عرفت بالمحافظين الجدد ومنهم كثر أهمهم ريتشارد بيرل. وما ليندون جونسون وكلارك كليفورد وروبرت ماكنمارا ووالت روستو وسام نن ووليام بيري وليس إسبن وانتوني ليك وجيمس وولسي إلا حفنة من رجالات حزب الحرب الذي يحملون بطاقة عضوية الحزب الديمقراطي والذين يفوقون في تشددهم وصقوريتهم "عقلانيين" من رجالات الحزب الجمهوري أمثال نيلسون روكفلر وتشاك هيغل ووليام روجرز ووليام سكرانتون".


الملاحظة الثالثة: أن الحديث عن السنوات الأربع التي تلت الغزو الانكلو - أمريكي، والمؤامرة الصهيو- امريكية، ضد العراق، لا يعني حصر الحديث بالدور التاريخي والاستثنائي الشجاع للمقاومة العراقية، بكل فصائلها ومستوياتها، في تحويل مأزق الاحتلال في العراق الى مأزق للمشروع الامبراطوري الامريكي برمته في العالم، بل انه يشمل ايضاً تأثير ما شهدته هذه السنوات من صمود بطولي وتضحيات خارقة قدّمها الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال المستمر، والعدوان اليومي، والحصار المتصاعد مبدداً بذلك اوهام اخضاعه واستسلامه لاملاءات العدو وداعميه، كما انه يشمل ايضاً تداعيات الهزيمة المدوية التي لحقت بالكيان الصهيوني، جيشاً وحكومة، مشروعاً وعقيدة، على يد المقاومة اللبنانية الباسلة خلال الصيف الفائت، وهي الهزيمة التي ما زالت تداعياتها متواصلة على كل صعيد، ناهيك عما حققته المقاومة الافغانية من انجازات مع تصاعد الحديث عن انكسار كبير لقوات الاحتلال الاطلسي خلال العام الحالي حسب تقديرات افرايم هاليفي رئيس الموساد الصهيوني في مقالة له في يديعوت احرونوت في 5/3/2007.


الملاحظة الرابعة: أن حديثنا عن تراجع المشروع الامبراطوري الامريكي او سقوطه، وبعد التدقيق في صحة هذه المقولة، ليس مجرد الاقرار بحقيقة تاريخية موضوعية فحسب، بل هو دعوة لاعادة قراءة مجمل التطورات المحلية والعربية والاقليمية والدولية في ضوئها، فيزداد المقاومون والممانعون ايماناً بسلامة نهجهم، واقتناعاً بصوابية خيارهم، وادراكاً لفعالية تأثيرهم، تماماً كما يتراجع الواهمون والمراهنون عن تقديراتهم ورهاناتهم وتنظيراتهم وقد ملأوا بها اجواءنا السياسية والاعلامية التي انطلقت من ان الهيمنة الامريكية والصهيونية قدر ينبغي الاذعان لاملاءاته والانصياع لشروطه.


الملاحظة الخامسة: أن علينا أن نتذكر دائماً، ونحن نواجه موجات الخيبة ودعوات الاحباط وحملات التيئيس التي تحاصرنا من كل حدب وصوب، ان دور المقاومة والممانعة في امتنا على امتداد ساحات المواجهة مع الاحتلال والعدوان والهيمنة، كان دوراً حاسماً في افشال المشروع الامبراطوري على المستوى الدولي وارباك المشروع العنصري الصهيوني على المستوى الاقليمي، في مرحلة كانت سمتها الابرز روح الاستكانة التي طغت على دول كبرى، وقوى عظمى، وأمم متقدمة، امام السطوة الامريكية المتمادية، كما طغت روح الانصياع والاذعان والتواطؤ للاملاءات الامريكية على العديد من انظمة المنطقة وقياداتها في العديد من الأزمات.

ان هذه المقاومة العربية والاسلامية لم تسهم في تحرير ارادة الامة من الخنوع والخضوع فحسب، بل انها بارباكها القوة الاعظم في العالم انما تساهم في تحرير العالم بأسره، بل في تحرير المجتمع الامريكي نفسه الذي ينتفض اليوم على سياسات ادارته، وفي مساعدة دول كبرى على التململ في وجه القطب الامريكي الاوحد بما يفتح الطريق لميزان جديد في العلاقات الدولية يولد أساساَ من رحم مقاومتنا العربية والاسلامية عموماً، ومقاومتنا العراقية خصوصاً.


الملاحظة السادسة: أن الحديث عن سقوط النظام الامبراطوري الامريكي لا يجوز ان يفهم بأي حال من الاحوال سقوطاً لعلاقة نحرص عليها مع الشعب الامريكي، ومع مجتمعه الزاخر بعناصر القوة والمعرفة والتقدم، بل على العكس من ذلك تماماً فان سقوط هذه النزعة الامبراطورية يؤدي الى سقوط حاجز كثيف بين امتنا والمجتمع الامريكي الذي وقفت طلائعه وقواه الحية ضد حروب ادارته على بلادنا منذ سنوات وحتى الساعة.

بل انني اجد نفسي مضطراً لان اردد ما قلته في كلمة في الالاف من شباب لبنان وطلبته المعتصمين امام السفارة الامريكية في عوكر في مثل هذه الايام قبل عامين: "بأننا هنا لكي نوجه رسالة الى الشعب الامريكي نقول فيها نحن ضد سياسة ادارتكم التي تقتل ابناءكم كما تقتل ابناءنا، وتنهب مواردكم كما تنهب مواردنا، وتسيء الى قيمكم ومثلكم كما تسيء الى قيمنا ومثلنا".


الملاحظة السابعة والاخيرة: هي ان سقوط المشروع الامبراطوري الامريكي، لا يعني حتمية صعود المشروع النهضوي العربي، وان كان ذاك السقوط يزيح عقبة رئيسية من امام نهضتنا وتقدمنا، ذلك ان لنهوض امتنا ايضاً شروط ذاتية تكمن في بناها وعلاقاتها ومستوى وعيها وقدرتها على توحيد طاقاتها وتنمية اقتصادها، واحترام حرية انسانها وحقوقه، وتحقيق العدالة بين ابنائها وصياغة العلاقة المتجددة الصحيحة مع تراثها الحضاري، فلا انكار للقيمة الروحية والثقافية الضخمة لهذا التراث، ولا الجمود في أسره بعيداً عما يشهده الكون من تقدم وتحديث وتطور انساني وعلمي وتكنولوجي.


ايها الاخوات والاخوة...


قبل اكثر من عقدين ونيف، وفي كتابه "صعود الامبراطوريات وسقوطها"، الذي بدا وكأنه سباحة عكس التيار السائد آنذاك، قدم المفكر الامريكي الشهير بول كينيدي رؤيته لسقوط الامبراطوريات بما اسماه حينذاك "بالتمدد العسكري" لهذه الامبراطوريات والذي يفوق قدراتها وامكاناتها الاقتصادية والبشرية، فيتحول الى عبء عليها يقود حتماً الى تراجعها وانكفائها.


ولقد تكرر هذا "التعبير" في الآونة الاخيرة على لسان كبار القادة العسكريين والاستراتيجيين الامريكيين كالجنرال جون ابي زيد قائد القيادة المركزية الوسطى للقوات الامريكية الوارد في العدد ما قبل الاخير من مجلة "الايكونوميست"، وعلى لسان الجنرال بيتر بابس رئيس هيئة الاركان المشتركة الامريكية امام الكونغرس والذي نشر في صحيفة الواشنطن بوست (27/2/2007) الذي قال: "ان القوات العسكرية الامريكية في حال تآكل، وانه بسبب تقييدها بطلبات الحرب على العراق وافغانستان فانها لمخاطرة كبرى ان تتجاوب بسرعة وبشكل كامل لمتطلبات ازمة جديدة".


ومارشال الجو البريطاني، قائد القوات المسلحة السير جون ستيرأب استعمل تعبير كينيدي ذاته" التمدد" امام لجنة الدفاع في مجلس العموم البريطاني حين قال: "بان التزامات بلاده الحالية لن تسمح بأي تورط في أي قتال واسع لسنوات قادمة (مجلة التايمز 7/3/2007".

وفي اشارة الى حجم العقبات التي يواجهها جيش الاحتلال الامريكي في العراق اعلن فريق بغداد للادمغة (Baghdad Bran Trust) وهو الفريق الاستشاري للجنرال باتريوس قائد القوات الامريكية الجديد في العراق  مطلع الشهر الجاري، وحسب صحيفة الغارديان ، "ان الستة الاشهر القادمة هي فرصتنا الاخيرة حيث الخيار المطروح "انجح او اترك"Make it or Break .


وفي معرض تعداد العقبات التي تواجهها قوات الاحتلال اشار الفريق الاستشاري الى خمس عقبات:

1.      قوات غير كافية على الارض.

2.     تفكك التحالف الدولي.

3.     توقع بازدياد العنف في الجنوب مع انسحاب القوات البريطانية.

4.     مشكلات لها علاقة بمعنويات الجنود مع ازدياد الخسائر (واحد من كل اربعة مصاب باضطراب نفسي او عقلي حسب تقرير طبي(

5.     الارادة السياسية في واشنطن و(او) في بغداد.


ان هذا المأزق العسكري الكبير هو الذي دفع صحيفة لوس انجلوس تايمز ان تنقل في عددها الصادر في 12/3/2007 ان مخططين عسكريين امريكيين بدأوا باعداد خطة للتراجع تشمل انسحاباً تدريجياً وتركيزاً على تدريب القوات العراقية بالاستفادة من التجربة الامريكية في السلفادور.


الصحيفة الصادرة في الساحل الغربي للولايات المتحدة، والتي كانت اول من كشف خلال حرب تموز ان الاعداد العسكري الاسرائيلي لهذه الحرب قد بدأ قبل عام على العدوان، نقلت أيضاً على لسان مسؤول في البنتاغون "هذا الجزء من العالم (الشرق الاوسط) لديه حساسيته تجاه الوجود الاجنبي وان امامنا (أي الجيش الامريكي) فرصة قصيرة نسبياً".


واقرار هذا المسؤول الامريكي جاء نتيجة الكثير من استطلاعات الرأي التي اجراها البنتاغون نفسه، والعديد من الاجهزة الامريكية داخل العراق، والذي اظهر بشكل عام ان اكثر من 3/4 العراقيين يعتقدون ان حال العراق اليوم أسوأ مما كانت عليه قبل الاحتلال، وان وجود الاحتلال يتسبب في تردي الوضع الامني الذي سيصبح افضل في غياب قوات الاحتلال.


ولقد توج هذه التحذيرات السيد بريجنسكي مستشار الامن القومي للرئيس الامريكي الاسبق جيمي كارتر، واحد كبار المعارضين للحرب على العراق قبل اندلاعها، الذي قال في مقالة له بعنوان" خارطة طريق للخروج من العراق " ان الحرب في العراق كارثة تاريخية استراتيجية واخلاقية نفذت بموجب افتراضات زائفة وهي تقوض شرعية امريكا العالمية"، وقد شدد بريجنسكي على ان تؤكد الولايات المتحدة بشكل واضح نيتها بمغادرة العراق، وان تعلن عن انها ستبدأ في اجراء محادثات مع القادة العراقيين "الاصليين" الذين يستطيعون الوقوف على اقدامهم، وهم اولئك الذين يمتلكون سلطة حقيقية خارج المنطقة الخضراء لأن النظام العراقي الذي تعتبره ادارة بوش ممثلاً للعراقيين هو محدد بمساحة اربعة اميال مربعة داخل القلعة الامريكية في بغداد ومحمي بجدار سمكه 15 قدماً".

ولم ينس بريجنسكي في نهاية مقالته ان يدعو الولايات المتحدة الى مسعى صادق وقوي للوصول الى تحقيق سلام اسرائيلي – فلسطيني، لانه بدون حل هذه المشكلة ستظل المشاعر القومية والاصولية في المنطقة ذات تأثير سلبي على الانظمة العربية التي ظلت تُعتبر مساندة للهيمنة الامريكية على المنطقة.


وليم اوتون، احد الجنرالات الامريكيين المتقاعدين وصاحب الخبرة الاستخباراتية العالية كتب في 11/2/2007 في صحيفة الواشنطن بوست "ان النصر ليس احتمالاً امامنا.. وان المهمة لا يمكن تنفيذها، ولا بد من استراتيجية جديدة".


اما البنتاغون نفسه فقد اعد قبل ايام تقييماً كئيباً حسب صحيفة "القدس العربي" الصادرة في لندن... حول تصاعد العنف في العراق حيث لاحظ ان مستوى العمليات العسكرية ارتفع الى الف عملية في الاسبوع بمعدل 140 عملية في اليوم.


وعلى هذا المنوال، تتكرر الخطب والمقالات والتصريحات، من داخل الادارة ومن خارجها، من داخل الكونغرس ومن خارجه، حول حجم الفشل العسكري الذي اصاب "الامبراطورية الامريكية" في العراق وافغانستان، واصاب قاعدتها الصهيونية الامامية المدججة في لبنان وفلسطين.


ولقد رافق هذا الفشل ارقام متزايدة من القتلى والجرحى في صفوف القوات الامريكية ( وهو الرقم المعلن)، وارقام اعلى بكثير في صفوف المتعاقدين الامنيين، وحملة البطاقات الخضراء، والساعين الى نيل هذه البطاقات، فالارقام المعلنة عن عدد القتلى الامريكيين بلغت حتى اليوم حوالي 3250، ومن البريطانيين حوالي 140، ومن دول اخرى 125، اما الجرحى فتتراوح التقديرات لتصل الى 50 الف نصفهم مصاب بامراض نفسية خصوصاً بعد ان كشفت الدراسة الشهيرة التي اعدتها الاقتصادية الامريكية المعروفة ليندا بلايمز ان هناك رقمان لاعداد الجرحى، احدهما معلن من البنتاغون ولا يتجاوز 23 الف جندي، والاخر من دائرة شؤون المحاربين يصل الى خمسين الف جندي.

واذا ربطنا هذا العدد المتزايد من القتلى والجرحى بفضيحة مركز "والترريد" الطبي العسكري، التي اظهرت حجم الاهمال الذي يعانيه الجنود الجرحى في هذا المركز الذي يعتبر واجهة الطب العسكري الامريكي، وقد زاره بوش عدة مرات، وهو اهمال ادى الى استقالة كبار المسؤولين في المركز وصولاً الى وزير الجيش نفسه الذي قدم استقالته ايضاً ليعلن البيت الابيض اعادة النظر في الخدمات الطبية المقدمة للجنود.


اما على صعيد ما يسمى بالحرب على الارهاب فقد كشفت دراسة مفصلة للخبيرين في الارهاب بيتر برغن وبول كوريكشانك واشار اليها المفكر الامريكي نعوم تشومسكي في مقالته واشنطن، طهران النفط، "ان حرب العراق قد زادت "الارهاب" سبعة اضعاف في مختلف انحاء العالم.. ومن شأن تأثير الحرب على ايران ان يكون اكثر".

فهل مأزق المشروع الامبراطوري الامريكي ينحصر بالجانب العسكري، ام يتعداه الى مختلف الجوانب الاخرى؟

السقوط الاخلاقي


في الجانب الاخلاقي مثلاً كان سقوط المشروع الامبراطوري الامريكي مدوياً على عدة مستويات، خصوصاً ان اصحاب هذا المشروع، وخصوصاً الرئيس بوش قد اضفوا على مشروعهم سمة "الرسالة الالهية"، واعتبروا ان ما يقومون به هو "ارادة السماء"، وان الادارة الامريكية الحالية هي "صوت السماء على الارض"، وان حربها ضد ما تسميه الارهاب هي "حرب صليبية" جديدة، وهو بالمناسبة تعبير امتنع اجدادنا العرب والمسلمون عن استخدامه حين وصفوا الحروب المماثلة قبل اكثر من الف عام بحروب "الفرنجة" رفضاً للطابع الديني لهذه الحروب وتأكيداً على طابعها الاستعماري لا سيما ان العديد من المسيحيين في الشرق كانوا من ضحايا تلك الحرب ايضاً.

فالسمة الاولى للا أخلاقية الحرب على العراق كانت "الكذب" بكل معانيه، كذب في الاسباب (وجود اسلحة دمار شامل، وعلاقة النظام العراقي بالقاعدة) وهو كذب سرعان ما انكشف للامريكيين، وكذلك الكذب في المعلومات عن هذه الحرب تمثلت بتأسيس "دائرة تضليل استراتيجية" في البنتاغون كانت مهمتها اخفاء الحقائق وتزييفها خلال الحرب، او بعدها، سواء بواسطة اغراء وسائل الاعلام التي تم تخصيص مبالغ مالية خيالية لاستمالتها، او عبر ارهاب الاعلاميين سواء باغلاق قنوات فضائية واذاعات وصحف او حتى تهديدها بالقصف (كما كان حال قناة الجزيرة) او بقتل اكثر من 153 اعلامياً خلال اربع سنوات حسب ما كشفته منظمة مراسلون بلا حدود وهو رقم قياسي بكل المعايير.


ولقد رافق الكذب، ارتكاب العديد من الجرائم الجماعية والفردية، وعمليات انتهاك صريحة لابسط حقوق الانسان، بما فيها الاغتصاب للفتيات العراقيات، وصولاً الى التعذيب الوحشي كما ظهر في معسكر ابي غريب، ومعتقل ابوكا في جنوب العراق، او في اقبية "وزارة الداخلية"، ناهيك عن القصف الوحشي لمدن واحياء وبلدات وقرى على امتداد العراق، بما فيها مؤخراً القصف الجوي المستمر لشارع حيفا في وسط بغداد بحيث تشير التقارير الى ان 1/9 من ضحايا الشعب العراقي الذين يقدرون بمئات الالاف قد استشهدوا بفعل القصف الامريكي المباشر.


وبالاضافة الى القتل الجماعي والفردي، والتعذيب الوحشي، والمحاكمات الصورية المخالفة لابسط مبادئ العدالة والشفافية والالتزام بالقانون بما فيها قتل المحامين وسجنهم او طردهم، (كما جرى خلال محاكمة قادة البعث وعلى رأسهم رئيس جمهورية العراق ذاته الذي تم اغتياله في ظروف تشي بالدور الامريكي في اشعال الفتنة المذهبية)، فان اثارة الفتنة العرقية والطائفية والمذهبية، بكل تجلياتها، بدأت مع اللحظة الاولى لدخول قوات الاحتلال الى العراق ومعها الطائفية والمذهبية التي تحولت الى جرائم متعددة الاساليب لكنها موحدة الاهداف لخدمة الاحتلال واستمراره في ظل تلازم معروف، قديم وجديد، بين الاحتلال والفتنة وفق القاعدة الاستعمارية المعروفة فرّق تسدّ.

ولقد ادى ذلك كله ايضاً الى ان حوالي اربعة ملايين ونصف من اطفال العراق يعانون من سوء تغذية في بلد كان من أغنى بلدان المنطقة، وكان يملك احد أفضل الانظمة الصحية في العالم، كما ادى الى تشريد حوالي اربع ملايين عراقي باتوا اليوم "مهجّرين"او "لاجئين" خارج بلدهم او داخله في عمليات الفرز الديموغرافي المذهبي التي تتم جرائمه تحت سمع الاحتلال وبصره، وهو الجهة التي تعتبرها اتفاقيات جنيف الدولية مسؤولة عن امن المناطق المحتلة وعن سلامة السكان فيها.


ولم ينحصر الجانب اللا أخلاقي لهذه الحرب بما تقدم من كذب وجرائم وانتهاكات، بل تعداه ايضاً الى توسع عمليات الفساد والافساد، والنهب والسلب، والتي بدأت مع الساعات الاولى للاحتلال وما زالت مستمرة.

فالفضائح المالية داخل العراق تطال العديد ممن جاء بهم الاحتلال وعينّهم وزراء ومديرين وغيرها، وقد احيل العديد منهم الى التحقيق والمحاكمة ، بينهم وزراء ومسؤولون كبار والمولجون بمكافحة الفساد انفسهم، وقد اطلق عليهم اسم "هيئة النزاهة"، فلقد حملت التقارير مثلاً ان اكثر من 281 موظفاً في شركة النفط الوطنية في البصرة قد احيلوا على التحقيق في قضية سرقة النفط العراقي وتصديره دون عدادات مما الحق خسائر كبرى بالاقتصاد العراقي.


اما الفضائح المالية داخل الادارة الامريكية، كما داخل امبراطوريات المشروع الامريكي، فهي اضعاف تلك المرتكبة على يد عراقيين، بل انها تطال شخصيات رفيعة المستوى داخل تلك الادارة.


ففضيحة العقود التي تم ابرامها باسعار خيالية مع شركة هالبيرتون ذات الصلة الوثيقة بنائب الرئيس الامريكي قد انكشفت مع الايام الاولى للاحتلال، تماماً كما المليارات التي اختفت مع الحاكم الامريكي السابق بول بريمر، ناهيك عن 12 مليار دولار جاءت من واشنطن لاعمار العراق فضاعت على جداول وهمية، وعمليات موهومة، وما زال المراقبون الماليون يبحثون عنها، حتى بات الكثيرون من اهل الرأي في الولايات المتحدة يكتشفون ان بلادهم كدولة تخسر مبالغ ضخمة في العراق، فيما متنفذون امريكيون، افراداً وضباطاً وشركات، يحققون ارباحاً خيالية.

هذا التصدع الاخلاقي المريع طال مؤسسات امريكية كان لها حرمتها وخصوصياتها وحصانتها كوكالة المخابرات المركزية حيث اشتهرت قضية تسريب اسم احد عميلاتها البارزات فاليري بليم بسبب رفض زوجها السفير جوزيف ويلسون تقديم معلومات كاذبة تخدم آلة التحريض على الحرب العراقية، وهي فضيحة ما زالت تتوالى فصولاً وتطال رؤوساً في البيت الابيض وقد تصل نارها الى نائب الرئيس نفسه بعد ان طالت رأس مدير مكتبه.

واذا تذكرنا فضيحة نائب فلوريدا المقرب من بوش، الذي كان احد ابرز الواعظين في الاخلاق والقيم العائلية ليتضح فيما بعد انه شاذ يطارد الاطفال والفتيان فيضطر للاستقالة.

فماذا بقي من الرسالة الالهية التي يتبناها الرئيس الامريكي وادارته؟

السقوط السياسي


وبالاضافة الى الفشل العسكري والسقوط الاخلاقي، فأن نظرة الى التراجع المذهل للادارة الامريكية الحالية على الصعيد السياسي داخل الولايات المتحدة وخارجها تبدو كافية لكي ندرك حجم التردي السياسي الذي لحق بهذه الادارة داخل بلادها، كما التردي الذي الحقته الادارة ببلادها على المستوى الدولي.

فداخل الولايات المتحدة الامريكية لم يعد خافياً على احد التراجع المريع في شعبية الرئيس الحالي، الذي بات معروفاًُ بالرئيس الاقل شعبية في تاريخ الولايات المتحدة، كما لم يعد خافياً بعد الانتخابات النصفية الاخيرة حجم الانقلاب الكبير في المزاج الشعبي الامريكي الذي تشير افضل استطلاعات الرأي، بالنسبة الى الادارة، ان حوالي ثلثي الامريكيين يرفضون السياسة المعتمدة حالياً.


لقد ادى هذا الانقلاب الى تفاعلات داخل الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس نفسه بدءاً من خروج وزير ماليته الاسبق أونيل،فوزير خارجيته كولن باول ، وصولاً الى وزير الدفاع رامسفيلد، ووزير الجيش، وقريباً وزير العدل المنتظر استقالته على خلفية فضيحة اقالته لثمانية من المدعين العامين في واحدة من ابشع مظاهر التدخل في القضاء، ناهيك عن تساقط عدد كبير من جماعة المحافظين الجدد الذين لم يتورع بعض اركانهم عن تحميل بوش نفسه مسؤولية فشل سياستهم.


واذا تطلعنا الى المجتمع الاستخباراتي الامريكي المشهود له بالاستقرار والديمومة، فنلاحظ تغييرات متسارعة اطاحت بالرئيس السابق للوكالة جورج تينيت، ولم تتحمل الادارة جون نغروبونتي في رئاسة المخابرات الوطنية المركزية لأنه لم ير في ايران خطراً داهماً على امن الولايات المتحدة الامريكية، وهنا علينا ان لا ننسى جون بولتون نفسه الذي عيّنه بوش تهريباً في الامم المتحدة ضد ارادة الكونغرس ذي الاغلبية الجمهورية، والذي اضطر الى اعفائه من منصبه بعد الانتخابات النصفية.


ولا يخفى العديد من المراقبين المطلعين الصراع الصامت والمحتدم بين كونداليزا رايس وزيرة الخارجية، والقريبة من اذن الرئيس، وبين نائبه ديك تشيني، وهو صراع بدا واضحاً حين كان تشيني في جولته الاسيوية يرفض أي حوار مع سوريا وايران، وكانت رايس تعلن مشاركة بلادها في مؤتمر بغداد للحوار مع دمشق وبغداد تنفيذاً لتوصيات لجنة بيكر – هاميلتون، والتي رفضها بادئ ذي بدء الرئيس بوش ليعود فيرضخ لها تحت ضغط القادة الديمقراطيين الذي قال رئيس الاغلبية بينهم السيد هاري ريد ان الحرب على العراق كانت "الخطأ الاكبر في حياة السياسة الخارجية الامريكية"، كما تحت ضغط قادة جمهوريين تقليديين بينهم والد بوش الابن واركان ادارته بيكر، سكاووكرفت، والسناتور الجمهوري البارز تشايك هافل وغيرهم وغيرهم.


قد يقول البعض ولكن مجلس الشيوخ قد اسقط بالامس اقتراحاً ديمقراطياً بجدولة الانسحاب من العراق، وهذا دليل قوة للرئيس بوش وادارته، ولكن هؤلاء يتجاهلون ان الديمقراطيين يعرفون جيداً ان اقتراحهم لن يمر في مجلس الشيوخ، ولهم فيه اغلبية ضئيلة جداً، ولكنهم يريدون من خلال سقوط الاقتراح ان يحملوا الجمهوريين مسؤولية بقاء القوات في العراق، وبالتالي مسؤولية الهزيمة هناك، فلا تأتي الانتخابات الرئاسية القادمة الا ويكون الحزب الجمهوري غارقاً في اوحال الهزيمة في العراق وافغانستان.


اما على الصعيد العالمي فلقد ذهب دانيال درزنار، وهو استاذ معروف في العلاقات الدولية، وفي مقالة له في مجلة "فورين افيرز" الامريكية الرصينة (مارس/ابريل) الى ان ادارة بوش قامت مؤخراً بمراجعة نوعية لرؤيتها الاستراتيجية العالمية في ضوء فشل مشروع المحافظين الجدد الذي اطر للدييلوماسية الامريكية عشية احداث 11 سبتمبر وبعدها.


ولاحظ درزنار ان التحدي الاكبر المطروح اليوم على الولايات المتحدة هو في التباعد المتزايد بين النظام الدولي الذي صممته امريكا في الاربعينات وواقع التوازنات العالمية الجديدة حيث لم يعد هذا النظام في شكله المؤسسي قادرا على استيعابها.


ويشير الكاتب نفسه الى الدخل المشترك للبرازيل وروسيا والهند والصين في عام 2010 سيكون متقدماً على الدخل المشترك للولايات المتحدة واليابان والمانيا وبريطانيا وايطاليا، وان هذا الدخل سيكون عام 2015 ضعف دخل هذه البلدان.


ويبرز الكاتب جهود الصين لبناء شراكة اقليمية ودولية بديلة كمنتدى شانغاي للتعاون الذي يضم الى جانب الصين كازاخستان، وقرقيزيا، وروسيا، وطاجكستان، واوزبكستان بالاضافة الى الهند وايران ومنغوليا وباكستان كدول مراقبة، بالاضافة الى اختراق صيني مثير للساحة الافريقية ولامريكا اللاتينية.

ويرى الكاتب ان هذه التطورات جميعها، مع ما يسمى الاخفاقات المدوية في ساحات الحرب على الارهاب وفشل المشروع الامريكي في العراق، جعلت الادارة الامريكية على استعداد واضح لمراجعة قواعد وآليات النظام الدولي القائم بالرجوع لفكرة الشراكة التعددية بادماج القوى الصاعدة والحيلولة دون قيام كتلة مناوئة خارج خارطة النفوذ الامريكي التقليدي، وفي هذا المجال يتوقف الكاتب عند عودة الدور الروسي المحوري في النظام الدولي ومنزلة القوتين الرئيسيتين (الصين والهند) وقيام محور امريكي جنوبي بعيد عن الولايات المتحدة ومناوئ لها (راجع مقالة عبد الله السيد ولد اباه في جريدة الشرق الاوسط في 9/3/2007(


ولقد كان مشهدا مثيراًُ بالفعل ذلك الذي رأيناه في الاسبوع الماضي (الاسبوع الثاني من آذار/مارس 2007) والذي جمع بين الطريقة الاحتجاجية والاستنكارية التي استقبلت بها شعوب دول امريكا اللاتينية الرئيس الامريكي جورج بوش، وتلك الحماسة اللافتة التي جرى استقبال الرئيس الفنزويلي هيوغو تشافيز في جولته المتزامنه مع جولة بوش، بما يؤكد ان "الحديقة الخلفية" قد خرجت عن السيطرة الامريكية، وان كل وعود بوش، بما فيها حديثه للمرة الاولى عن "العدالة الاجتماعية" قد اظهرت بؤس سياسته وادارته التي اخذت تخلع عنها ايضا حتى لبوسها العقائدي كقائدة لليبرالية العالمية حيث حرية السوق ويدها الخفية قادرة على تنظيم الاقتصاد وتنمية الشعوب بعيداً عن مفاهيم كالاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وشركات القطاع العام التي يبدو ان الامريكيين اكتشفوا ان لا مفر من العودة الى تشغيلها في العراق، علماً ان كلفة التشغيل والتأهيل لا تحتاج الى اكثر من 100 مليون دولار وهو نصف ما يتم انفاقه على قوات الاحتلال في يوم واحد حسب الكاتب الليبرالي فريد زكريا في مجلة النيوزويك الامريكية.

ومع هذا التراجع المتسارع على المستوى الدولي، حيث بدأ الحلفاء ينفضون عن المركز الامبراطوري (قرار "بلير" بجدولة الانسحاب البريطاني من العراق، تركيز "دوفيلبان" على ضرورة اعلان البيت الابيض لهذه الجدولة)، وحيث بدأ المنافسون يطلون برأسهم (خطاب بوتين في ميونيخ) وحيث يواصل المقاومون كفاحهم ضد الهيمنة والاحتلال، بدأ يتضح للعالم ايضاً ان المشروع الامبراطوري الامريكي لم يكن اكثر من نزوة جمعت بين مصالح المجمع الصناعي- العسكري بكل احتكاراته وشركاته ونفوذه بعد ان اخذ يدرك حدود قدراته التنافسية المهددة في عالم التعددية الاقتصادية وبين حفنة من المهووسين عقائدياً وجلهم من التروتسكيين السابقين الذين اعتمدوا منهجهم الفكري القديم مع اعطائه مضامين مناقضة للمضمون القديم، وذلك في عملية معاكسة لما فعله ماركس نفسه حين قال ان الجدلية مع هيغل كانت تقف على رأسها فاوقفها على ساقيها، وان مضمونها كان مثالياً فاعطى ماركس للديالكتيك مضمونه المادي.


فبدلاً من شعار معلمهم السابق "الثورة الدائمة" تم العمل تحت شعار "الحرب الدائمة"، وبدلاً من "منظومة الاممية الرابعة" تم اعتماد "منظومة العولمة المعسكرة"، وبدلاً من نشر الاشتراكية في العالم جرى الترويج لنشر "الديمقراطية وحقوق الانسان" على النحو البائس الذي رأيناه في العراق، وتراجع الخطاب الماركسي الثوري امام التعويذة الليبرالية المتوحشة، فاصاب هؤلاء المحافظين الجدد ما اصاب الغراب الذي اراد ان يقلد مشية الحجل فلم ينجح ونسي مشيته الاصلية... وهكذا تحقق السقوط العقائدي لهذا المشروع جنباً الى جنب مع السقوط العسكري والاخلاقي والسياسي، وفر البحارة من السفينة الغارقة وكان أولهم فوكوياما الذي قدم نقداً لنظريته "نهاية التاريخ" التي روج لها اصحاب المشروع الامبراطوري كثيراً جنباً الى جنب مع فكرة "صدام الحضارات" التي كان اول من اطلقها برنارد لويس او المحافظين الجدد وتبناها ودعمها صاموئيل ونشرها هانتيغتون.

وحتى شعار الديمقراطية والاصلاح والتحديث تراجع مع مشروع الشرق الاوسط الجديد ليحل محله تحالف المعتدلين، وهو شعار براغماتي قديم حل محل الشعار العقائدي المبهر.


السقوط الاقتصادي


ولم يكن الواقع الاقتصادي والمالي وتداعياته الاجتماعية بافضل حالاً مع النزعة الامبراطورية من بقية جوانب الواقع الامريكي، فالموازنة قد تحّولت من فائض استثنائي في اواخر عهد كلينتون الى عجز استثنائي مع ولايتي جورج بوش، والانفاق العسكري الذي قدر له بان لا يتجاوز المليارات العشرة على هذه الحرب قد بلغ حتى الان حوالي 400 مليار دولار (200 مليون دولار كل يوم) ما عدا التقديرات بأن تزداد التكاليف الاجتماعية والصحية لهذه الحرب لتصل حوالي 2.5 تريليون دولار حسب دراسة هامة اعدها الحائز على جائزة نوبل جوزف ستيغلتز مع الاقتصادية بلايمر وهو ما بدأ ينعكس بوضوح على مستوى الخدمات الاجتماعية والصحية والتربوية التي كانت تتباهى بها الولايات المتحدة الامريكية، وقد وصل الامر بالرئيس بوش مؤخراً ان يطالب الكونغرس باقتطاع ثلاث مليارات وثلاثماية مليون دولار جديدة كانت مخصصة لبرامج القاصرين وذلك لانفاقها على الحرب في العراق وافغانستان.


اما اسعار النفط، التي كان يروج اهل الحرب بانها بعد احتلال العراق ستهبط الى 6 دولارات الى البرميل الواحد، فقد تجاوزت الستين دولاراً وهو الرقم الذي حذر منه معارضو الحرب في سجال شهير نقله الصحافي الامريكي الشهير "توماس فريدمان" في مقالة له في النيويورك تايمز، عشية الحرب، وبعنوان "ستة ام ستين".

ولقد ارتفعت اسعار برميل النفط الواحد من 23 دولار تقريباً عام 2003 الى حوالي 60 دولار، فاذا اعتبرنا ان حرب العراق قد تسببت بزيادة 5 دولارات فقط للبرميل الواحد فان هذا يعني ان الكلفة النفطية للحرب في امريكا قد بلغت 150 مليار دولار فقط.


اما مخزون النفط الامريكي فما زال يعاني من انخفاض ملحوظ لهذا لم تجد السيدة رايس ما تهدئ به خواطر اعضاء الكونغرس من مخاوف وهواجس سوى حديثها عن انجاز قانون الهيدروكوربون (أي قانون النفط والغاز) في العراق، والذي بات موضع اعتراض العديد من الخبراء والقوى الوطنية العراقية بل اعتراض بعض اعضاء ما يسمى بالجمعية الوطنية العراقية والذين رأوا فيه تفصيلاً جاهزاً لتقاسم الثروة النفطية العراقية واحتياطها البالغ 115 مليار برميل بين الفيدراليين التقسيميين وبين الشركات النفطية الامريكية.

لكن الاقتصاد الامريكي الذي يعاني اليوم من تفاقم عبء الحروب التي لا تتحملها طاقته حسب الباحث الاقتصادي اللبناني د. زياد الحافظ المقيم في الولايات المتحدة الامريكية، بات يرتكز في ثبات عملته الوطنية (الدولار) على تمنع الصين حتى اليوم على بيع ودائعها (حوالي تريليون دولار في سندات الخزينة الامريكية)، وتمنع الصين طبعاً سببه الرئيسي يعود الى التصدير الواسع للسلع الصينية الى السوق الامريكية.

ولقد صّرح "اونيل" اول وزير خزانة امريكي في عهد بوش الابن ان حجم الدين كله (افراد + شركات+ حكومة( كان في اوائل عام 2002 حوالي 44 تريليون دولار ، فيما قال احد النواب الديمقراطيين آنذاك ان هناك نوعان من الوثائق المالية، "الوثائق الحقيقية" و "الوثائق المعلنة" ، وهي تكشف ثلث ما هو مخفي من ارقام الدين والعجز والبطالة وكل ما يتعلق بالاقتصاد.


ومن محاولات التخدير التي تقوم بها الادارة الامريكية هو الحديث عن استبدال الايتانول(المستخرج من قصب السكر في البرازيل، والذرة في الولايات المتحدة) بالنفط، لكن كما تقول صحيفة الاندبندنت البريطانية انه لكي يبلغ انتاج الايتانول المستويات التي يطمح اليها بوش يجب قطع مساحات شاسعة من الغابات المتبقية في العالم وزرع قصب السكر او الذره فيها....


هذه بعض مشاهد عن حجم التأزم الذي يعانيه الاقتصاد الامريكي ذاته والذي لا يقلل من اهميته ما يدعيه ديك تشيني مثلاً عن ارباح ضخمة حققته شركات كبرى، كهاليبرتون التي كان مديراً تنفيذياً لها او اكسون موبيل او شيفرون او شل او ب.ب. او بعض الاحتكارات الاخرى، ذلك ان هذه الارباح تؤكد ان الحرب في العراق وافغانستان قد ساهمت في زيادة الخلل في التفاوت الافتصادي والاجتماعي داخل الولايات المتحدة، فسحبت الاموال من جيوب المواطنين داخل البلاد وخارجها لتضع قسماً كبيراً منها في جيوب الاحتكارات ، النفطية والعسكرية.

ولعل رقم الخسائر في المعدات العسكرية حيث بلغ مجموع خسائر هذه المعدات، وبينها 100 طائرة على الاقل والعديد من الآليات، ما يتراوح بين 125 بليون دولار الى 300 بليون دولار، هو اكبر دليل على ان الاموال يدفعها المكّلف الامريكي تذهب الى صناديق شركات انتاج السلاح.


السقوط الصهيوني


تبقى القضية الاخيرة في هذا السياق، هو الصدمة التي نالها المشروع الامبراطوري الامريكي من جراء الهزيمة التي لحقت باحد الاعمدة الرئيسية لهذا المشروع أي الكيان الصهيوني في حرب تموز /آب 2006 في لبنان على يد المقاومة الباسلة.


والهزيمة هنا لا تتعلق فقط بخروج قوة عسكرية كبرى، كالجيش الصهيوني، من المواجهة لفترة زمنية قد تطول او تقصر بفعل تلك الهزيمة وتداعياتها، بل ايضاً تكمن في المناخ المحموم من تبادل غير معلن للاتهامات عن المسؤولية في هذه الهزيمة بين تل ابيب وواشنطن، حيث تحّمل الادارة الامريكية الحكومة الاسرائيلية وقيادتها العسكرية مسؤولية هذا الفشل، فيما يؤكد اولمرت وبيرتس ان الضغط الامريكي لاطالة أمد الحرب كان سبب هذه الهزيمة.


لقد القت هذه الهزيمة بظلالها على اليهود الامريكيين انفسهم الذين بدأت ترتفع اصوات تتحدث عن العبء الذي بات يشكله الكيان الصهيوني على سمعة اليهود ومكانتهم في العالم خصوصاً مع تزايد الاتهامات الموجهة لتل ابيب سواء في استطلاعات الرأي، او في بيانات المثقفين اليهود او المطارنة الالمان وصولاً الى تلك الدراسة الشهيرة التي أصدرها استاذان مرموقان في جامعة هارفارد هما " جون مير شايمر وستيف والت" واعتبرا فيها ان اللوبي الصهيوني يقف وراء العديد من السياسات الخارجية التي تورطت فيها واشنطن بما فيها الحرب على العراق.

اللوبي الصهيوني المتوتر لم يخف غضبه الهستيري من هذه الاتهامات فقام بحملة ماكارثية بقيادة العنصري ديفيد هورويتس ضد اساتذة جامعيين، كما ضد الرئيس كارتر نفسه الذي يتجول اليوم في الجامعات الامريكية ليشرح مضمون كتابه الجديد حول الممارسات الاسرائيلية بحق الفلسطينيين.


لكن هستيرية هذا اللوبي تجسدت بشكل خاص في المؤتمر السنوي الاخير "الايباك" (اللجنة الامريكية – الاسرائيلية للشؤون العامة) حين قابلوا رئيسة مجلس النواب الامريكي (بيلوسي) بصيحات الاحتجاج حين دعت خلال المؤتمر القوات الامريكية الى مغادرة العراق، تماماً كما تجلّت بمحاولات اعضاء "الايباك" الضغط على الشيوخ والنواب الامريكيين من اجل السعي لتوجيه ضربة عسكرية لايران.


لم يؤكد "اللوبي الصهيوني" هنا نظرية الاستاذين في جامعة هارفرد فقط، بل وضع نفسه في موضع مناقض لاغلبية الامريكيين الذين تظهر استطلاعات الرأي يومياً رغبتهم، مع العديد من القادة السياسيين والعسكريين والاستخباراتيين، بان يروا ابناءهم الجنود خارج العراق، كما تظهر اعتراضهم على أي حرب جديدة تدخلها واشنطن بما في ذلك الحرب على ايران.


واذا ادركنا كم كان دور اللوبي الصهيوني مؤثراً عبر المحافظين الجدد، وبعضهم زميل لنتنياهو ، في صياغة الاتجاهات الامبراطورية للمشروع الامريكي، وكم شكلت تل ابيب من ركيزة رئيسية لهذا المشروع، نستطيع ان ندرك ان السقوط الصهيوني للمشروع الامبراطوري الامريكي لا يقل عن السقوط العسكري والاخلاقي والسياسي والاقتصادي.


الدوائر الخمس


ايها الاخوات والاخوة


أهم أخبار مصر

Comments

عاجل