المحتوى الرئيسى

استنزاف الأجانب

10/07 09:25

هارولد جيمس

اليوم أصبح العالم مهددا بتكرار الانهيار المالي الذي شهده عام 2008 - ولكن على نطاق أكثر مأساوية. هذه المرة كانت أوروبا وليس الولايات المتحدة مركزا للزلزال. وهذه المرة لم تكن الآليات المالية المستخدمة منتجات مالية تتسم بنيتها بالتعقيد الشديد، بل كانت واحدة من أقدم الأدوات المالية في العالم: السندات الحكومية.

وبينما تنهمك الحكومات والبنوك المركزية في سباق محموم بحثا عن حل، فهناك ديناميكية نفسية عميقة تحول دون إتمام عملية الدين المنظمة: وهي تتلخص في كرهنا الشديد للاعتراف بالتزاماتنا تجاه كل من هو أجنبي أو غريب.

والواقع أن رغبتنا في قطع عقدة الديون المستعصية من خلال التخلف عن السداد ببساطة تزداد قوة عندما يكون الدائنون بعيدين وغير معروفين. في الفترة 2007-2008، كان أصحاب المساكن يمثلون الطرف العاجز عن ملاحقة أقساط الدين؛ أما اليوم فإن الحكومات هي التي تمثل الطرف العاجز. ولكن في كلتا الحالتين كانت الجهة المقرضة بعيدة ومجهولة. فصكوك الرهن العقاري الأمريكية لم تعد تحت حيازة البنوك المحلية، بل أعيد تجميعها في هيئة أدوات مالية خاصة ثم بيعت في مختلف أنحاء العالم؛ وعلى نحو مماثل، فإن أغلب سندات الحكومة اليونانية مملوكة لأجانب.

ولأن إسبانيا وفرنسا تخلفتا كثيرا في وقت مبكر من العصر الحديث عن سداد ديونهما، ولأن تخلف اليونان عن سداد ديونها كان مزمنا منذ لحظة ميلادها السياسي الأولى في عام 1830، فقد افترض البعض أن المزاج الوطني يلهم على نحو ما البلدان الميالة إلى التخلف عن سداد ديونها. ولكن هذا البحث عن استمرارية تاريخية طويلة يتسم بالسطحية إلى حد كبير، فهو يتجاهل أحد المحددات الرئيسة لاستدامة القدرة على سداد الديون: هوية الجهة التي تدين لها الدولة.

والواقع أن هذا المتغير يُحدِث فارقا هائلا فيما يتصل باحتمالات سداد أقساط الدين بانتظام وبمجرد استحقاقها. فكان إفلاس الممالك الفرنسية والإسبانية على نحو متكرر في أوائل العصر الحديث يتعلق في الغالب بديون مستحقة لأجانب. فقد اقترضت أسرة هابسبورج في القرن السادس عشر - بأسعار فائدة مرتفعة للغاية - من تجار من فلورنسا وجنوا وأوجسبورج. كما اتبع النظام القديم في فرنسا نمطا مماثلا، فاقترض من أمستردام أو جنيف من أجل الإنفاق على حروب ضد إسبانيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وضد بريطانيا في القرن الثامن عشر.

ولكن هولندا وبريطانيا اتبعتا مسارا مختلفا. فقد اعتمدتا بشكل أقل كثيرا على الدائنين الأجانب وفضلتا عليهم المقرضين المحليين. وقد تم تصدير النموذج الهولندي إلى بريطانيا في عام 1688، جنبا إلى جنب مع الثورة السياسية التي خلعت الملك الكاثوليكي جيمس الثاني ووضعت الملك البروتستانتي الهولندي وليام أوف أورانج على العرش الإنجليزي.

وكانت تلك الثورة المجيدة سببا في تمكين ثورة أخرى في عالم التمويل. وبوجه خاص، كان الاعتراف بحقوق البرلمان - مجلس النواب التمثيلي - سببا في ضمان تمكين وكلاء الطبقات الدائنة من السيطرة الدائمة على عملية إعداد الميزانية. وبذلك كان بوسعهم أن يضمنوا - وأيضا بالنيابة عن دائنين آخرين - متانة الموارد المالية للدولة وقدرتها على سداد ديونها. ثم عملت الدستورية الملكية على الحد من مجال الإنفاق المسرف على حياة البلاط الفاخرة (وأيضا على المغامرات العسكرية) - السمة المميزة للملكية الاستبدادية في وقت مبكر من العصر الحديث.

باختصار، بنيت الثورة المالية في العالم الحديث على نظام سياسي - سبق الانتقال الكامل إلى الديمقراطية العالمية - حيث عمل الدائنون على تشكيل الطبقة السياسية. ثم انتقل ذلك النموذج إلى العديد من البلدان الأخرى، وأصبح بمثابة الأساس الذي بني عليه الاستقرار المالي الحديث.

وفي فترة ما بعد عام 1945، كان القدر الأعظم من التمويل الحكومي في البلدان الصناعية الثرية وطنيا في مستهل الأمر، فظل نموذج عام 1688 قائما. ثم حدث أمر ما. فمع تحرير الأسواق المالية العالمية الذي بدأ في سبعينيات القرن العشرين، أصبحت المصادر الأجنبية للائمتان متاحة. وفي منتصف الثمانينيات، أصبحت الولايات المتحدة مدينة صافية، واعتمدت بشكل متزايد على الأجانب لتمويل ديونها.

ثم سلك الأوروبيون أيضا المسار نفسه. فكان الوعد بتيسير الاقتراض جزءا من عملية التحفيز الجديدة للتكامل الأوروبي في الثمانينيات. وفي التسعينيات كان عامل الجذب الرئيس إلى الاتحاد النقدي بالنسبة للساسة الإيطاليين والإسبان يتلخص في أن العملة الجديدة من شأنها أن تعمل على خفض أسعار الفائدة وإتاحة المال الأجنبي للتمويل الرخيص للديون الحكومية.

وحتى أواخر التسعينيات وظهور الاتحاد النقدي، كانت أغلب الديون الحكومية في الاتحاد الأوروبي محلية: ففي عام 1998 كان الأجانب يمثلون 20 في المائة فقط من الديون السيادية. ثم تصاعدت هذه الحصة بسرعة في أعقاب إدخال عملة اليورو. ثم في عام 2008، عشية الأزمة المالية، كانت ثلاثة أرباع الديون البرتغالية، ونصف الديون الإسبانية واليونانية، وأكثر من 40 في المائة من الديون الإيطالية مملوكة لأجانب.

عندما تنمو حصة الديون الأجنبية تنمو معها الحوافز السياسية لفرض تكاليف تلك الديون على الأجانب. ففي ثلاثينيات القرن العشرين، أثناء وبعد أزمة الكساد الأعظم، جاء التخلف عن سداد الديون على نطاق واسع مصحوبا بشعور قوي بأن الدائنين ليسوا أكثر من مصاصي دماء غير شرعيين وغير أخلاقيين. حتى أن الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت أبدى ابتهاجا شديدا عندما أبلغه رئيس بنك الرايخ هيلمار شاخت بأن ألمانيا النازية ستتخلف عن سداد ديونها الخارجية، بما في ذلك المستحقة للبنوك الأمريكية، فقال: "هذا ما جناه المصرفيون في ووال ستريت على أنفسهم!". وفي أوروبا اليوم، استمد اليونانيون المتململون بعض التشجيع من الانتقادات الشديدة التي وجهها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لحماقات المصرفيين.

والواقع أن الرأي السائد بين خبراء الاقتصاد بأن الاتحاد النقدي يتطلب وجود اتحاد مالي (للموازنات) لا يشكل سوى جزء من حقيقة أكثر عمقا بشأن الديون والالتزامات: فالدين نادرا ما يكون مستداما إن لم يكن هناك شعور ما بالمسؤولية الجمعية. وتلك هي الآلية الكفيلة بالحد من الحوافز التي قد تدفع البعض إلى استباحة أموال الدائنين، وجعل الدين آمنا ورخيصا.

في النهاية، يتعين علينا أن نعترف بأن أوروبا التي تتقاسم الأعباء بشكل مشترك هي الوسيلة الوحيدة للخروج من الأزمة الحالية. ولكن هذا يتطلب قدرا أعظم كثيرا من مركزية المساءلة السياسية والرقابة، مقارنة بما يبدو في مقدرة الأوروبيين إنجازه اليوم. ولهذا السبب فإن العديد منهم قد يجدون أنفسهم مضطرين إلى تكبد المزيد من التكاليف في سبيل الحصول على الائتمان في الغد.

* نقلا عن "الاقتصادية" السعودية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل