المحتوى الرئيسى

أحوال المصريين في العصور الوسطي

10/02 03:09

إعادة قراءة وكتابة تاريخ مصر في العصور الوسطي ليست تناولا للاسلام‏,‏ وإنما دراسة لأحوال المصريين تحت الحكم الاسلامي‏.‏ وبدون إنكار تحرير العرب أقباط مصر من نير البيزنطيين‏,‏ ومآثر الحضارة العربية الإسلامية‏,‏ ونهضة مصر الاقتصادية في فترات من حكم الفاطميين والمماليك البحرية‏,‏

 وانتصارات مصر العظيمة ضد الفرنجة والتتر, فقد كان انحراف الحكم عن مباديء وقيم ومقاصد الشريعة الإسلامية, وفي قلبها إعمار الأرض, هو القاعدة وليس الإستثناء طوال العصور الوسطي.

فقد كان الاخفاق الأخطر لحكام مصر الاسلامية من العسكر والبدو هو إخفاقهم في إدارة نهر النيل, ومن ثم اخفاقهم في إدارة الاقتصاد والمجتمع الزراعي النهري المصري. وتشهد علي الإخفاق الشدة المستنصرية, التي يورد ابن إياس أنه عاش بعدها ثلث سكان مصر! والكارثة البشعة التي شهدها وسجلها البغدادي في أواخر الدولة الأيوبية, ووصفها بما يفيد الإفناء شبه الكامل! وعنها يقول ابن إياس إنها قتلت ثلثي سكان مصر! ويذكر ابن إياس شدة أخري في القرن الـ13 مات فيها ثلث السكان! ثم نصل الي ما وصفه جمال حمدان وبحق بأنه نقطة الحضيض السكاني, حين تقلص عدد المصريين الي نحو مليونين ونصف مليون نسمة, أي الي حوالي ربع عدد المصريين في العصور القديمة!! وذلك عشية ثورة المصريين وفرضهم محمد علي واليا علي مصر.

ويسجل ابن إياس مع الغزو العثماني: ومن العجائب أن مصر صارت نيابة, بعد أن كان سلطان مصر أعظم السلاطين في سائر البلاد قاطبة, لأنه خادم الحرمين الشريفين, وحامي ملك مصر, الذي افتخر به فرعون اللعين حيث قال: أليس لي ملك مصر, وقد تباهي بملك مصر علي سائر ممالك الدنيا! ولكن ابن عثمان هتك حريم مصر, وما خرج منها حتي غنم أموالها, وقتل أبطالها, ويتم أطفالها, وأسر رجالها, وبدد أحوالها, وأظهر أهوالها; فلم يدخل اليها أحد من الخوارج, ولا ملكها قط أحد, ولا جري مثل ما جري عليها من ابن عثمان, إلا إن كان في زمن بختنصر البابلي!!

ويقول الدكتور حسين مؤنس في مصر ورسالتها: إن حضارة مصر القديمة كانت حضارة الصانع والزارع قبل أن تكون حضارة الملوك.. وإذا تأملت جدار مقبرة مصرية وجدت أمامك جماعات تعمل, ما بين خباز ونجار وحداد وطحان ونقاش وزارع وحراث وصياد, ورسم إلي جانبهم صور الملوك والملكات والآلهة, كأنه يريد أن يقول أن تاريخ مصر من هؤلاء جميعا. وعند كتاب العرب ممن كانوا يظنون أنهم وصلوا إلي قمة الحكمة والفهم, من أمثال الصاحب بن عباد وبديع الزمان الهمذاني وأبي محمد القاسم الحريري, فان بناة الحضارة الإنسانية من صناع وزراع لم يكونوا في نظرهم إلا سوقة ورعاعا وغثاء كغثاء السيل! وقد كانت هذه النظرة الخرقاء إلي أهل الحرف من أشد ما أضر بكيان المجتمعات الإسلامية في العصور الوسطي. ويضيف مؤنس أن الحكم العثماني المملوكي كان يبتز أموال الناس, ويعسف بالتجار حتي زهدوهم في تجارة المرور ببلادنا, فكان كشف طريق رأس الرجاء الصالح, ثم وقوع مصر بين أيدي الفرنسيين أولا, فالإنجليز ثانيا.

ويقول جمال حمدان في شخصية مصر: في الجوهر, لم يكن النظام الاجتماعي والتركيب الطبقي يختلف في مصر الإسلامية عنه في مصر الفرعونية; فالأرض لاتزال نظريا ملك الدولة; أي ملك السلطان, والملكية الفردية ضعيفة للغاية, وسواء من سياسة ذهب المعز وسيفه إلي همجية الأتراك إلي أناركية المماليك, كان الجميع طبعات جديدة للطغيان الشرقي. وأما الطبقة الحاكمة وشبه المالكة تحت السلطان فلم تزل كما كانت تحت فرعون; فقط أصبح الفلاحون عبيد السلطان بعد أن كانوا عبيد فرعون. ويضيف حمدان الأهم هو أنه منذ دخلت مصر عصر الانحطاط تحت الخلافة العثمانية, لاسيما في أواخرها, دخل السكان في مرحلة المحاق الحقيقي.

ويبين جمال حمدان أنه في كل التاريخ لم تكن هناك سابقة أو إستثناء للثورة السكانية الحديثة, التي اجتاحت العالم منذ الانقلاب الصناعي, إلا في مصر وحدها. فبينما كان عدد سكان مصر بين1210 مليون نسمة, كانت فرنسا أيام قيصر تقدر بين4-8 ملايين نسمة, وكانت إيطاليا أيام أغسطس نحو7 ملايين نسمة, وإنجلترا مع ويلز نحو مليونين فقط في القرن الـ16 الميلادي!! ولم تصل بريطانيا إلي عدد سكان مصر الفرعونية إلا علي عتبة القرن التاسع عشر!! ويبين حمدان: إن مساحة الأرض الزراعية تغيرت عبر العصور, لكن أهم تغير جذري تعرضت له ترتب علي كارثة البراري, التي أخرجت نحو1.5 مليون فدان من أخصب الأراضي الزراعية السوداء; أو40% من مساحة الدلتا!! فتحول المعمور إلي اللا معمور, أو ارتد إلي نطاق المستنقعات البرية في عصور ما قبل التاريخ! والأهم أن هذا لم يكن مسئولية الطبيعة وحدها, وإنما أيضا نتيجة لأعمال أو إهمال الإنسان.

وكانت كارثة البراري أكبر نكبة طبيعية وبشرية منيت بها جغرافية مصر عبر التاريخ كله. ويقول حمدان أن ظهور البراري كإقليم ترحال وأعشاب يبدو أنه جاء توقيته ملائما للغاية للقبائل العربية التي دخلت مصر بعد الفتح, حيث قدم لها بيئة انتقالية مناسبة من بداوتها الصحراوية المطلقة إلي استقرار مصر الزراعية المطلق. ويذكر ابن عبد الحكم أن كثيرا من أبناء القبائل العربية النازحة إلي مصر لم يلبثوا أن تركوا حياة المدن الأولي, وانتقلوا إلي مناطق العشب والكلأ في أطراف الدلتا وفي الشمال. وتدفق تيار اللاجئين الفقراء والمعوزين نحو صعيد مصر. وهكذا, كما انتظمت العملية إقفارا بشريا في نطاق البراري, انتظمت إفقارا معيشيا في نطاق المهجر. وبعد البراري لم تعد الأراضي المزروعة في الدلتا لتزيد كثيرا عن الصعيد, ولعل هذا ما يفسر بروز الصعيد نسبيا في العصور العربية والإسلامية, كما توحي كتابات أغلب الرحالة والجغرافيين والمؤرخين المعاصرين.

ونتيجة لإهمال الأشغال العامة للري وضبط النهر وأهواء الفيضان, وبجانب البراري, أخذت الصحراء تغزو الأرض الزراعية وتطغي عليها وتتخللها, وفقدت مصر نحو ربع مساحة الأرض المزروعة في مصر. وبالنسبة نفسها علي الأقل تقلصت قاعدة الوطن المادية, وإمكانياته الاقتصادية والسكانية, ووزنه وحجمه البشري والسياسي..الخ. فقد انكمشت الرقعة المزروعة, وتخلل البور في كل مكان, وهجر الفلاحون الزراعة, وصار ما بين القاهرة والإسكندرية قري هامدة وعششا خربة! وفقط, مع انقلاب الري في عهد محمد علي, ملئت ثغرات البور المتخلل, وتمددت أطراف الأرض الزراعية, وبدأ بجدية استصلاح براري الدلتا. ثم بفضل السد العالي, أصبحت نهاية البراري مسألة وقت, وبدأت حواف الوادي والدلتا الصحراوية وشبه الصحراوية تشهد زحفا عنيدا لضمها إلي المزروع.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل