المحتوى الرئيسى

رحلة محفوفة بالمخاطر في تضاريس ليبيا بعد الثورة

09/12 13:26

رحلتي مع زملائي من فريق دويتشه فيله بين معبر راس جدير الحدودي بين تونس وليبيا كانت شاقة، فمدن زوارة وزنتان والزاوية و بوكماش وغرقارش مازالت لم تتجاوز بعد وطأة مأساة الحرب الطاحنة التي أودت بحياة الآلاف و شردت العائلات الليبية وهدمت المنازل.

أعلام ليبيا الجديدة ترفرف فوق كل سيارة ليبية تدخل راس جدير. ورغم فضاعة الحرب وويلاتها، كان يوم عيد الفطر يوما مميزا في قلوب الليبيين. فقد تحررت ليبيا بعد أن سقطت العاصمة طرابلس في يد الثوار الذين استماتوا لأكثر من ثمانية اشهر. وسقطت بذلك آخر حجرات الدومينو في نظام الدكتاتور العقيد معمر القذافي.

 

شبح الحرب في قلوب أهالي زوارة

مقاتل من مصراتة التقته دويتشه فيله في الطريق بين طرابلس وراس جدير Bildunterschrift: Großansicht des Bildes mit der Bildunterschrift:  مقاتل من مصراتة التقته دويتشه فيله في الطريق بين طرابلس وراس جدير وأنت في طريقك إلى طرابلس من معبر راس جدير مرورا بكل المدن الليبية التي تمتد على حوالي 220 كيلومترا، تدرك مدى مأساوية ودموية الأوضاع التي عاشها سكان ليبيا. منازل مهدمة عن آخرها، محلات  محروقة، طلقات رصاص محفورة على كل حائط.  وقلوب مازالت تنزف حرقة على شهداء ذهبوا في زهرة أعمارهم ضحية ثورة طويلة خلصت ليبيا من براثن حكم جائر ومستبد دام 42 عاما ليكتشف الليبيون بعده أنهم كانوا يعيشون وهما وزيفا في كهف يدير أركانه حاكم مريض بجنون العظمة، كما يقول عدد من الشبان الذين التقيتهم في الطريق نحو طرابلس.

مدينة زوارة الامازيغية كانت قبلتنا الأولى، رافقتنا من بوابة راس جدير إلى زوارة عائلة ناجي عثمان. تشهد عائلة امازيغية يوم العيد الموافق ل 31 من اغسطس/آب ولادة جديدة. فقبل هذا اليوم كانت الأمازيغية تهمة في حد ذاتها وزد عليها معاناة العيش في ظل نظام دكتاتوري.

رغم فقدان مدينة زوارة خيرة شبابها، كانت عائلة ناجي عثمان سعيدة، تتبادل التهاني ويقبل بعضها البعض الآخر، فهذا يوم النصر و"العيد عيدان" عيد النصر في الثورة الليبية وعيد الفطر. لم تجتمع العائلة منذ أكثر من شهر حين غادر بعض أفرادها إلى تونس هربا من هول الحرب و فضاعة أعمال القتل العشوائي والتدمير الذي يلحق بالمدينة وسكانها.

 

في بيت ابن القذافي!

ثوار يراقبون احد شوارع مدينة الزاوية التي تعرضت لبطش شديد من قبل كتائب القذافي Bildunterschrift: Großansicht des Bildes mit der Bildunterschrift:  ثوار يراقبون احد شوارع مدينة الزاوية التي تعرضت لبطش شديد من قبل كتائب القذافي مررنا بالكثير من المنشآت في طريقنا إلى بيت عائلة ناجي عثمان. فكان المسكين يدخل بحرية إلى كل مكان كان محرما عليه قبل اليوم في عهد الدكتاتور القذافي. لأول مرة يشعر عثمان وعائلته أنهم ليبيون وأن هذه الأرض أرضهم و أنهم أحرار يتحركون فيها بكل الحرية. فقد كانت كل ليبيا ملكا خاصا لمعمر القذافي وأولاده الذين تعلموا منه مكر السياسة ودهاء الدكتاتورية وجشع السلطان.

على مقربة من بيت ناجي عثمان وعلى شاطئ البحر من الطريق الساحلي لمدينة زوارة يوجد بيت لابن القذافي الساعدي. بيت مهدم كان قصرا يجلب إليه الساعدي وأصدقاؤه من علية القوم نساء كثيرات ليكون في الليل وكرا للدعارة يمنع من مجرد الالتفات إليه الجوار من سكان زوارة، كما يروون.

دخل عثمان وزوجته وأطفاله باحة القصر المهدم الذي أصبح عبارة عن أطلال. تملؤهم فرحة عارمة فلم يكونوا ليتخيلوا أن يأتي يوم يمكنهم فيه زيارة هذه البناية اللغز التي ظلوا لسنوات ينظرون إلى ما وراءها بعين الحسرة والمهانة والخوف المقيت. يقول الناس هنا إن أتباع في المنطقة كانوا يجمعون من الناس أموالا ، بإيعاز من ابن القذافي، كي يقدموها "للسلطان معمر" كي يبني بها هذا القصر لولده المدلل الساعدي.

 

صرخة طفل

يمتزج شعور فرحة الانتصار بمرارة الذكرى والانسياق وراء نظام ظالم في قلب عثمان فهو مثل غيره من الليبيين ساهموا في بناء ثروة الدكتاتورالجبار. كان الليبيون لطفاء جدا. قلوبهم مفتوحة ووجوهم تشع بهجة لتمكن الصحافة من دخول أرضهم التي عاشت شهورا تدكها عمليات القصف وتدوي فيها تفجيرات حلف شمال الأطلسي دون أي تغطية إعلامية لما يحصل في هذه الديار التي شهدت قصفا وظلما وبطشا.

يرفع الأطفال بفرحة علم ليبيا الجديد فهم وإن كانوا صغارا لا يفقهون الانقلاب الجذري الذي تعيشه ليبيا، يدركون على الأقل ما عاشوه من تجربة طويلة مع التفجيرات التي تصم آذانهم. وقد علقت بذاكرتي صورة تهز المشاعر، صورة طفل صغير كان يركب سيارة خرجت من ليبيا مليئة بعائلات هاربة من وحشية الحرب. كان الرصاص يدوي في معبر راس جدير يوم السيطرة عليه من قبل الثوار، فوجدت الطفل الصغير المسكين ينظر لامه وسط أكوام الأغراض على ظهر السيارة ويسد أذنيه بيديه ويصيح باكيا"قولي لهم كفاية، كفاية"... أدركت وقتها أن نفسية المسكين محطمة وانه قد سئم أزيز الرصاص ودوي التفجيرات وويلات الحرب المدمرة.

 

الموت ولا الطاغية

ليست هذه هي المرة الأولى التي ازور فيها ليبيا، فقد أتيتها سابقا في عهد حكم معمر القذافي. جئتها ضيفة إعلامية لمؤتمر حول "الأسرة في زمن العولمة "تنظمه جمعية عائشة القذافي "واعتصموا للأعمال الخيرية".خبرت الليبيين وعاشرتهم واعرف عائلات كثيرة منهم فتونس بلدي مرتبطة ارتباطا وثيقا بليبيا. لذلك اعرف الكثير عن هذا الشعب و اعرف الآن أكثر من أي وقت مضى أن الشعب الليبي قد غيرته الثورة فأصبح أكثر انفتاحا وحرية واقل حذرا إزاء الآخرين. فقد تحررت الألسن وازداد الحب في قلوب الليبيين كأنما القذافي قد علمهم كره أنفسهم و كره الآخرين فحين زال زال سحره.

الزميلة مبروكة خذير تتجول بالكاميرا في احد مخيمات اللاجئين الأفارقة في ليبيا Bildunterschrift: الزميلة مبروكة خذير تتجول بالكاميرا في احد مخيمات اللاجئين الأفارقة في ليبيا

زرت مدنا كثيرة في حياتي ثم زرت كذلك ليبيا. وكنت أقول دائما إن البلد الذي لم أشعر فيه بالراحة أبدا هو ليبيا. وكنت أشعر باختناق كبير وأنا ازور ليبيا في السنوات الفارطة. لكنني ادخل ليبيا اليوم بحب وفتنة وأتحرك بين مدنها بإعجاب كبير واحترام لهؤلاء الثوار الذين ضحوا برغد الحياة وصفوها في سبيل التخلص من الدكتاتورية.

لطالما تساءلت مع نفسي منذ بدأت الثورة في ليبيا عماذا يطلب الليبيون من ثورتهم فهم شعب ميسور ولديه من الإمكانيات المادية ما يجعله في غنى عن مخاطر وآلام الثورة والخسائرالبشرية والمادية. لكن حين تحدثت مع الكثير من الليبيين، أدركت حقا أن ما يطلبه هؤلاء أغلى بكثير من مجرد إغراقهم بالمال ومنحهم نذرا قليلا من أموال النفط الليبي الذي تذهب خيراته لعائلة القذافي ومقربيه. يحتاج الليبيون إلى الخروج من الجهل وإلى الانعتاق من سلطة الدكتاتور الذي لعب على عقولهم أكثر من أربعة عقود فحرمهم من متعة الثقافة ودمر مقوماتهم الفكرية وجعلهم في تبعية لأي بلد مجاور أو غربي فيه تعليم جيد ورعاية صحية حسنة.

وقد فهمت أنا، ابنة ثورة الخبز والكرامة و المطالبة بالعدالة الاجتماعية التي انطلقت شرارتها من سيدي بوزيد(تونس)، أن هناك ثورات أخرى قد تقوم وتقوى لأجل الحرية والحقوق المعنوية فتكون أهم و أشرس لكنها قد تكون اقوي وانجح ربما.

 الجميع في مدينة زوارة يحيي الصحافيين ويهلل لمجيئهم. ورغم الإمكانيات البسيطة وانقطاع المياه وقلة الأكل وندرة المواد الغذائية قدمت لنا عائلة عثمان ما نأكله وما نشربه وحدثونا عن أيام سوداء قاسية. في ركن بيت عثمان، جلست زوجة السيد عثمان التي غابت عن ليبيا لشهر مضى تستمع إلى إحدى قريباتها تحصي لها أسماء الشباب الذين استشهدوا في الثورة الليبية. تتنهد المرأة وتدمع عيناها وتعلو فمها ابتسامة يمتزج فيها الفخر بالسعادة والحسرة وتقول" الحمد للهو رحم الله الشهداء الذين خلصونا من الطاغية".

شعرت و أنا أتحدث إلى كل أم ثكلى ليبية أن الله منح هؤلاء صبرا وحنكة وقدرة على تقبل الموت أكثر مما يمنحه لأي شخص عادي يفقد عزيزا عليه.عند الليبيين يصبح الموت شهادة وفخرا في سبيل الوطن و مبعثا للفرحة العارمة.

 

نرشح لك

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل