المحتوى الرئيسى

عماد الدين نعيم نصر (أبا غسان) رحلت وغادرتنا بقلم:سامي الأخرس

09/10 18:10

عماد الدين نعيم نصر( أبا غسان) رحلتَ وغادرتنا

يَرسُمك الإبهام على صقيع الفراقَ والذكرى، كما ترسم كفكفات راحة الأم بكفيها الحانيين على طفلُ يتمرد على الغفيان أواسط الليلِ، حينما ينتصف القمر في ليلة ربيعية، تُضجر بها تلك الحانية من صرخات وليدُ يتوجع من مجهول لا يستطيع التعبير به عن الآه، تصاحبه لحظات التمرد بالصراخ الموشح بالآنين الخافت في خلجات لم يكتمل نموها، ولم تتجسد معالم الإيحاء بالألم. هي تلك اللحظة التي ترسمني شارداً مذهولاً، أُمسك بطرف المحاق قبل الإكتمال، ممزقاً كل الأوراق التي تتمرد على استقبال ومضات النسيان المرتع في صحاري الشقاء البائسة، القاحلة، مِن عِشبُ أخضر داسته رياح الصمت القابعة في عجزنا المقتلع من وجدان المصاهرة مع رمزية الرجولة، وفحولة الإخصاب الفكري العصية على الإنكسار في زمنُ لم يعد به سوى بكائيات الفراق على سنابل القمح الخضراء في تربة الحياة المكحلة بكحل مرصوص كقطع الألم قطعة تلو قطعة في مكحل مزين بثرى وطنُ يرسمنا على جبينه شهداء.

لوحة بنفسجية حزينة تنطق بألوانها المحكية، وأحرفها الموسومة بسيفُ وغمدِ، وريشة لا ترسم إلاّ بلون أحمر معلقة على جدران الجسد المتهاوي من إرهاق الفراق المموسق بالحزن شريعةً قواعدها فروض طاعة، لا نملك أمامها سوى الإلزام الإجباري بالعبادة في رحلة تآىسرنا كلما حاولنا التحرر من قيودها، والإنعتاق من بيارقها الوامضة بالسواد الموشح بالحزن.

تجولت في ذاكرتي، وذهبت بعيدًا أحمل أسفار الذكرى، وأمواج عابسة تلاطمني بين اليمين تارة واليسار تارة، وأنا في معركة البحث عن ملامح خبز الطابون، لتزهو لوحتي المتمردة، معلنة العصيان كلما مرَّ بجوارها مشهدُ رمضاني ينتظر دوي صوت مدفع الإفطار، ويعلن فجأة عن تناثر الحزن، ويصرخ إنه الإنفجار.. في موعد الإفطار... ويحك أيها الهدهد ما حملت لنا من أنباء؟! ويحك أي إنفجار ذاك المرصع بأربعة ثمرات موجعات، أصابت الحلق بالغضاض، والبدن بالإرتجاف، ويحك ما تلك الأصوات التي ترنو في كل قنواتي الصوتية، محدثة هزات في ذبذبات الألم، إنها الحقيقة!! التي حملها طير العنقاء ليخرج من إسطورته، ويتعملق في سماء الفراق حاملاً خطاب ووصية، وينثر على أجسادنا لحم مبعثر حمل الوهن المرسل من عشقُ لا يولدُ إلاّ منك.

عذراً... عماد الدين نعيم نصر( أبا غسان) لم أجد في شريعة الذكرى ما استرسل به في العبادات وأنا خاشع أرتل آيات مِن الجرحُ تملأ القلبُ حسرات بالفراق، ومزيجاً من الفخرُ بمن نفى مِن الجرحِ إلى علا السماوات.

( عماد الدين نعيم نصر) " أبا غسان"، على ضفاف اسمك " مجدُ ... وموتُ" وحياة واستشهاد، ووقفة على أطلال تقاعسنا، وخيبتنا أمام روحك. لم أجد ما أبدأ به، ولا ما أبتهل به، في واحات النسيان التي نعيش في خاصرتها، ننتظر الرحيلُ إلى الحياة.

عماد الدين نعيم نصر( أبا غسان) ابن رفح، وابن اللجوء المنفي إلى مخيمات الشقاء، والعذاب، ولدَ وسط حصا عَسير، ومضى في مملكته يسمع حكايا الحبُ، والتشرد، فبدأ يحيك بخياله، وذكائه، ولون بشرته المكحل بوشحة قمح على رمال رفح مخطوطة "عشقُ" بأحرفها الحية لفلسطين، ونقشَ بالشقاء سنوات الشباب في غابة الحقيقة المنسية على الشفاه الحمراء، أن الفكرة لا تختنق بالنار، ولا تحترق بالظلم، ولا تقهر بالفقر، إنما تفيضُ ينابيع معتقة بكؤوس الحرمان لتروي قلباً بشفاة حمراء، لا تجيد إلاّ لغة تقرأ قصائد الشهداء.

عماد الدين نعيم نصر( أبا غسان) أراد أن يحيا ليدور في المخيم حول أطلال حزينة تتعاقب ليلاً ونهار، يُبحر بها حاملاً سيفاً من حق ودمعة من نار في وطنُ محمول على جناحي حمامة بيضاء باسمة، ضاحكة، منطلقاً بحدود البيت الذي هدمته ومزقته العصابات قاتلة الحرية، ثائرة من العماد، منتقمة من فارس ونسر أنشأ أولى المجموعات العسكرية باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأي؛ فلسطين التي مسح عماد دمعها وهو حبيباً لم يتعلم سوى المقلاع والسكين، وعزيمة في منفى اللجوء، ويبدأ منفاه الجديد في نفحة، والمجدل، وغزة قيداً تلو قيد يمزج بهما قائدُ يبني جيلاً من ثوار الحرية. لم يقامر أو يساوم، عنيدًا بالحق، بسيطًا بالقلب... رغيفة حرية، نكهتة إنسانية.

" أبا غسان" عماد الدين نعيم نصر وحيدًا ينتظر في محطات الزحام، ينسجُ مع الجراح رواية إنسان، تنفس عبق الحرية، وعاد من جديد يرسم مع الجياع والأيتام مسرح عرائس لا يتحدث إلاّ باسم فلسطين، سابحُ في دماء خرساء تعزفُ حزن وسكون، ونشيد الشهداء احساسًا متفّجر بالبقاء.

عماد الدين نعيم نصر( أبا غسان) ثوب الرحيل كان بالمساء، وأي صلاة لم تزل تفصلنا عن موعدِ الإفطار، وتأذن لنتناول الحساء في حضرة الفجيعة، والوصايا تعود بنا للموت مرة أخرى، وما أجمل الموت بعشق مجنون به شرود الحرية بكفن أبيض وطرحة عروسُ تنتظر بطابور النصر!!

عانقت الحياة، ولم تلق غصن الزيتون، وعُدت لزهر الرمان الأحمر، لا تنتظر خلفك، ولا ترتوي من بلسم جرح نازف، تتكاثر به الشدائد والعزائم نحو مسيرة شاهدها قمرُ في ليل السجون يزف بشرى التحرر.

( أبا غسان) أتذكرني بعد، وأنا الشبل الصغير في خواتم غرفتنا نمضي في انتظار الحرية؟ وأنت تكتب لي ميلادٍ مِن الإصرار؟ وخواطر ليلية في ملاهي ثقافتنا الثورية؟! أتذكرني وأنا أبني معك اسرارنا الحزبية في ساحات فرسانها حمراء في غزة القيد والحرية؟ أتذكرتي والكل نيام ولم يبق سوى قائدُ يرسل رسائله للصدى الثوري خارج أسوار القيد، وشبلُ صغير يتتلمذ في قلاع مشيدة ابراجها أنتم؟! أتذكرني؟ حينما زفت لنا أنباء رفاقنا الشهداء فانهمرت باكياً فوق أجساد القيد، فجئت وقلت لا تخاف، سنلحق بهم، ألسنا مشاريع شهادة نحاكي الشهداء في جنائن لا يوجد بها إلاّ زهرات لم تتعلم سوى السلام عليكم أيها الشهداء الأحياء؟!!

( أبا غسان) دخلنا وخرجنا ولا زال في الدمع ذرات رملُ يولد منها ألمُ، وآهات قلبي حجراً ... تأبى التحرر، وعرسُ الفرسان في حلقي دربُ بالمجدُ مكلل بكم، ومنكم، وفيكم.

عماد الدين نعيم نصر( أبا غسان) لم أعدُّ اذكر سوى كلمة واحدة معلقة على شواهد مماتنا، وصلاة واحدة تغادرنا في ليلُ ساهر يمضي إلى محرابك، ويهاتف صداك الغائب.

إغتسل بالدمع طهرًا، ودمًا، وحزنًا

آب أصبح فينا فيضًا، بحرًا، مطرًا

وسفينة الفراق دخلت سرًا

في دمعة تسيل على خد الوطنْ

قبل أيلول فارقتنا وغادرتنا

وعُّدت للرحيل بلا وثيقة سفر

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل