المحتوى الرئيسى

المنية ولا الدنية بقلم:ياسين السعدي

09/04 23:54

هدير الضمير

(المَنِيَّةُ ولا الدَّنِيَّةُ)!!

ياسين السعدي

هذا شعار عربي قديم رفعه العرب قبل الإسلام؛ يوم كانوا يعيشون في شبه الجزيرة العربية لا يحكمهم الغرباء المستعمرون، ولا يتحكم بهم الأبناء المتسلطون المتجبرون. كانت الطبيعة العربية تأنف الدونية التي تعني الرضوخ لمشيئة الغاصب والاستسلام لتسلط المغتصب الذي يسومهم القهر والعبودية والإذلال.

(المنية ولا الدنية) هو الشعار الذي رفعه الزعيم العربي الجاهلي، هاني بن مسعود الشيباني، عندما ثار قومه في وجه الفرس الغاصبين ومواليهم من العرب المتخاذلين الذين كانوا يمثلون (وكلاء) الغرباء، كما نعرف من تنصيب ضعاف النفوس من أبناء الوطن؛ لكي يحكموا البلاد باسم الوطنية وتحت شعار الاستقلال المزيف، بينما يكون الوضع امتداداً لمناهج الاحتلال المباشر، ولكن بطريقة تبدو وطنية لأن الحاكم من أبناء جلدتهم ويتكلم لغتهم يعرفونه ويعيش بينهم كممثل شرعي لهم، بينما هو ممثل للغاصبين، ولكن بلباس وطني مزور، كما قلنا.

هكذا كان العرب قبيل الإسلام مباشرة، وقبل أن ينزل قوله تعالي: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم؛ يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) الجمعة: 2 فقد كان العرب في أطراف الجزيرة الشمالية الغربية المتاخمة لبلاد الشام تحت سيطرة الروم ويحكمهم الغساسنة كوكلاء للروم، بينما كان المناذرة يمثلون الاحتلال الفارسي في العراق، ويقومون بدور الحراسة والحماية للحدود التي تربط العراق مع الجزيرة من الجهة الشمالية الشرقية بنفس الدور الذي كان يقوم به الغساسنة.

ثورات عربية ضد الظلم

قلنا إن الطبيعة العربية جبلت على الحرية وحب الاستقلال والعيش بعزة وكرامة، وتأنف المذلة ولا ترضخ لمشيئة الغاصبين الغرباء أو المغتصبين من الأبناء. ونعرف قصة الملك العربي الطاغية والمتجبر، حجر بن الحارث، والد الشاعر العربي امرئ القيس. لقد استبد حجر هذا بالحكم والسيطرة على قبيلة بني أسد ونصَّب نفسه ملكاً عليهم يسومهم سوء العذاب، ويمارس أساليب القهر والاستغلال، وتمادى بالظلم بكل أشكاله من الجبروت حتى لقد لقب ب (مُضَرِّط الحجارة) لشدة بطشه وقسوة ممارساته، إلى أن ثار بنو أسد عليه وقتلوه للخلاص من ظلمه والتخلص من أساليب القهر التي كان يمارسها ضد أبناء (شعبه).

ونعرف قصة سيف بن ذي يزن الذي رفض التبعية و(الدونية) والقبول بالاحتلال الحبشي الذي كان يسيطر على اليمن، وكيف استعان بالفرس الذين انقلبوا عليه، وحلوا محل الأحباش كمحتلين بدل أن يكونوا منقذين ومُخَلِّصين للشعب اليمني من حكم الغرباء الغاصبين.

أما النموذج العربي في الثورة على الظلم ومحاولة إذلال النفس العربية، فلا نجد أصدق من قصة الشاعر عمرو بن كلثوم التغلبي (الثائر) والقادم (من البادية)، كما كان يتبجح القذافي، حين صرخت أمه تستنهض همته الأبية عندما شعرت أن أم الملك عمرو بن هند أو زوجته، حاولت إهانتها بمجرد أن قالت لها: (ناوليني ذلك الطبق) مما اعتبرته إهانة لها فصرخت (وا ذلاه لتغلب) فثار الدم في عروق ولدها عمرو بن كلثوم، الذي هب إلى سيف الملك المعلق أمامه وقتله به، كما تقول الرواية التاريخية.

ولكن أكثر الشواهد التي تدل على الشهامة العربية ورفض المذلة والاستعداد لبذل الأرواح في سبيل العزة والكرامة و(الاستقلال) الحقيقي، هو ما نعرفه جميعا من معركة ذي قار التي انتصر فيها العرب البسطاء على الدولة الفارسية التي كانت (دولة عظمى) في حينه.

لقد انتفض بنو شيبان الذين كانت ديارهم متاخمة لحدود الدولة الفارسية التي كانت تفرض سيطرتها على العراق وشمال الجزيرة العربية؛ حيث تقطن بعض القبائل العربية، ومنها قبيلة بني شيبان المعروفة.

ثار العرب ضد ظلم الفرس وتسلطهم عليهم واستعبادهم واستغلالهم والهيمنة على ديارهم. ولم يقبل الفرس بهذه الحركة الاحتجاجية التي قام بها بنو شيبان بزعامة هاني بن مسعود الشيباني، ورفضه طلب كسرى المذل بتسليمه وديعة النعمان بن المنذر، ملك الحيرة الذي كان مواليا للفرس، ويمثلهم في حكم الحيرة وما يجاورها من جنوب العراق.

في قصة معركة ذي قار ما يدل دلالة واضحة على شموخ النفس العربية ورفضها للمذلة، وحتى ما يدل على انقلابها ضد الظالمين؛ عندما انحازت القبائل العربية التي جاءت بأذيال الفرس لملاقاة إخوانهم العرب الرافضين (للدنية)، حين (انشقوا) عن الجيش الفارسي وانضموا إلى صفوف إخوانهم العرب من بني شيبان، عندما اشتدت المعركة.

في هذا اليوم التاريخي الذي يروى أنه حدث بعد معركة بدر بأشهر قليلة، والذي وصفه الرسول الكريم بقوله: (هذا أول يوم انتصف فيه العرب من العجم، وبي نُصِروا)؛ أي ببركة الإسلام الذي لم يلبث أن قوَّض دولة الفرس، وزعزع دولة الروم بعده بسنين معدودة.

أسهبتُ في هذا الموضوع لكي أصل إلى هدفي من ذكر العنوان الذي يدور المقال حوله، وهو (المنية ولا الدنية). هذه الصرخة العربية الأصيلة التي تدل على النفس العربية الأبية التي ترفض الذلة أو المذلة كما نقول اليوم.

لقد وقف هاني بن مسعود الشيباني خطيباً في فرسان قومه يحرضهم على القتال ويحضهم على الثبات طلباً للكرامة التي يريد كسرى أن يسلبها منهم ويجعلهم أذلة لا يعصون له أمراً ولا يردون له طلباً، وإنما يسخرهم عبيداً لتحقيق مآربه وتلبية مطالبه.

وقف هاني بن مسعود في قومه خطيباً يحضهم ويحرضهم ويقول لهم: (المنية ولا الدنية) أي: (الموت ولا المذلة) كما رفع أحرار سوريا شعارهم الذي أطلقوه على احتجاجاتهم السلمية يوم الجمعة الماضي، الثاني من أيلول الجاري.

كل الشعوب المقهورة تنادي بهذا الشعار الذي هو شعار الأمم الحية التي تعشق الحرية وتأنف العبودية وتسعى إلى تحقيق العدالة التي نادى بها الإسلام العظيم، وتسترشد بمقولة الفاروق الذي رفض الظلم وصرخ: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).

ونعود إلى عمرو بن كلثوم، صاحب المعلقة المشهورة، عندما حذر من مغبة التمادي في الظلم واستعباد الشعوب بقوله:

إذا ما المَلْكُ سام الناس خسفاً **** أبَيْنا أن نُقِرَّ الظلمَ فينا

أما عنترة العبسي الذي رفض عبودية أبيه وقبيلته فقد قال:

لا تسقني كأس الحياة بذِلَّةٍ ***** بل فاسقني بالعز كأسَ الحنظلِ

أما المتنبي، ذلك الشاعر الذي يمثل النفسية العربية الأبية، فقد سن لنا المنهاج السليم في الحفاظ على الحرية ورفض العبودية، حتى لو كان الموت ثمنا للحرية، فقد قال:

عِِشْ عزيزاً أو مُتْ وأنتَ كريمٌ **** بين طعن القنا وخَفْقِ البنودِ

وقال في المعنى ذاته:

فلا عبَرَتَ ْبي ساعة لا تُعزِّني ***** ولا صَحِبَتْني مهجةٌٌ تقبلُ الظُّلْما

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل