المحتوى الرئيسى

دراسات نقدية في روايات عزالدين جلاوجي

08/31 16:01

  دراسات نقدية في روايات

 عزالدين جلاوجي

بأقلام نخبة من النقاد والباحثين

 

دراسات تناولت رواية  الرماد الذي غسل الماء

 


الـرد بالكتابـة

قراءة في رواية "الرماد الذي غسل الماء" للروائي الجزائري عز الدين جلاوجي[1]

 

د.أحمد فرشوخ (المغرب)

 

تسعى هذه الورقة لإنجاز قراءة نقدية ثقافية في رواية (الرماد الذي غسل الماء) (1) للمبدع العربي الجزائري عز الدين جلاوجي، وهي لأجل ذلك تبني فرضيتها الأساس على فكرة تنسيبية ترى بأن إنتاج الأدبية مقترن بالسياق الثقافي، إذ لا وجود لأدبية  معيارية تتعالى عن الشروط المكانية والزمنية،كما أن النصوص على اختلاف أنماطها متورطة وجوبا في شبكة العلاقات السياسية الاجتماعية المعقدة. وحيث إن الرواية الجزائرية جزء من آداب الشعوب  المستعمرة، فإن لا شعورها السياسي الجريح يتوق عبر التخييل إلى  توكيد الهوية ورسم الاختلاف من خلال جمالية المقاومة التي تعتبر بديلا للخطاب القومي الأصولي المتشدد. ومن ثم فإن الرد  الروائي على المستعمر لا  يتمثل فقط في الموقف السياسي بل يتجلى أيضا  في الانزياح عن الشكل الروائي التقليدي المتعارف عليه في الكلاسيكيات العربية والغربية . وهذا ما أكده ادوارد سعيد في كتاب "الثقافة والامبريالية"، إذ يرى بأن شعوب المستعمرات القديمة ترد بالكلمة  المقاومة على المركز الإمبراطوري، لذلك اعتبر التخيل منذ القديم الملاذ الوحيد للشعوب المقهورة، كما أنه في الثقافة المعاصرة أضحى فضاء للهروب من سياسات الهيمنة والتبعية. فالمقاومة الإبداعية إذن نهج بديل في تصور التاريخ البشري. ومن المهم أن نختبر قدرة هذا البديل على تحطيم الحواجز القائمة بين الثقافات.ذلك " أن الكتابة ردا على الثقافات الحواضرية، وتخريب السر ديات الأوربية عن الشرق وإفريقيا، واستبدالها بأسلوب سردي جديد أكثر لعبا وأشد قوة، تشكل مكونا رئيسيا في هذه العملية"(2).

ضمن هذا المنحى إذن يكتب عز الدين جلاوجي عمله الروائي الرابع بعد(سرادق الحلم والفجيعة)، و(الفراشات والغيلان)، و(رأس المحنة). وبذلك يكون الكاتب قد جاوز بهذه الرباعية الروائية حدود جنس القصة القصيرة التي ارتادها في مجاميع (لمن تهتف الحناجر؟)، و(خيوط الذاكرة)، و(صهيل الحيرة).

ورواية (الرماد الذي غسل الماء )عمل فني تجريبي يسهم في الانتقال من كتابة اللقطة والحالة والصورة الخاطفة، إلى استكشاف الكلية المركبة والإشكالية المشخصة للعلاقات النثرية العميقة بين الذات والمجتمع والوجود. وفيها نلمس محاولة كسر قانون السرد الغربي والتصرف في قواعده المعيارية، وذلك من خلال تشييد عالم حكائي متميز في نمط خطابه وصيغة تلفظه وطبيعة ارتباطاته بالمتخيل الاجتماعي، وعلاقاته التناصية بالأجناس الأدبية والخطابات المعرفية والأشكال البسيطة والأعراف والقيم الثقافية.

1.سردية النص/ سردية المجتمع: أول ما يواجه القارئ في تلقيه للنص هو الوسم الأجناسي، لأنه علامة ثمينة تفتح أفق انتظار يراعي طبيعة تمثل الكاتب لحدود الجنس الأدبي الذي يرتاد فضاءه بوعي أو بدونه.

وما يلفت النظر في  (الرماد الذي غسل الماء)هو  تسميتها بالرواية على ظهر الغلاف، ووسمها بالحكاية، والحكاية العجيبة في الاستهلال المضمن في شكل رسالة عشق  إلى حبيب مفقود (ص.ص5-7)،

وكذا نعتها بالقصة في الحاشية الأخيرة، وفي خاتمة رسالة العاشقة(ص.259).

ولاشك أن هذا التعدد في التجنيس يستدعي نوعا من التحليل الثقافي، إذ هو يدعو إلى التفكير  مجددا في مفهوم "رواية" العربي، والبحث في أصوله المعرفية والخيالية انطلاقا من طبيعة الاحتكاك بين الثقافة المحلية والثقافة الوافدة، وفي ضوء سفر المفاهيم والأشكال والنظريات.إذ ما طبيعة التداخل بين الحكاية والقصة والرواية؟وما مرد ودية مقارنة التسمية العربية بالتسميات الأوربية؟ وما هو النسب الحقيقي لهذا الجنس الأدبي الجديد؟

 تلك أسئلة تجد ما يسوغ طرحها ضمن النص المقارب، ذلك أن الكاتب وإن أفاد من النموذج السردي الغربي إلا أنه قاومه من الداخل . ويتجلى ذلك في سعيه لتشخيص الكلية الاجتماعية عبر حبكة رئيسية تستوعب مجموع الأفعال والشخوص والأزمنة والفضاءات، بحيث تشغل موقع البؤرة في تنظيم النص وتحريك الحوافز. وهذه الحبكة هي بمثابة بنية سطحية تنهض على عنصري التشويق والتحقيق . وهما كما لايخفى، العلامتان المميزتان للبناء الروائي البوليسي. ذلك أن النص يروي قضية تحقيق أمني للبحث عن  الفاعل الحقيقي لجريمة قتل، وعن سر اختفاء الجثة التي عثر  عليها كريم السامعي في طريق الغابة ليلا...إلا أن السرد لا يحسم في مصير الجثة..ويربك القارئ من خلال طرح الفرضيات المتعددة المفسرة لارتكاب الجريمة، وكذا لاختفاء الجثة أو لهروبها على حد تعبير الحكي.  بل إن المبلغ عن الجريمة - كريم السامعي- يتشكك في حقيقة ما رآه، بحيث يتوه في دوائر القلق متسائلا عن حقيقة الجسم الممدد على طريق الغابة :أهو فعلا إنسان مقتول، أم حيوان دهسته سيارة أثناء العبور، أم كيس تافه لا معنى له (ص.14).  ولأجل توسيع مدى الالتباس يلج السرد مدار التردد والحيرة ملامسا منطقة العجيب وفق منحاه الخاص، وذلك من خلال إشاعة خبر رجوع المقتول إلى الحياة عبر هتافات الصغار(وكان الصغار يلهبون الفضاء يهتكون صمته بأصواتهم العصفورية:" مقتول يرجع الحياة..مقتول يرجع للحياة...". وتهافت الناس منجذبين نحو الأصوات كأنها المغناطيس وراحت الأيدي تمتد مستلمة الجرائد متعجلة تصفحها، ومر قريبا شيخ متمتما :-"أعوذ بالله ستقوم القيامة" ص.252).

هكذا  تغدو قضية الجثة الهاربة بمثابة وسواس يسيطر على الأفعال والمشاعر، بحيث تملأ الفضاء الاجتماعي لمدينة عين الرماد مسرح الأحداث، والجميع ينظر إليها من زاويته الخاصة، بل ويستثمرها لأغراض مرسومة. وفي ذلك تقول الساردة:(ما تكاد قضية الجثة الهاربة تطوى في أذهان الناس حتى تعود للنشر من جديد..واتخذتها الصحافة لعبة تلهي بها القراء، وتثير فضولهم واهتمامهم لكن الشرطة أبدا لم تطو القضية، وراح الضابط سعدون يثيرها كل مرة بشكل جديد..يطرح فرضية جديدة، ويتعب معاونيه في البحث عن حقيقتها  حتى أثار قلق كل من له علاقة بذلك ..قال أحد المساعدين:- يا حضرة الضابط الحقيقة ظهرت، والمحكمة أصدرت حكمها وانتهى الأمر.- لكننا لم نجد الجثة والسر كله في الجثة..لا بد أن نجد الجثة ..لا بد أن نجد الجثة.ص.232).

ومن البين أن هذا التركيب السردي المشدود إلى التشويق والتحقيق لا يعني أننا بالضرورة أمام رواية بوليسية بالمعنى النظري الدقيق للتوصيف، ذلك أن الحبكات الضمنية القابعة في جوف النص تقاوم منطق البناء البوليسي من جهة نسجها لسرود تشتبك بالمتخيل الاجتماعي والعلامات الثقافية الرمزية. فسردية النص تتغذى باطنيا من سردية المجتمع الكبرى. وحينئذ تتمفصل السرديتان إلى حد بلوغ تمثيل ذهنيات وأنماط سلوكية وعلامات ثقافية تصوغ جوانب من واقع  الأمة الجزائرية :الشيء الذي يذكر بعنوان كتاب لامع للناقد ما بعد الكولونيالي هومي بها بها :

ذلك أن رواية الرماد تختزن تلوينا سرديا محليا يتغذى من بنية التأليف القديم "Nation et narration" (المتن والحاشية)، كما تستلهم ضمن لحظات وافرة الأسلوب العربي البياني القديم ضمن محاكاة ساخرة تروم تقويض سلطته الفنية المتحالفة مع السلطة السياسية، وبهذا النمط الأسلوبي صيغت حكايات بمذاق السرد العربي الكلاسيكي على نحو ما نلفيه في  خواطر فاتح يحياوي المدونة في كراسته التي يحملها معه إلى خلوته في الجبل، والموسومة ب:(المنحة، أنا ربكم، الصنم، الاختراق).(ص.181)، هذا فضلا عن بذر الأمثال والأحلام والأغاني الشعبية (الراي) والعبارات المسكوكة، والتعبيرات الشفوية، والنصوص الشعرية، والعلامات الدينية، والألفاظ والتراكيب القرآنية، والأسماء الأدبية والثقافية والسياسية الحاملة لسلطة رمزية قوية في المخيلة الجماعية، إضافة إلى الانفتاح على المدار الخرافي الباعث على الغرابة ممثلا في (مشهد نبش المحيطين بعزيزة لقبر وإخراج الجثة وتمديدها على الأرض، ثم الحاشية التي تقول بأن أبناء المدينة الفقراء والمنبوذين قطعوا عزيزة والجنرال وأتباعهما، ثم أشعلوا النار في كل المدينة فاحترقت كما احترقت روما..ص.258)، وممثلا أيضا في بعث الأولياء، وتقديس الأمكنة. وبهذا تكون سردية النص ملتحمة بالعلامات الخيالية للمجتمع الحارسة لأصوله، الحافظة لشبكة الذاكرة التي تلف بخيوطها مجموع النظام الثقافي للأمة الجزائرية، الحامل لشعور جمعي يشخص الجرح الغائر لمجتمع باحث عن الكرامة والعدل .

2.المتن /الحاشية: وفي ترابط مع هذه الخاصية الواسمة لسرد النص  من جهة التشويش على صفائه التمثيلي وقدرته على تحويل جنس الرواية إلى مقولة قابلة للكسر، نلفي توظيفا مبتكرا لتقنية التحشية التي تخللت النص بوفرة كادت أن تغطي المتن ذاته، إذ بلغ عددها تسعين حاشية، تقوم بوظائف متنوعة تشمل التعريف بالشخصيات ووصف الفضاءات والتعليق على الأفعال. وفي ظني أن استعمال هذه التقنية يروم تقويض مركزية الكتابة في منطقها الغربي، ونقض أسسها المعرفية، في سعي لزحزحة كل هيمنة ممكنة ورد الاعتبار بالتالي للهوامش المغيبة لكي تسمع صوتها. و هذه الطريقة في الكتابة معروفة في التآليف العربية الكلاسيكية، فقد كان القدماء يكتبون حول حياة شاعر وينقدون كتبه ويدرجون ديوانه في الكتاب نفسه.وفي ذات الكتاب يشرحون ويحللون الأبيات الشعرية.لكن الكاتب تصرف في هذه التقنية ومنحها تضمينات لها أثرها في خلق الفجوات، وزرع الالتباسات، ومضاعفة التأجيلات، وتكملة المنقوص، والتشكيك في الحقيقي:الشيء الذي أسهم في خلق الانطباع بتصديع السرد من الداخل، وإرجاء الوصول إلى التفسيرات المطمئنة والمعاني التامة.

ويهمنا هنا أن نطرح تساؤلات بصدد الوضع الاعتباري لهذه الحواشي: هل هي ضرورية أم نافلة؟ هل هي أساسية أم مجرد تكملة؟ هل هي مندمجة مع النص أم غريبة عليه؟ وبالتالي هل هي داخل الرواية أم خارجها؟

للإجابة عن هذه الأسئلة يمكن الاستفادة من مفهوم "الزيادة" كما وظفه التفكيكيون. وعنه يقول دريدا :(الزيادة هي ما يضاف من أجل تكملة نقص، ترسمه وتتركه مفتوحا في نفس الآن.ولكونها آتية كإسراف، فهي ليست ملائمة أبدا.هذا الزائد وهذا الناقص لا يتعادلان أبدا، ولعبتهما تعطل وتصدع كل تعارض بسيط بين الايجابي والسلبي.إن الزيادة إضافة تكسر بمقدار، الحواجز التي لا تتوقف عن إقامتها"(3).

هكذا تغدو الحواشي بما هي زائدة غريبة ومأنوسة في ذات الوقت، فائضة ومنقوصة في نفس الآن.

وبالتالي فإن فعاليتها تؤخر حلول موعد الحضور، الذي قد يغدو حضورا ما ينفك يلاحق موعده ليحل فيه فلا يصيبه.. ومن هنا يمكن القول بأن رواية الرماد تجعل من  مبدإ التقويض رهانا فنيا بطريقتها الخاصة، على نحو يجعل تماسكها  مبنيا وفق تركيب مفارق باعث على تخصيص الهوية السردية. ومن البين أن تصور التماسك السردي المحيل في التحديد النظري على الكلية يحتاج إلى نقاش. إذ تصور الكلية ليس متماثلا في جميع الثقافات، لأنه يظل منبثقا من طبيعة تمثل العالم بكائناته وظواهره وأشيائه. ويمكن ضمن هذا المنحى استدعاء شكلين  من الكلية نراهما نافعين في تقريب الغرض المقصود:أولهما يتصل بالكلية المتكاملة الموحدة والمركزة، حيث التفكير هنا متصل متتابع، وعلاماته متجاورة متجاذبة حد الاستنفاد والعودة إلى نقطة البداية، وهذه الكلية تنتمي لثقافة الكمال والاستمرار، إذ الأجزاء تندمج بقوة كنقاط الماء المتضامنة في محيط.أما الشكل الثاني للتوحيد، فيتخذ صيغة كلية منثورة تجميعية ممتدة، تتكون ظاهريا من أجزاء منفصلة بعضها عن بعض كما لو أننا أمام أشجار متفرقة في غابة وسيعة.

ورواية الرماد تنتمي إلى التمثل الأخير للكلية، من جهة توزعها على أسفار تتضمن متونا وحواشي كثيرة تترابط وفق نظام قائم على الائتلاف والاختلاف الذي قد يصل حد التناقض. ولا شك أن هذا التركيب الشذري ينحت فوضى سردية جميلة تستدعي قارئا يقظا يتذوق الانفصال والتباعد، ويقدر قيمة الفراغ  بحيث  يساهم بدوره في تشكيل هوية النص  والقبض على رهانه الفني والمعرفي.

3. الواقع/ الخيال:تنتهي الرواية بالحاشية رقم 90 التي تنقض البعد الواقعي لمدينة عين الرماد وللحكايات الجارية فيها مبطلة بذلك كذبة التشخيص.فكيف يمكن الجمع بين هذه الإشارة الفاضحة القوية التأثير بفعل ورودها ضمن ختام النص، وبين التشخيص الدقيق والوصف التفصيلي لمدينة عين الرماد إلى حد تقري معالمها وظواهرها وأناسها؟. ومن المؤكد أن هذه المفارقة التي تشكل الحجر القلق للنص لن يرتاح لها القارئ المتواطئ الذي ينسحر بقوة الإيهام ويلتذ بالتصديق وينخدع بالمحاكاة، لكنها في المقابل ستحفز القارئ الإشكالي على إعادة بناء العلاقة بين الخيالي والمرجعي وفق تصور مغاير ينتصر لذات الكتابة، أي لنسق العلاقات القائمة بين شرائح النص نفسه. ذلك أن ذات الكتابة هي في العمق، فعالية متصلة  ومتباعدة مع مرجعها حسب شبكات معقدة  من الاشتغال والتبنين. وحينها ينبثق مشهد فني يتضمن بداخله انتقالات وتقطعات وتحويلات تستوعب البنية والنفس والمجتمع والعالم(4).

 ومن المؤكد أن الرواية قد استوحت الواقع الجزائري من جهة تمثيل انكساراته الاجتماعية والسياسية وتصوير مظاهر الفساد فيه، كما أنها شخصت حلمه بالعدالة الاجتماعية  في مرحلة ما بعد الاستعمار.غير أن  هذه المقاصد المشكلة للسياق وإن رافقت النص فإنها تموقعت أيضا خارجه، بحيث أفضى ظهورها العرضي والمختلف إلى انتصار الشكل وتجسيد نزاهة الكتابة التي لا تطمس  الإحالة بل تجعلها غامضة ومشرقة. وبذلك تكون رواية الرماد واحدة من  النصوص العربية والإفريقية التي أكدت نديتها لغيرها من روايات الغرب.ذلك أن نقاد أوربا وأمريكا قرؤوا غالبا آداب العالم الثالث ككناية قومية وتعبير سياسي مباشر غافلين طبيعته المميزة ومنتهكين هويته، ومن ثم دراستهم له في الأقسام الجامعية المختصة في الانتروبولوجيا.

 والحال أن رواية مثل رواية الرماد تبين عن نضجها الفني المرتكز على تقنياتها السردية المراوغة، وبنياتها المتأبية على الفهم البسيط الذي يسعى لتضييق المسافة بين النصي والواقعي. وفي ذلك رد على  المفهوم  الكولونيالي للعالمية الذي اعتبر الأداة النقدية الأوربية لتصنيف الثقافات والآداب من منظور يعيدنا إلى تلك العلاقة المشبوهة بين المعرفة والسلطة، بل ويذكرنا بالآثار المتبقية عن إمبراطورية الاستراق التي عمل ادوارد سعيد على تفكيكها، كاشفا عن اختلاقها لشرق يغذي خيالها وقوتها  وتمركزها العرقي وعنصريتها الدفينة. ومن ثم فان النقد الروائي ملزم بتطوير نظرته من الداخل لأجل إنتاج قراءة منصفة للرواية الجزائرية بعامة، قراءة ما لم يقرأ فيها بعد، واستكشاف عناصر تميزها واستراتيجياتها في توكيد الاختلاف الفني والثقافي. ومن المؤكد أن المتن الروائي الجزائري الجديد ممثلا في عز الدين جلاوجي ومجايليه  قد أثبت أن الأدب الجزائري ما زال قادرا على الإضافة، بل وما زال قادرا على الإسهام في الثقافة العالمية إلى جانب الجماعات الثقافية المتنوعة.

هوامش:

 1- عزالدين جلاوجي، الرماد الذي غسل الماء، مطبعة دار هومة، 2005.

2- ادوارد سعيد، الثقافة والامبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، دار الآداب،  بيروت، 1997،  ص274.

وللتوسع في دلالة مفهوم "الرد بالكتابة "، يمكن الرجوع أيضا إلى :بيل أشكروفت،  غاريت غريفيث،  هيلين تيفن، الرد بالكتابة، النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة، ترجمة، د.شهرت العالم، المنظمة العربية للترجمة،بيروت، 2006.

3-سارة كوفمان، روجي لا بورت، مدخل الى فلسفة جاك دريدا، تفكيك الميتافزيقا واستحضار الأثر، ترجمة إدريس كثير وعز الدين الخطابي،إفريقيا الشرق،الدار البيضاء، 1991،ص58.

4-  من أجل إيضاح أوسع لمفهوم "ذات الكتابة"،يراجع جاك دريدا، مواقع، حوارات، ترجمة وتقديم فريد الزاهي،دار توبقال للنشر،الدار البيضاء،1988،ص81.

 

 

 

 

التوازي ولعبة المرآة

في "الرماد الذي غسل الماء"  للأديب عزالدين جلاوجي

 

حسين فيلالي (جامعة بشار)

 

تعتبر الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية حديثة النشأة، إذ يتفق المؤرخون لهذا الجنس الأدبي على أن الرواية الجزائرية لم تبدأ تتشكل معالمها الفنية إلا مع بداية السبعينيات[2]  وقد تميزت  هذه الفترة بظهور أعمال عديدة تمحورت أغلب موضوعاتها حول التحولات الاجتماعية والسياسية للدولة الجزائرية الفتية.

وقد يلاحظ الدارس أن الكثير من هذه الأعمال الروائية قد غلبت المضمون على الشكل فسقطت في الخطابية والدعائية، ففقدت صوتها، وتحولت في أغلبها إلى خطب سياسية لا تختلف لغتها عن لغة السياسي بل صارت ترجيعا لصوته.

- ولعل مرد ذلك حسب رأينا يرجع إلى:

- غياب النموذج المثال.

-  عدم ترك مسافة بين الرؤيا الإبداعية وبين الأحداث الواقعية.

- الفهم الخاطئ لجنس الرواية كفن له خصائص: لغة تختلف عن لغة التخاطب اليومي، وتخييل قصصي[3]. 

-   ولقد أفرزت مرحلة السبعينيات والثمانينيات أسماء عديدة سرعان ما بدأ البعض منها ينسحب، ويختفي من الساحة الأدبية لتبقى أسماء معدودة ومعروفة تواصل الكتابة، كالطاهر وطار، و ابن هدوقة، وعبد المالك مرتاض، وعلاوة بوجادي، إسماعيل غموقات، شريف شناتلية، علاوة وهبي، وجيلالي خلاص، والسايح لحبيب، ومرزاق بقطاش، محمد مفلاح، وعرعار محمد، وواسيني لعرج، محمد ساري.

ولعل الدارس يجد صعوبة كبيرة، إذ هو حاول رسم منحنى تطور العديد من التجارب  الروائية الفنية في الجزائر، ذلك أن هذه الأخيرة ظلت تتأرجح بين الصعود حينا، والنزول أحيانا كثيرة حتى عند المؤسسين، وهو ما يدعو الباحث إلى التساؤل، ويدفعه إلى الوقوف عند هذه الظاهرة التي لم تقتصر على جيل دون غيره.

فالباحث في الرواية الجزائرية قد يراهن على  تجربة من التجارب، وينتظر نضوجها، بل إضافاتها لكن سرعان ما يخسر الرهان، إذا تبقى التجربة الأولى- في الغالب- هي أنضج تجارب الكاتب  هي البداية والنهاية، وعندها يتوقف منحنى التطور.

- و لعل اللغة الفنية تبقى  الغائب الأول في العديد من التجارب الروائية سواء عند الرواد أو الجيل الجديد وهو ما حرم الرواية الجزائرية من تجاوز المحلية.

-   لقد ألفينا اهتمام كتاب الروائية عندنا  ينصب  على المضمون الذي يكون في الغالب إيديولوجيا حتى بعد مرحلة التأسيس.

- وليس توظيف الإيديولوجي مما يؤخذ على الأديب، أو يرد عليه، فنحن لا نتصور عملا فنيا بدون إيديولوجية إلا على مستوى أذهان المنظرين الجاهلين لماهية الفن المتحدثين من خارج التجربة الإبداعية.

- إن ما ندعو إليه هو إبداع يصهر الإيديولوجي في بوتقة الفني بحيث لا يشعر المتلقي أنه أمام خطاب سياسي مغلف برداء أدبي رث لا يستر عورة المعاني.

- لقد كان على الأدب الجزائري أن ينتظر مرحلة التسعينيات، ليسجل حضوره القوي، على مستوى الكتابة الروائية مع الشاعرة أحلام مستغانمي في روايتها ذاكرة الجسد، التي لقيت نجاحا خارج الجزائر، لفت إليها أنظار الدارسين الجزائريين وزاد الاهتمام بها- نقدا، وانتقادا-  بعد فوزها بجائزة الأديب نجيب محفوظ.

-  وما كان لأحلام أن تتبوأ هذه المكانة لولا اشتغالها في المقام الأول على لغة سردية فنية، وتخييل قصصي، ولعلي لا أجانب الصواب إذا قلت: إن قوة ذاكرة الجسد تكمن في لغتها الفنية. وقد يكون هذا ما جعل البعض يستكثر على الأدب الجزائري هذا العمل الرائد، ويشكك في مقدرة الروائية الجزائرية، بل سارع البعض إلى نسبه إلى شعراء بحجة أن لغة القص التخييلي في ذاكرة الجسد تجنح إلى الشعرية. وأفتح قوسا هنا لأشير إلى الفهم الخاطئ لمفهوم مصطلح الشعرية عند بعض الدارسين العرب حيث اعتقدوا أن الكلمة آتية من الشعر، فراحوا يبحثون عن لغة الشعر في الرواية، والقصة بحجة تداخل الأجناس الأدبية الذي عدوه محمده، فضلوا، وأضلوا،و قد نسوا أن الأجناس الأدبية نشأة متداخلة، ولعل الإشكالية لا تزال قائمة في تاريخ الأدب، فهناك من يعتبر الشعر قد  انبثق من رحم النثر.

-  وسواء انبثق النثر من الشعر أو العكس فإن استقلال الأجناس نعتبره فتحا  في تاريخ الأدب، فمبدأ الاستقلالية نراه أكثر ايجابية من مبدأ الضم، والاحتواء،أو التداخل الذي يميع الأصل، ويغيب خصوصية الجنس.

و لم تكن تجربة أحلام الروائية الوحيدة في الجزائر التي اهتمت باللغة الفنية بل هناك تجربة روائيين لم يلتفت إليهما النقد، ولم ينالا حقهما من الدراسة كما نالت أحلام، ونقصد بذلك الروائي عزا لدين جلاوجي الذي نقف عنده في هذه الدراسة، والروائي لحبيب السايح الذي سنفرد له دراسة خاصة به مستقبلا.

إن هذه التجارب الثلاث تشكل ظاهرة فنية في الرواية الجزائرية  جديرة بالدراسة.

- إن المتتبع لتجربة الروائي عزالدين جلاوجي بدء من سرادق الحلم والفجيعة ومرورا بالفراشات والغيلان، ورأس المحنة، وانتهاء بالرماد الذي غسل الماء يقف على ذلك الاهتمام باللغة الفنية كمكون رئيس من مكونات السرد الروائي.

- يقول ابن رشيق في كتاب العمدة: وكان الكلام كله منثورا فاحتاجت العرب على التغني بمكارم أخلاقها وطيب أعرافها وذكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام فلما تم لهم وزنه سموه شعرا.

البرامج السردية

إن الملفت للنظر في تجربة الكاتب عزا لدين جلاوجي، هو ذلك التوازي الذي تشتغل عليه جل أعماله، حيث نقف على برنامجين متوازيين، يشتغل عليهما السرد الروائي، ففي الفراشات والغلان يسير برنامج الغيلان بالتوازي مع برنامج الفراشات حتى وإن خدعنا في البداية  بالواو العاطفة بين الفراشات والغيلان، واعتقدنا أنها واو رابطة، فإننا سرعان ما ندرك خطأ هذا الاعتقاد ونحن نلج المتن الروائي، إذ نكتشف أن هذه الواو حققت على مستوى الدلالة نوعا من المفارقة، ولهذا اقترحنا تسميتها بالواو الفارقة[4].

وهذا التوازي نجده في الروايات الأخرى: سرادق الحلم، والفجيعة،ورأس المحنة،و الرماد الذي غسل الماء التي سنقف عند بعض جمالياتها في هذه الدراسة.

سيميائية العنوان:

أول ما يواجه القاري في هذه الرواية عنوانها: الرماد الذي غسل الماء،فيبدأ يقلب هذه الجملة /العنوان، ويفكك إشاراته اللغوية حتى يستطيع إعادة تركيبه والولوج إلى دلالاته.

فالعنوان يتكون  من الوحدات التالية :

الرماد 

الذي

غسل

الماء

يتكون العنوان من أربعة إشارات لغوية دالة، وفاعلة بحيث لا نجد ما يمكن أن نسميه بالفضلة بالمصطلح النحوي، والتي يمكن أن نستغني عنها دلاليا مما يصعب مهمة القاري, ويدفعه إلى إعادة ترتيب عناصر العنوان.

إعادة ترتيب العنوان:

الرماد غسل الماء:    -1

تبقى هذه الجملة ناقصة، إذ لا يمكن للقاري الاستغناء عن اسم الموصول (الذي) كما لا يمكنه أن يتصرف في أسلوب الكاتب بالحذف، ولعل اسم الموصول سمي موصولا لأنه يصل ما قبله بما بعده على مستوى البنية النحوية. واسم الموصول لابد له من صلة وعائد، فصلة الموصول (يغسل الماء) هنا عائدة على الرماد وقد ساعدت دلاليا على  إزالة إبهام جملة الرماد الذي.

-  الذي غسل الماء الرماد:2

هذه الجملة تبقى مساوية للعنوان الأصلي في الدلالة: الرماد الذي غسل الماء حتى وإن تغيرت بنيتها النحوية، فالفعل يبقى واحد، والفاعل هو هو.

فالنتيجة هي أننا أمام اسم متصدر للجملة(الرماد)، وما تبقى من إشارات لغوية تابعة له في المعنى أي أن الجملة واصفة للرماد، والوصف يتبع الموصوف على مستوى البنية النحوية، ويزيد من تعريفه على مستوى الدلالة.

فالعنوان إذن يضعنا أمام مفارقة من خلال التركيز على فعل الرماد، وليس على الرماد. وهو بهذا يضيق مجال القراءة، ويحد من حرية الدارس إذ أن الاسم/الرماد لم يبق في حدود الإطلاق، وإنما قيد الوصف فعل الموصوف وخصه بفعل المحو. وكأني هنا  بالروائي يوحي للقاري باستبعاد رمز الرماد المعروف في الثقافة العربية المرتبط بفعل إيجابي "كثير الرماد"، والذي  هو كناية عن الجود.

هكذا يضعنا الروائي أمام مفارقة دلالية من خلال العنوان الرماد الذي غسل الماء، ويسلبنا ما نعرفه من دلالة عن رمز الرماد، ويرغمنا على اللجوء إلى إعادة صياغة سؤال العنوان.

فكيف يتحول الرماد الذي هو رمز من رموز الفناء، والضعف، إلى عنصر فاعل فعلا ايجابيا؟

وكيف يغسل الرماد الماء، وهو فاقد للحياة، بل هو اثر من آثار الفناء؟

من هنا تبدأ الرواية في استفزاز القارئ، وتجعله يعيد النظر في قراءة العنوان.

وإذا حاولنا توزيع مفردات العنوان حسب انتمائها إلى حقل دلالي ما فإننا لا نجد سوى طريقة وحيدة هي:

الحقل الدلالي الأول: نجد فيه عنصرين:

الماء

يغسل

فالماء رمز الحياة، ومن وظيفته فعل الغسل.

الحقل الدلالي الثاني نجد فيه عنصر وحيد هو:

الرماد وهو رمز الفناء والسكونية.

و يبقى من العنوان: اسم الموصول الذي يسميه النحويون اسم الموصول الخاص ولا اعتبار له دلاليا بمفرده لأنه يحتاج إلى صلة وعائد كما لا اعتبار لدلالة الجملة/العنوان بدونه فهو يخصص الرماد  ويسمه بخاصية المحو(الرماد الذي غسل الماء).

إن بنية عنوان الرواية (الرماد الذي غسل الماء) تخرق الترتيب المنطقي للأشياء، وتقلب المعني المتعارف عليه لفعل الماء، فتجعل الرماد رمز الفناء والسكونية يسلب الماء أحد أهم خصائصه، وهي  الحركة والحياة.

وهكذا ينتصر فعل الموت في العنوان على الحياة، حتى وإن كانت الرواية لا تذكر الموت  بالاسم الصريح، وإنما تتشكل صورته لدى القارئ كفعل يمتد في الزمان، والمكان، والإنسان من خلال سير السرد الروائي.

ونحن ندخل متن الرواية ينتقل الرماد/الموت إلى عين الرماد

 والعين هنا رمز الحياة الذي يتحول عبر الرواية إلى رمز للموت (فمنذ أن هزت جريمة القتل الشنعاء فرائص عين الرماد...).

وينتشر الموت وينتقل إلى المكان  فنقرأ في الرواية(ومدينة عين الرماد كالمومس العجوز  تنفرج على ضفتي نهر أجدب أجرب...).

 وبعد أن زحف الموت على عنصر الحياة وهو العين/ الماء، وعم المدينة رمز الحياة والحضارة   تكون قد تشكلت صورته النهائية من خلال تدرج  فعله في عناصر الحياة :

-  عين الرماد

-   مدينة عين الرماد     

 ويسري فعل الموت/الرماد في  عتبات النص ويتغلغل في المتن من خلال انتصار رمز الرماد/الموت على رمز الماء/الحياة

عتبات النص/خارجيات النص:

يسمى بعض النقاد النصوص الخارجة عن المتن بعتبات النص، وقد تتوفر العتبات على إشارات تصلح لأن تكون مفاتيح للولوج إلى باحة  النص.

إن القاري لرواية الرماد الذي غسل الماء  يجد نفسه أمام إهداءين يتصدران الرواية أحدهما عام، والآخر خاص يمكن اعتبارهما امتدادا لفعل ثنائية العنوان الرماد/الماء.

الإهداء العام:

(يا بشراه...يذبحنا التتار البيض كل مساء، فتجري منا الأرض دموعا ودماء...إلى الأشجار التي وقفت بكبرياء في جنين والفلوجة متحدية زوابع أعداء الإنسانية...)

يتضمن الفعل يذبحنا دلالة صريحة لفعل القتل الجماعي، وتأتي إشارة (كل مساء لتوسع من دائرة القتل وتجعله يتجدد. ثم ينتقل الإهداء من التعميم  إلى التخصيص ومن التصريح إلى  التلميح (الأشجار الواقفة في جنين والفلوجة...).

هكذا تبقى ثنائية العنوان الرماد/الماء امتدادا لفضاء الفلوجة، ولجنين وتبدو الرسالة الموجهة للقاري واضحة الشفرات، ففعل الرماد/الموت يزحف، يمتد من الفلوجة إلى جنين، وهكذا تتشكل خريطة الرماد/ الموت  من بحر العرب حتى سيناء كما يصرح بذلك النص.

الإهداء الخاص:

إلى فلذة الكبد، ودفقه الفؤاد علاء الدين الذي أشرق ليملأ البيت حبورا ثم رحل ذات صباح دون استئذان، موعدنا الجنة.

لا يحتاج  القاري إلى  ذكاء أو براعة تأويل ليصل إلى دلالة هذا النص/ الإهداء  وربطه بفعل العنوان الرماد/الموت.فالنص هنا يركز على الرسالة بل مضمون الرسالة، ويبعثها عارية المعاني، بل هي من المعاني المطروحة في الطريق كما يقول الجاحظ. 

العتبة/المفصل:

جاءت هذه العتبة مخالفة للعتبتين السابقتين، ومشابهة لهما، فهي من جهة لم تسم كسابقتيها المناصات الخارجية (الإهداء العام- الإهداء الخاص)، وإنما جاءت مبتورة التسمية، تدخل القارئ مباشرة في أجواء النص (حبيبي وأنا أتدحرج في مهاوي الأيام، أنكث ضفائر العمر الحزين... تتحداني براثن الليالي الحالكات.. لم أعد أشعر بدفء الحب يحضن قلبي الصغير.. ما عدت أتنشق شذاه يدغدغ الفرح في جوانحي... بحثت عنك كثيرا... قلبت حتى ابتسامات الأطفال وتجاعيد الكبار.. وحلم الأبكار ينتظرن عاشقا على شرفات العمر.. طاردتك خلف زقزقات العصافير الرمادية، وبين ثنايا الصبا يهب حزينا

 منكسا على مدينتنا البائسة.. ساءلت عنك البراءة في وجوه الصغار والدموع المضطربة على شرفات العيون... والأحلام المقبورة في نفوس المقهورين

وكنت دائما أراك خيط دخان ينفلت من بين أصابعي البضة المرتجفة... وتظل تبتعد إلى أعلى يشيعك الحلم في عيني وفي قلبي الصغير عسى أن ألقاك يوما ما.. في مكان ما. وها البأس يا سيدي يتغشاني غمامة رمادية... فمنذ أن هزت جريمة القتل الشنعاء فرائص عين الرماد والناس لا حديث يتجاذبونه أطرافه إلا عنها..).

هذا النص جاء بين خارجيات النص وبين المتن، وهو يختلف عن المنصات الأخرى كما ذكرت من حيث:

المرسل/الراوية، والوظيفة.

العلاقة بين النص المفصل، وبين المتن.

فالراوي في المناصات الأخرى يتحدث بصيغة الجمع بينما تتحدث الراوية هنا بصيغة المفرد، وتخصص المتلقي بصفة حبيبي، سيدي.

نشعر من البداية أن فعل العنوان يسري في النص المفصل من خلال الجمل التالية:

أنا أتدحرج في مهاوي الأيام...

أراك خيط دخان...

اليأس يا سيدي  يتغشاني غمامة من رماد...

يمد أكفانه إلى حلمي وقلبي...

إن هذه الجمل تشترك في عنصر السلبية، إذ يحاول الناص من خلالها إشراك المتلقي، وإشهاده على انهيار الشخصية/ الراوية.

 ولعل جملة اليأس يتغشاني غمامة من رماد.. تمثل امتداد فعل العنوان في النص، إذ ستمطر هذه الغمامة موتا يفيض، ويغمر خريطة النص الروائي.

ونحن ندخل متن الرواية ينتقل الرماد رمز الموت إلى جزء حيوي من المدينة (عين الرماد).

 والعين هنا رمز الحياة الذي يتحول عبر الرواية إلى رمز للموت (فمنذ أن هزت جريمة القتل الشنعاء فرائص عين الرماد...).

 وينتشر الموت، وينتقل إلى حيز أكبر، فنقرأ في الرواية (ومدينة عين الرماد كالمومس العجوز  تنفرج على ضفتي نهر أجدب أجرب...).

ولعل النهر الأجدب الأجرب ينتمي إلى حقل الرماد، ويشترك معه في ففعل الموت.

 وبعد أن زحف الموت على عنصر الحياة وهو العين/ الماء، وعم المدينة رمز الحياة، والحضارة، تكون قد تشكلت صورته النهائية  الرمزية من خلال تدرج  فعله في عناصر الحياة :

  الرماد الذي غسل الماء.

 ولعل الماء المقصود هنا، هو ماء الحياة الذي يتجاوز البعد البيولوجي للكائن الحي، فيشمل البشر، وما له علاقة بهم من عمران وغيره.

 ودليلنا هو أن ترتيب الرماد في بنية الجملة في الرواية من متصدر متبوع في العنوان (الرماد الذي غسل الماء) إلى تابع في متن الرواية:

-  عين الرماد

-  مدينة عين الرماد

- لم يغير في دلالته المركزية حتى وإن تغير ترتيبه في بنية الجملة فأصبح تابعا (مضاف إليه) لا متبوعا، ولكن هذا التابع في البنية النحوية يظل متبوعا على مستوى الدلالة، ولا يعرف ما قبله إلا به.

فالرماد في جملة عين الرماد يظل متصدرا للدلالة فهو المعرف لما قبله (عين) وهو الذي يخرجه من التنكير، إلى المعرفة، فلفظة عين تظل مبهمة ما لم يتدخل الرماد ليزيل الإبهام: عين الرماد. وفي الجملة الثانية يتراجع ترتيب الرماد مرتبتين:

-  مدينة عين الرماد.

ومع ذلك تبقى الجملة مبهمة نكرة (مدينة عين) ما لم يتدخل الرماد (مدينة عين الرماد).

- إن تحول الرماد/الموت من متصدر لبنية العنوان معرفا نحويا بنفسه (الرماد)، إلى معرفا لغيره عبر المتن الروائي أي مضافا إلى عين الرماد، أو مدينة عين الرماد يجعله يشكل النواة المركزية التي تتفرع عنها كل الدلالات الأخرى في الرواية.

  ولعلنا نستأنس هنا بمقولة كانط (يسهل عليك أن تكشف شيئا ما بعد أن يكون قد أشير عليك في أي اتجاه ينبغي أن تنظر لكي تراه.).

 ولعل رواية الرماد الذي غسل الماء تشير علينا أن ننظر إليها وفق بنية التوازي التي تشتغل عليها ثنائية الحياة/ الموت والتقديم، والتأخير في بنية الجملة لا يأتي عبثا وإنما غالبا ما يأتي لعلة بلاغية ودلالية.

إن الرواية ستظل تشتغل على ثنائية الحياة/ الموت، ويظل الموت يزحف على كل أثر من آثار الحياة في الرواية.

الحاشية/المرآة:

تأتي الحاشية في التراث العربي لتوضيح معنى، أو تزيل غموضا، أو تضيف رأيا، أو تعليقا على رأي، وهي على العموم من خارجيات النص.

لكن الروائي يجعل الحواشي هنا جزءا من المتن، متعلق وجودها بوجود النص الأصلي نفسه، ويعطيها وظيفة هامة،هي وظيفة التعريف.

 فالروائي يوقف سير السرد، ويكسر خطيته ليضع أمام القارئ حاشية/ مرآة تعكس إما صورة الشخصية، وإما صورة المكان وإما صورة الزمان.

صورة الشخصية.

حاشية2:

(لا أحد يدري بالضبط من أين جاءت لعلوعة..فقد ملكت على الجميع نفوسهم، وقلوبهم، وشغلتهم  بجمالها، فصارت حديث مجالسه، وسمرهم،ولكنها هي تذكر جيدا أنها درجت صغيرة في ضاحية، منعزلة في ضواحي مدينة عين الرماد، وتذكر جيدا ذلك الصباح الذي كانت برفقة أمها في السوق  تجمعان فضلات الخضر، والفواكه لتعودا بها مساء إلى بيتهما القز ديري المعزول... ولم تمض إلا أشهر حتى صارت لعلوعة حديث الناس، والقصور، والجرائد، والقنوات... وتحدث عنها مسؤول كبير قائلا: لقد رفعت راية الوطن في دول العالم وقيل ممثل الثقافة حينها.)

  إن الحاشية هنا  تغدو  بمثابة وثيقة تعريف إضافية للشخصية، فهي الكاشفة لما هو مخفي من صورتها .

الماقبل /المابعد:

نسجل في هذه الحاشية خبرين متوازيين متعلقين بالشخصية، يمكن أن نطلق عليهما خبر الماقبل، وخبر المابعد.

خبر الماقبل تمثله جملة (لا أحد يدري بالضبط من أين جاءت لعلوعة).

هذا الخبر يؤدي وظيفة هامة يمكن أن نطلق عليها وظيفة التنكير،و التحفيز، تنكير جزء من حياة الشخصية، وتحفيز القارئ على البحث عما هو مجهول من حياتها.

وخبر المابعد تمثله جملة (فقد ملكت على الجميع نفوسهم وقلوبهم، وشغلتهم بجمالها، فصارت حديث مجالسهم، وسمرهم).

هذا الخبر يؤدي وظيفة التعريف بالشخصية التي صارت حديث الناس.

 وهكذا يظل خبر (لا احد يدري,...) يعمل في توازي مع خبر (شغلتهم بجمالها.. لم تمض إلا أشهر حتى صارت لعلوعة حديث الناس، والقصور، والجرائد، والقنوات...)

 وإذا كان ما بعد المجيء معروفا لدى الجميع (فقد ملكت على الجميع نفوسهم وقلوبهم، وشغلتهم بجمالها، فصارت حديث مجالسه، وسمرهم).فإن ما قبل المجيء يظل سرا تحتفظ به الشخصية حتى تتدخل الحاشية/المرآة فتكشف ما لا تود الشخصية البوح به عبر السرد الروائي، وتعكس السر، وتفضحه (هي تذكر جيدا أنها درجت صغيرة في ضاحية، منعزلة في ضواحي مدينة عين الرماد، وتذكر جيدا ذلك الصباح الذي كانت برفقة أمها في السوق  تجمعان فضلات الخضر، والفواكه لتعودا بها مساء إلى بيتهما القز ديري المعزول.)

إن لعلوعة التي صارت نجمة تتحدث عنها وسائل الإعلام، ويحج إليها الولاة والوزراء والجنرالات والأثرياء كما يقول النص الروائي نراها هنا تبوح بماضيها الذي لا يعرفه غيرها، فكأنها تقف أمام مرآة تحدث نفسها أو هي  في حالة لا وعي، غير قادرة على التحكم في ما ينبعث من العقل الباطن. ولعل المرآة هنا تصبح كاشفة للداخل وليس للخارج فهي بمثابة التنويم المغنطيسي الذي يحرر اللاوعي.

صورة المكان والزمان.

حاشية :3

 (ومدينة عين الرماد كالمومس العجوز، تنفرج على ضفتي نهر أجدب أجرب تملأه الفضلات التي يرمي بها الناس والتي تتقاذفها الرياح..تتدحرج فيها البنايات على غير نظام ولا تناسق يسد عليها الريح  من الجنوب أشجار غابة صغيرة..تعاود الانحدار مرة ثانية على جبل صغير تشقه طريق معبد، تنزوي قريبا منها عين الرماد الأصلية...و تمتد المدينة من الجهة الأخرى مرتفعة قليلا ثم مستوية ثم هابطة إلى أسباخ نخرة..و تمتلئ مدينة عين الرماد بالحفر، وببرك المياه  القذرة... إلى جانب من جنوبها تمتد مساحة كبيرة مستوية  تلتصق بالمدينة ثم تغوص في الغابة...وحدها هذه الجهة تقوم بها بنايات أنيقة منظمة أقامها الفرنسيون يوم أسسوا المدينة التي سموها La belle ville المدينة الجميلة.)

إن الروائي يضع في هذه الحاشية/ المرآة صورتين متوازيتين، أو مرآتين متوازيتين، تعكس الأولى وجه حاضر المدينة، والأخرى ماضي المدينة.

المرآة الأولى

تمثل هذا المرآة  الحاضر الذي يمتد إلى المستقبل:

- تنفرج على ضفتي نهر أجدب أجرب.

- تملأه الفضلات.

-  تتدحرج  فيها البنايات على غير نظام ولا تناسق.

-  تنزوي  قريبا منها عين الرماد الأصلية.

-  تمتلئ مدينة عين الرماد بالحفر وببرك المياه القذرة.

هكذا يقدم الراوي أوصافا متعددة لوجه حاضر المدينة، ويترك الراوي هذه الوصاف تشع بمعاني  يمكن من خلالها أن يشكل المتلقي  الصورة  النهائية لوجه للمدينة.و كأننا بالكاتب عجز عن إيجاد وصف يرتضيه لمدينة عين الرماد، أو أحجم عن فعل ذلك، فراح يفصل في أوصافها، ويشرك القارئ في التسمية النهائية للمدينة، والتي لن تكون سوى المدينة القبيحة. ولعل وصف المدينة بالمومس العجوز إيحاء بما وصلت إليه من القبح بحيث لم تعد تستطيع أن  تجذب حتى الشواذ.

المرآة الثانية

 العيش خارج الزمن الخاص.

 إذا كان الروي في المرآة الأولى قد قدم تفصيلات لأوصاف مدينة عين الرماد، اضمر فيها رسالة موجهة إلى القارئ  يمكن أن تقرأ على أن المدينة تتجه نحو الموت، فإن الحنين إلى الزمن الماضي يظل قابعا في أعماق الراوي حتى وإن كان هذا الزمن هو الزمن الكولونيالي (... إلى جانب من جنوبها تمتد مساحة كبيرة مستوية  تلتصق بالمدينة ثم تغوص في الغابة...وحدها هذه الجهة تقوم بها بنايات أنيقة منظمة أقامها الفرنسيون يوم أسسوا المدينة التي سموها la belle ville المدينة الجميلة.).

وهكذا يتم التوازي بين المكان المتضمن للزمن الحاضر (المدينة القبيحة) والمكان المتضمن للزمن الماضي والتي تعبر عنه  جملة المدينة الجميلة (la belle ville).

إن الراوي بهذا الشعور يظل رهين الزمن الماضي، فهو في الواقع يعيش في الحاضر بإحساس الماضي.

هذا الإحساس يتولد عنه الشعور بالاكتئاب، ويجعل الراوي مشدودا إلى زمن هو في الواقع خارج  زمنه المعيش، ولعل هذا ما جعل البعض يعرف الاكتئاب على أنه  العيش بإحساس الماضي في الزمن الحاضر.

المكان الرمز:

عبر السرد الروائي يتم تشكيل المكان الذي تجري فيه الأحداث، وذلك بالانتقال من الجزء إلى الكل: 

-  الرماد 

-  ثم عين الرماد

-  ثم مدينة عين الرماد.

فالرماد كما سبق وأن ذكرنا يزحف على عنصر الحياة/الماء، ويغمر العين، ويمتد فعل الرماد إلى المدينة رمز الحضارة، ويسري في شرايينها.

 وإذ يحقق الرماد فعل الانتشار يتم عندها فعل التسمية، تسمية المكان (مدينة عين الرماد).

هكذا ندخل الرواية، وقد اعتقادنا أننا قبضنا على صورة المكان الرئيسي الذي تدور فيه الأحداث (مدينة عين الرماد)، ورسمنا أبعاده، وصفاته.

 إن وهم القبض على المكان الجغرافي  يظل يرافقنا إلى نهاية الرواية حيث تصدمنا الحاشية الأخيرة رقم 90 فتبدد ما تصورناه عن المكان: (عمد علماء الثار إلى البحث عن مدينة عين الرماد فلم يجدوا لها أثرا فاجزموا أنها لا تعدو أن تكون قصة نسجت خيوطها. مخيلة أحد الأدباء..).

من هنا يبدأ سؤال البحث عن المكان يتجدد، فعلماء الآثار لم يجدوا مكانا ماديا ملموسا، فاجزموا أنه لا وجود لما يسمى بمدينة عين الرماد لأنهم حكموا على وجود المكان من خلال قرائن مادية، ومعايير خاصة بهم.

وتظهر الراوية التي اختفت عبر مسار السرد الروائي لتنهي الرواية كما بدأتها، وتجيب على سؤال المكان، ونكتشف أنها هي القائمة بالحكي، العالمة بأسرار الحكاية على غرار شهرزاد  سيدي (هاذي عين الرماد... وهي ليست شبرا من الجغرافيا ولا حفنة من دواب البشر كما تتوهم بل هي امتداد من الأرض رهيب وهدير من الغثاء تجمد على سطح الأرض...حتى صرت أينما تولوا فثم عين الرماد..).

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل