المحتوى الرئيسى

الخالة أم راغب !

08/29 12:52

 | أخر تحديث: 26/05/2010 08:16 م | 

كان أنينها يستوقفني يوميا وأنا مار عبر شارعنا متجها نحو منزلنا الملاصق لبيتها تماما.. أنين لا يخطئ موعده .. من الثالثة بعد منتصف الليل..

صورة موضوعية

 


صوت بكاء يبدأ مكتوما ويصير آهات طويلة متواصلة لا تنتهي إلا مع أذان الفجر .. لا شئ يبعث على الخوف والانقباض أكثر من المساحات الخاوية التي كانت " خالة أم راغب" تتركها لمخيلتنا نملأها بتكهنات وننسج عنها حكايات لا تنضب .. الذاهبون لصلاة الفجر في شارعنا كانوا يستعيذون من الشيطان إذا ما مروا أمام بيتها الآيل للسقوط منذ أعوام عدة.. عجوز تجاوزت الثمانين تعيش وحيدة في بيت هجره قاطنوه منذ أعوام ماثلين لقرار تنكيسه .. وظلت صاحبة البيت "الخالة أم راغب" – والتي لا يعلم أحد أين ذهب "راغبها" – لتقف وحدها أمام تحركات الحي لإزالة البيت .. واستسلم الجميع أمام تمسكها المستميت بالبقاء انتظارا لـ"لحظة سعيدة" ينهار فيها العقار على رأسها من تلقاء نفسه .. .. كانت الخالة أم راغب ككتلة هلامية من المجهول يكتنفها الظلام .. ونظرا لأن الأطفال يخشون الظلام والكبار يخافون المجهول , فقد كان الجميع يخشى الخالة أم راغب ويتجنبها ويتحاشى – حتى- الخوض فى سيرتها بسوء اتقاء لانتقام " العفاريت"... إلا أنا.

لم ألمس في شخصيتي كثيرا من الشجاعة أو جسارة القلب .. تكفيني "زجرة" من نباح الكلاب الشاردة ليلا لأطير كعداء في حلبة الاوليمبياد .. لم أفهم لماذا لم يصبني من الخوف ما أصاب أهل شارعنا من خالة أم راغب .. كانت تناديني من فوق سطح بيتها بصوت متحشرج من أثر الصراخ ليلا .. حيث استقر بها العيش في حجرة منزوية بعد أن تنقلت بين شقق البيت وغرفه المهجورة لأعوام كذبابة وحيدة تائهة.. وكنت حين أسمع صوتها أهب لتلبية رغباتها .. وكان أهل شارعنا يعاملونني بسبب ذلك إما كـ" مندوه " أو " مجذوب" أو " مخاوى" أو "قلبه ميت" .. وكانت كل هذه الانطباعات كافية لأن يتحاشاني – بدوري – أهل الشارع .. ولعل هذا ما زاد من تمسكي بـ"خالة أم راغب" !!!

ذات يوم أردت استعراض شجاعتي المزعومة أمام أحد أصدقائي من خارج المنطقة بمقلب لا ينساه.. فاصطحبته معي واعدا إياه بمقابلة مع "مزة تحل من على حبل المشنقة" .. وأخذته من يده الى حجرة الخالة أم راغب وأوقفته أمامها..

- آدى يا سيدي خالة أم راغب اللي الناس هنا بتترعب منها.

- بصراحة عندهم حق .. فين يا عم المزة؟ عاوزين نقابلها بسرعة .. البيت ده شكله واقع من سنتين.

صرخت أم راغب تناديني فانتفض صديقي وهب محاولا الهروب ولكني استوقفته...

- استنى بس.. هى بتزعق عشان سمعها تقيل .. ومابتشفش.

- سمعها تقيل ومابتشفش ؟.. أنت جايبنى عند واحدة ميتة يا عوض؟ فين البت يا عم ؟..

هلعته صرخة أخرى من خالة أم راغب تناديني :

- يااا عوض .. أنت معاك حد؟ .. تعالى يابنى شوف الموباين؟

سألني صديقي بصوت خافت:

- قصدها ع "الموبايل" ؟!.. إيه الخالة المودرن دى ؟.. شوف لها يا عمنا "الموباين" يمكن صاحبها أداها رنة! .. فين يابنى المزة ف أم فيلم الرعب ده؟.. خلينا نمشى الله يحرقك.

- ما تتريقش .. ده محمول أنا لقيته معاها من كام سنة.. وقالتلى أن ابنها "راغب" جالها ف يوم واداها التليفون ده عشان تطمن عليه.. وماعليهوش غير رقم واحد بس هو رقمه .. ومن ساعتها اختفى .. كل يوم أحاول اتصل عليه .. مايردش .. وهى كل يوم تسألني ابنها اتصل ولا لسة .. ومافيش فايدة...تخيل؟.. أنا لما ...

- "يااااااا عااوااااض"

صرخت الخالة أم راغب تنادينى فلم يحتمل صديقي أن ينتفض فزعا للمرة الثالثة على التوالي .. أخذ ذيله بين أسنانه وغادر سطح البيت متوعدا إياى بمقلب القصاص..

عندما حانت اللحظة المنتظرة في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل.. وانهار البيت فوق رأس الخالة أم راغب .. كان الجميع يقف أمام أطلال البيت متهيبا الاقتراب .. إلا أنا .. اعتليت الركام وطفقت أبحث بين الحصى والتراب وكتل الطوب الأحمر... لم يدلني على مكان جثة الخالة أم راغب سوى صوت هاتف محمول يرن مكتوما بين الأنقاض .. كان الهاتف بين أصابع تقبض عليه رغم موتها .. يعلو صوته برنين متواصل .. جاء متأخرا عن موعده بعدة أعوام!!

                              _________________

                                قصة صديقنا: أحمد هواري

                             __________________

    الشباب : دعوة لكل زائرى الموقع .. أكتب كل اللى بتفكر فيه والنشر علينا !

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل