المحتوى الرئيسى

محمد إبراهيم أبو سنة بين شاعر الحرية وحرية الشاعر

08/21 15:42

بقلم: ياسر أنور

الوقوف أمام حدث تاريخي ما، لمحاولة فهمه وتشريحه وتحليله، مهمة أسهل بكثير من الوقوف أمام شاعر، وتزداد المهمة صعوبة إذا كنت أمام شاعر كبير بقامة محمد إبراهيم أبو سنة، وإذا كان الفيلسوف الألماني مارتين هيدجر قد جعل اللغة بيتًَا للوجود، فإن قلب الشاعر بيت للوجود وللغة معًا، أشبه بصندوق سحري من الواقع والخيال، الحقيقة والأسطورة المباشرة والرمز.

 

ربما كان ذلك لأن الشاعر هو الوحيد الذي يمارس الحياة عن طريق اكتشاف الذات بل وتخليقها. قالت الشاعرة السويدية "إديت سودرجران": "أنا لا أخلق الشعر، لكنني أخلق نفسي، فالقصائد بالنسبة إلى طريق إلى ذاتي. وإذا كان التاريخ هو حركة الناس في الزمن، فالشاعر هو حركة التاريخ والجغرافيا وسائر العلوم والفنون والمشاعر داخل النفس"؛ لذلك أجد صعوبة في تحديد المدخل الذي يمكن من خلاله الولوج إلى عالم أبو سنة، خاصة أن عالمه ممتد على المستويين الأفقي والرأسي، وهو في هذا الامتداد يجتاز كثيرًا من المناطق النفسية والفنية التي تصلح جميعًا بدرجات متفاوتة، لتكون مدخلاً لهذا العالم، لكنها في الوقت ذاته تجعل الاختيار صعبًا.

تكاثرت الظباء على خراش           فما يردي خراش ما يصيد

هزيمة المشروع القومي

لكنني آثرت مدخلاً ما، أراه يصلح بدرجة كبيرة للتعامل مع تجربة أبو سنة الإنسانية والشعرية، هذا المدخل يفصح عنه أبو سنة في أحد الحوارات التي أجرتها معه مجلة "الطليعة" عام 1969، وكانت هزيمة 67 أو هزيمة المشروع القومي زلزالاً أعاد النظر في كثير من الأيديولوجيات والأطروحات: "إننا جيل محاصر.. ولم يحتج جيلنا لقيمة مثل حاجته إلى الحرية هذه الحرية التي ناضل الجيل السابق من أجلها ويبدو أنه خسر المعركة".

 

الحرية هي ما يمكن أن يفك شفرات خصوصية وتميز تجربة أبو سنة لكنها ليست الحرية السياسية فقط، وهو مفهوم ضيق لمعنى غاية في الاتساع، لكنها حرية أن ترى ذاتك، بلا أي قيد لا سياسيًّا فقط- بل نفسي وثقافي أيضًا! الحرية التي عبرت عنها الناشطة اللاهوتية إليزابيث- جم- كالهام بقولها: "لا أجد حرية تماثل حرية رؤية ذاتي كما أنا".

 

لقد كان المشهد الثقافي والسياسي الذي نشأ فيه أبو سنة أشبه بتيار جارف إما أن تسايره أو أن يقتلعك! كان المشهد فوضويًّا إلى حد كبير، وكان من الممكن أن يؤدي الضجيج الثقافي والسياسي والأدبي إلى نوع من العمى الفكري كجراد يسد الأفق ويحجب الرؤية، كانت الواقعية الاشتراكية هي الموجة السائدة والبضاعة الرائجة، وأسهل الطرق إلى الشهرة، وقد تنازل الكثير من الأدباء عن قناعاتهم الفنية من أجل احتلال صدارة المشهد الأدبي، لكن أبو سنة، لأنه يعرف قيمة الحرية ويؤمن بها ويمارسها وقف ضد هذا التيار "لا بمعني المعاداة لكن التميز الأدبي" لم ينهزم أمام الظرف التاريخي، ولم يكن إلا نفسه.

 

اتهم أبو سنة بأنه رومانتيكي! وهي ليست تهمة! ومع ذلك لم يأبه لمتهميه، واختط طريقه بقدميه، لا بأقدام غيره، كما أن الذين مدحوا رومانتيكيته، مدحوها على استحياء وبما يشبه الذم لا خوفًا من سطوة سياسية، ولكن من سلطة ثقافية وأدبية!

 

الشاعر الرومانسي المرهف الحس إلى حد المرض "شكري عياد" قد تجاوز الشراك التي تنصبها الرومانسية المراهقة والرومانسية التقليدية "لويس عوض" لكن "علي عشري زايد" كان أكثر اتساقًا وأقل مراوغةً حين قال: فارس رومانسي لا يزال قادرًا على الحلم. هل هو رومانتيكي؟ لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إلى أي مدرسة أدبية ينتمي أبو سنة، وهل هو رومانتيكي حقًّا؟ أن الرومانتيكية التي نعرفها تختلف عن الرومانتيكية التي يصنف بها أبو سنة، كما أن واقعيته تختلف عن واقعية القوم، هو، وبتعبير المعتزلة يقف بين منزلتين. فالاغتراب "وهو أبرز ملامح الرومانتيكية" ليس لديه اغتراب الرومانتيكيين السلبي، الهارب من الواقع والمنكفئ علي ذاته لكنه اغتراب إيجابي مقاوم، متطلع إلى التغيير: أهجر القبر وأمضي، باحثًا عنك بعيدًا في ممرات الزلازل، إنني أبحث عن صوتك في الريح.

 

إنه ببساطة لم يقلد أحدًا، وكان ذاته لا ذات غيره، وهذه خصيصة أبو سنة التي ينفرد بها، إنها الحرية إذن! حتى ولو كان الثمن هو الموت: البحر موعدنا/ وشاطئنا العواصف/ جازف/ فقد بعد القريب/ ومات من ترجوه واشتد المخالف/ لن يرحم الموج الجبان/ ولن ينال الأمن خائف/ القلب تسنه المواويل الحزينة والمدائن للصيارف/ خلت الأماكن للقطيعة/ من تعادي أو تحالف؟/ جازف ولا تأمن لهذا الليل أن يمضي/ ولا أن يصلح الأشياء تالف/ هذا طريق البحر لا يفضي لغير البحر/ والمجهول قد يخفي لعارف/ جازف/ فإن سدت جميع طرائق الدنيا أمامك فاقتحمها لا تقف/ كي لا تموت وأنت واقف.

 

التعامل مع الشعر في هذا العصر لم يعد تعاملاً إنسانيًّا كما كان في الماضي ولم تعد القصيدة تثير العواطف كالمرأة، لقد أفسد النقد الأذواق كما أفسدت السياسة الأخلاق، فتحول النقد من وسيلة للتفاعل والاندماج في القصيدة إلى سكين لذبح جمالها وأنوثتها، وصار النقد أيديولوجيًّا، يصدر الحكم على القصيدة قبل أن تقرأ، لا بعد قراءتها، وهذه جناية النقد الكبرى، بعد أن أتخمتنا مصطلحات النقاد، كـ"موت المؤلف "رولان بارت"، وخرافة القصيدة "كلينث بروكس" وغياب المركز الثابت"، وغيرها من المصطلحات النقدية التي اقتحمت الساحة الأدبية، وأقامت جدارًا عازلاً عنصريًّا بين القارئ والنص، أتخمتنا هذه المصطلحات، لأنها أبعدت القارئ عن عفوية الشعر، وبساطته أن الشعر انفعال قبل أن يكون فكرًا، والشعر معنى قبل أن يكون تروسًا أو آلات وإذا كان مبدأ الحتميات قد انهار حتى في العلم التجريبي، خاصة بعد أن أطلق هايزنبرج معادلته التي أدت إلى ما يعرف بمبدأ اللايقين في العلوم التجريبية.

 

في دراسة لتوماس كون بعنوان "بنية الثورات العلمية" أعلن انهيار تصور علمي حقيقي حتى في العلوم التجريبية، وأن أي علم مهما كان لا يخلو من البنية الذهنية الشخصية والتصور الذاتي، فكيف يمكن وضع مثل هذه الأطر والقواعد للتعامل مع الأدب الذي يعتبر الجموح والانفلات من القواعد أحد ملامحه والتغيير سمته الغالبة؟ كيف يمكن وضع ما هو متغير في إطار ما هو ثابت؟

 

لذلك أرى أن الطريقة المثلى للولوج إلى الشعر هي الوعي الجمعي، والجماعة المفسرة COMMUNITY. أقصد بذلك ما استقر في الذائقة الجمعية والوعي العام من قيم جمالية طبيعية، لا من قيم مستوردة ومساحيق نقدية تلطخ العمل الأدبي لا تضيئه، مع يقيني أن الوعي الجمعي، والذائقة العامة هي أيضًا محل خلاف، لكنها ربما تكون المرجعية الأكثر إنصافًا وبعدًا عن الانحياز الشخصي، والحيل النقدية، لقد سمعتها من أحد النقاد الجدد- إن جاز التعبير- وهو يعبر عن صدمته من الخديعة التي تعرض لها على أيدي عواجيز النقد قائلاً: لقد خدعنا! معالم القصيدة الحديثة القصيدة عند أبو سنة تتضح فيها معالم الحديثة "لا الحداثية" عند ذكر الحداثة تحسسوا مسدساتكم. يقول ابن قتيبة: ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا في كل دهر، وجعل كل قديم حديثًا في عصره. القصيدة عند أبو سنة حديثة، لا من حيث الشكل فقط، ولكن من حيث البنية والإيقاع وطرائق التعبير، فهو واحد من كبار شعراء التفعيلة وإذا كان على المستوى الزمني يصنف من الجيل الثاني بعد كمال نشأت وعبد المنعم عواد يوسف وحسن فتح الباب وعبد الصبور وحجازي، غير أنه على المستوى الفني يقف على ذات المستوى الذي يقف فيه جيل الرواد.

 

وأبو سنة لا يكتب لكنه يرسم بالكلمات فقصائده لوحات فنية تتميز بالتلاحم وإحكام النسيج، وتوزيع الألوان والظلال والشخوص والأشياء بطريقة متناسبة فنبوءة الطفولة زرقاء، والنجوم ليست زرقاء فقط، لكنها أيضًا خضراء، والأسئلة كذلك، والشباب أحمر، والأفق قرمزي، والموت أصفر، والتقنيات التي يستخدمها متنوعة، "الخيال- الرمز- الأسطورة- السرد".

 

واللغة عند أبو سنة بمستوياتها المختلفة "الصوتي أو القونيمي- الاشتقاقي أو المورفولوجي- الدلالي أو السيمانتيك- النحوي" لغة نابضة، نشطة مفعمة بالحياة.

 

اللغة عندئذ ليست جامدة، ولا معجمية بل هي كائن حي متجدد، طاقة مشحونة بالدلالات. "خبرت سكة للجراح/جربت أن أروح لا أعود/ أشم في الرعود/ روائح الأمان". في هذا المقطع المقتضب يمكن إدراك بعض ملامح التشكيل اللغوي عند أبو سنة ذلك التشكيل الذي يشي بوعي أبو سنة بالوظيفة الجمالية للغة، فعلي المستوي التركيبي استخدم هنا تقنية المفارقة اللفظية أو ثنائية الذهاب والعودة "أروح لا أعود" وعلى المستوى الصوتي، تتجلى قيمة الجناس في "أعود- الرعود" وعلى المستوى البصري والصوتي أيضًا وباستعارة بعض ما في السيموطيقا من إشارية يمكن أن نلمح هذا التشابه البصري والصوتي معًا بين "خبرت" و"جربت".

 

السرد

ومن التقنيات البارزة التي يتكئ عليها كثيرًا في تجربته الشعرية، تقنية السرد، وهي إحدى التقنيات المستعارة من الرواية وصارت سمة من سمات القصيدة الحديثة، فالسرد على مر التاريخ سواء كان شفهيًّا أو مكتوبًا، إحدى مناطق الضعف النفسي التي تستسلم النفس البشرية به، وله، وهو سرد درامي إلى حد كبير فيه صراع ومراوغة وتصاعد مما يجعل عنصر التشويق مستمرًا حتى آخر كلمة في القصيدة: "تناول معطفه.. في الهزيع الأخير من الليل.. مال على طفله.. قبله.. وأخرج من جيبه صورة لتلك التي كان يهفو لها.. في الصبا لتلك التي حبها زلزله.. في دفتر.. راح يقرأ في سره البسملة.. تأمل كل الذي كان.. وحتى الذي لم يكنه.. وكل الذي حاوله تطلع للأفق كان.. يغص بهذا الصراخ.. الذي أطلقته على قلبه.. الأسئلة".

 

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل