المحتوى الرئيسى

ذكريات وأحزان من مفكرة سوريا الشهيدة

08/16 12:20

غسان الإمام

وفاء لذكراه وتقديرا له، دفنت سوريا طبيبها وقائد ثورتها الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، في جوار ضريح البطل صلاح الدين الأيوبي. عَزّ على الرئيس حافظ الأسد أن يكون لسوريا زعيم كبير حتى في الممات، فأمر بنقل رفات الشهيد الشهبندر بعيدا عن ضريح صلاح الدين.

كنت في الخمسينات أذهب إلى من بقي حيا من رجال ثورة الشهبندر. أسمع كيف دَوّخَ بضع مئات من الثوار أكبر جيش أوروبي آنذاك، في ثورة الغوطة (غابة الأشجار المثمرة الكثيفة التي كانت تتحلق دمشق في دائرة من الخضرة قطرها 12 كيلومترا).

كما هي سُنَّة العمر والحياة، راح هؤلاء الثوار الطيبون. المجهولون يغيبون الواحد تلو الآخر، من دون أن يطلبوا أجرا أو تكريما. على بساطتهم، وبعضهم لا يقرأ ولا يكتب، كانوا يقولون لي يكفينا أن يعيش أبناؤنا وأحفادنا أحرارا.

ما معنى أن ينزل إنسان مدني إلى الشارع، وهو يعرف أنه قد لا يعود حيا؟ ها هم الأبناء والأحفاد يواجهون، بلا خوف، بصدورهم العارية رصاص «ابن أبيه»، وقذائف جيشه ونظامه، لأنهم لم يعرفوا طعم الحرية. الكرامة. العدالة، على مدى خمسين سنة من حكم الطائفة والعائلة.

بعد متاهة عسكرية استغرقت عامين في غابة الغوطة، تمكنت دولة الانتداب من تقويض ثورة الشهبندر (1925 - 1927). حكمت عليه بالإعدام، فلجأ إلى مصر. في عام 1983، كنت في لارناكا القبرصية، أحضر ندوة فكرية لمثقفي العرب عن الديمقراطية (رفضت العواصم العربية استضافتها). التقيت هناك فتحي رضوان الذي كان أول وزير للإرشاد (الإعلام) في الدولة الناصرية.

في شباب شيخوخته، حدثني «الفتوّة» فتحي رضوان عن ذلك المثقف السوري الذي استقطب وبهر الشباب والمثقفين المصريين، في أندية الثلاثينات الثقافية، وهو يحدثهم بالتفصيل عن المذاهب الفكرية والسياسية في القرن العشرين.

لم يكن فتحي رضوان قوميا عربيا. كان مناضلا وطنيا. ومثقفا مصريا صميما. كان يعزّ عليه أن يبشر سوري بالعروبة في مصر «الفرعونية». أحرجته شيخوخته. فنسي اسمه. سألني. قلت: الدكتور عبد الرحمن الشهبندر. نفض فتحي رضوان الكرسي من تحته. هب واقفا. صائحا بصوته الفرعوني العريض: «آه. أيوه. الطبيب ده كان أخطب من سعد زغلول. كان يتميز عن خطيبنا، بأن لديه فكرا يقوله».

لو عاش الدكتور الشهبندر لما شهدت سوريا الانقلابات العسكرية التي عصفت بديمقراطيتها الوليدة، في الأربعينات والخمسينات. كان قادرا بجاذبيته السياسية والشعبية، على استقطاب الشباب والناس العاديين. بعد العفو عنه، عاد الشهبندر إلى سوريا الثلاثينات. بدأ النضال السلمي فورا ضد معاهدة الاستقلال المنقوص التي عقدها زعماء الكتلة الوطنية (هاشم الأتاسي. جميل مردم. سعد الله الجابري. شكري القوتلي) مع دولة الانتداب (1936).

التف السوريون حول الشهبندر. حلموا معه بالوحدة العربية، قبل أن يحلم بها عفلق والبيطار. رفضوا المعاهدة. ضاقت حكومة فيشي الفرنسية الفاشية بالرجل. فدفعت المتزمتين في المؤسسة الدينية إلى تكفيره. وتصفيته. اغتيل الشهبندر في عيادته الطبية. لطخ دمه الأحمر القاني ثوبه الأبيض، على مشهد من الفقراء الذين كان يعالجهم مجانا.

كان الشهبندر وفارس الخوري المثقفين الوحيدين بين قادة النضال الوطني. قرن الشهبندر العروبة بالديمقراطية. فكان أول ضحية للاغتيال الديني السياسي (1940). ذلك قبل أن يغتال الإخوان المسلمون أحمد ماهر رئيس وزراء مصر (1945). ثم رئيس الوزراء الآخر محمود فهمي النقراشي (1948). وقبل أن يحاولوا اغتيال (الكافر) عبد الناصر في الخمسينات.

لم تَقْوَ أسرة الشهبندر على تحمل عداء «الكتلة الوطنية»، وتجاهل نظام شكري القوتلي لذكراه. جمعت الأرملة الأم أطفالها. وقفلت بهم راجعة إلى مصر. فالقاهرة يتسع قلبها لكل العرب. وإذا لم تخنّي الذاكرة، فقد لقيت خلال إحدى زياراتي للقاهرة نجلا للشهبندر كان طبيبا مثله. وتطالعني في الصحف المصرية، بين الحين والآخر، أسماء صحافيات. ومحاميات (شهبندريات)، أعتقد أنهن من سلالة الأسرة المتمصِّرة.

زرت، كصحافي في الخمسينات، روابي الجولان البركانية مرارا. رأيت حصونا محفورة في الصخر، فوق الأرض وباطنها. أطللت منها على سهل الجليل منبسطا كالكف تحتها. لم يملك جيش في العالم ميزة جغرافية على عدوه، كما امتلكها الجيش السوري. إلى الآن، ما زلت مذهولا. كيف سقطت تلك المرتفعات. والجبال. والحصون، كأوراق الشجر، عندما كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع؟!

في حرب النكسة (1967)، رأيت شبيحة نظام صلاح جديد ينقلون ليلا صناديق من المصرف المركزي بدمشق. راودني الشك. سألت صديقا مديرا في المصرف. قال لي بحزن ساخر: «إنهم ينقلون رصيد المصرف الذهبي شمالا، يخشون أن يتقدم الجيش الإسرائيلي نحو دمشق. ثورة البعث بحاجة إلى تمويل. هي عندهم أغلى من الوطن».

نتحدث عن الأب والابن. ننسى صلاح جديد. هذا الضابط الغامض المغامر كانت له مآثر. كان اللواء جديد أول من أرسى هذا النظام الطائفي (1966)، بعدما غدر بشركائه المستقلين والقوميين في انقلاب (1963). سرح هو وحافظ الضباط العسكريين المحترفين. ملأ هو ودكاترة البعث الثلاثة (نور الدين الأتاسي. يوسف زُعَيِّنْ. إبراهيم ماخوس) الحزب بشباب وطلبة مهووسين بالتروتسكية والماركسية. الأحياء من هؤلاء هم اليوم من المروِّجين للانتفاضة الديمقراطية!

استدار جديد نحو العرب، ليزايد على أنظمتهم وتنظيماتهم بشعار «التقدمية» الزائفة. اضطهدت أجهزته الفلسطينيين. اعتقل جورج حبش. قاطع لبنان. أرسل بمكر الخديعة الأديب القومي سامي الدروبي سفيرا لدى عبد الناصر. نجحت الخديعة. حالف عبد الناصر (عدوه القديم) صلاح جديد ضد السعودية، في ذروة الأزمة اليمنية.

ثم... ثم ورط جديد الزعيم المصري في حرب غير متكافئة، بينما جيشه يقاتل في اليمن، على بعد ثلاثة آلاف كيلومتر. كانت هزيمة النكسة مدوية. إلى اليوم، لم يقدم نظام الشبيحة مراجعة تاريخية، ونقدا ذاتيا، لحرب مضت عليها 44 سنة.

لم تكن هزيمة النكسة درسا رادعا. دفع جديد وزيره الأسد إلى شن حرب حقيقية على الأردن! كانت الذريعة أن الأردن يضطهد الفلسطينيين! وصلت القوات السورية إلى إربد، متكبدة خسائر فادحة، بينما كان الإسرائيليون يتفرجون من مرتفعات الجولان المحتلة على حروب الأشقاء.

للمفارقة، اعتذر ديفيد كاميرون للبريطانيين والعالم، عن تهديده برش الانتفاضة الإنجليزية بالمياه. ليته يرى جيش (حماة الديار) وهو يرش مواطنيه الذين يمولونه بعرق جباههم، بالرصاص. ويهدم في رمضان مساجد دير الزور وحماه، بقذائف الدبابات.

لم تهنأ دولة الانتداب يوما واحدا في سوريا، على مدى 25 سنة. كانت حماه ودير الزور (عاصمة العشائر السورية) أول من يثور على الاستعمار. وآخر من يهدأ. هذه العشائر التي عرّبت سوريا منذ ألوف السنين. لكن إهمال الأب والابن، دفع شبابها إلى الهجرة، فاحتضنهم أهل لهم في السعودية. والكويت. والإمارات.

لذلك، لم يكن غريبا أبدا أن يسحب الخليجيون سفراءهم من دمشق. هؤلاء الخليجيون هم عرب أيضا. يتذكرون القُربى. فتسيل دموعهم. وتهب نفوسهم ثأرا للحَمِيَّة القومية

*نقلا عن "الشرق الأوسط" اللندنية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل