المحتوى الرئيسى

قراءة في ديوان (الأخضر يبدأ بالأنامل) للشاعر/ إسماعيل علام

07/28 20:55

بقلم: د. خالد فهمي*

(1)

مدخل

وأجمل ساعات اللقاء في المراسي

ربما أمكن ولسنوات طويلة أن يسمى الشعر الذي تعاطى مع ثورة الخامس والعشرين من يناير أن يسمى بشعرية التنبؤ والأمل، وربما أمكن أن تسمى القصائد الصادرة عن الإبداع المتعاطف معها الداعم لحركتها وفعاليتها باسم قصيدة النار والنور.

 

لقد حاول كثير من الشعراء المصريين الذين كانوا شهودًا على لحظة ميلاد الثورة أن يصدروا فيما صدروا عنه من شعر أن يعلقوا بهجتهم بالمولود، وأن يطلعونا على ما عانوه في ترقب هذا الميلاد، وأن يقدموا يد العون بالشعر نحو نمو هذا الوليد ونهضته.

 

ومن هؤلاء الشعراء الذين انخرطوا في الفعل الثوري تعاطفًا ودعمًا الشاعر الأستاذ إسماعيل علام؛ وهذا الانخراط بادي العلامات بدءًا من إهداء الديوان الذي جاء إلى شهداء الثورة، ومرورًا بعنوان الديوان الذي يستكن في بنيته وضميره روح الأمل والبناء والتغيير، وانتهاء بعدد من القصائد المتعاطية مع الثورة تنبؤًا، وابتهاجًا، وإمدادًا لها بروح الحنو والحماية.

 

لقد كان إسماعيل علام بمجموع هذه العلامات الطافية على سطح الديوان عنوانًا وإهداءً ومعمارًا يعلن أن أجمل ساعات اللقاء تمثلت في رسو سفينة الوطن بعد عهود طويلة من الغياب، وهو الأمر الذي يصرح الشاعر فيه بهجته الصافية النقية بعودة الغائب المحبوب، الذي تمثل عودته انتعاشًا لروح محبيه، وهو ما حملني على أن أعنون هذا المدخل بهذا السطر الشعري المستعار؛ ليصبح الصوت الافتتاحي خطابًا للوطن المستعاد:

وأجمل ساعات اللقاء في المراسي!

 

 (2)

المئذنة: المفتاح المستتر

في رحلة اكتشاف في الوطن

في دستور كثير من المدارس النقدية المعاصرة تقع النظرة إلى عدد من الكلمات موقعًا مهمًّا، وفريدًا في تقييم الأعمال الأدبية والشعرية، وهذه النظرة النقدية لعدد من الكلمات تنطلق من كونها مفاتيح للأعمال، وأشبه شيء بالحامض النووي الذي يحمل خصائص العمل، ومحددات شفرته.

 

وقارئ ديوان الشاعر إسماعيل علام يقف على كلمة تبدو متألقة، وجاذبة على الرغم من انخفاض نسبة دورانها في الديوان انخفاضًا ملموسًا، يقول الشاعر في مقطوعته الأولى من قصيدته (قصائد في زمن لا يأبه):

* من أنت إذا مئذنة الشوف احتجبت

* وترقبت مداد البحر سدى

* والتهمك عجزك

* وصدود الكلمات

ويقول عن أبي حيان التوحيدي:

* نحن قرأناك

* وشربنا من بين دماء سطورك حزنك

* وتجرعنا جوعك

* وطوانا مثلك حلم موءود

* ورأيناك تسير بمئذنة الكلمات

 

في هذين النصين تقف المفردة المؤكدة (مئذنة) علمًا على شيء يتسرب خفية في نصوص القصائد لكنها مع قلة تكرارها تشي بشيء لا يمكن تجاهله في البنية الفكرية لقصائد الديوان.

 

المئذنة بما تحمله من هوامش دلالية تدور حول الإعلام (أذن) والشموخ والارتفاع والحضارة بما هي بناء معماري، واتصال الأرض بالسماء بما هي مكان لنداء الحق وتكبيره، وامتداد تاريخ الأمة بما هي مجلي لتنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالدعاء للصلاة، مفتاح شديد الظهور والعلن على هوية وطن حاول كثير من اللئام على امتداد تاريخ طويل طمسها وتشويهها ومسخها.

 

ثم تبوح القصائد بكنزها المخبوء خلف المعجم الشعري بحقوله المتنوعة التي تدعم الفكرة المركزية في تلافيف الديوان المتمثلة في الوطن/ المئذنة.

 

وتأمل معجم الوطن في تراكيب القصائد أول خيط على طريق إنتاج هذه الفكرة المهيمنة:

يقول الشاعر:

* هل تملك إلا اللغة الوطن

ويقول:

* وحتى موطن الغرباء أنكرني

* ولم أعلم بأن غريب هذا الكون سيده

* سوى من خارج الأسوار

وترتفع نبرة المعجم هذا، وتصرخ القصيدة معلنة وجعها عندما يقول الشاعر:

* من ينسى الوطن سينسى الله

* أو كان يليق بأجدادك أن ينسوا الله

* والوطن الفطرة يدعونا

* الوطن المأمول حفيد

* يأتي من رحم الآلام

 

ويتضافر مع معجم الوطن معجم موازٍ داعم له، ومرسخ لظهوره يتمثل في معجم الأمكنة التي تتكاثر عددًا، وتتنوع هيئة في الديوان كله متمثلة في (المدن/ والمدينة/ والمدائن/ البحار/ والأشجار/ والجدار/ وجدران/ والقبر/ والبيت) إلخ.

 

وبهذا الخليط الثاني تظهر حقيقة الفكرة في النص جلية في النفس الباحثة عن هويتها عبر البحث عن وطن بهوية خاصة تجد مستراحها في رمزية المئذنة، وتجد لذتها وإيابها الآمن على مرافئ الوطن.

 

ورحلة البحث عن هوية الوطن بما هي كلمة السر في عمل هذه القصائد يدعمها معجم موازٍ كامن في معجم الغربة، وهي السر الباعث على البحث عن هذه الهوية/ الوطن.

 

يقول الشاعر منوعًا في التعبير عن أنماط الغربة المادية والروحية معًا:

* حين تطوف بلاد الله بأخيلة المنسيين

* سيحوا

* لتكونوا أهلاً لكفوف

* ألفت لم الأشلاء

* حين تعودون

* ومضينا

* والأحداق بغربتنا

* أبنية أو أردية وتباريح

* والأفئدة ارتحلت

* في أنات المنتظرين

ويقول الشاعر:

* فجئت مدينة الغرباء (ليأسوا جرحى المكلوم)

* أتيت بغربة اليأس (أداوي في مدينتكم جراح الروح)

 

وفي هذه الأسطر الأربعة تتعانق الغربة مرة بجرح الجسد، ومرة بجرح الروح، وهو التعانق الذي يرقى بقيمة الرحلة نحو البحث عن الوطن، مستقر الجسم، والوطن مرفأ استقرار الروح.
وهذه الغربة الموجعة المؤلمة تواجهك بما تكسره في النفس، وبما تفجره في الروح معًا تفاجئك من أول سطور الديوان عندما يقول الشاعر:

* روحك أسئلة.

(3)

 انتماء الديوان

الأمل عندما يولد من الجراح

الميلاد في البيولوجي (الأحياء) عبارة عن تعانق عجيب للألم العاصف الذي يقطع الأحشاء ويهتك الأنسجة، ويفتك بالخلايا، ويفجر الدماء، بالبهجة والفرحة بالمولود القادم للدنيا حاملاً عنوان الأمومة، ودليلاً على الخصوبة والرجولة معًا.

 

وفي الديوان صورة من صور هذا الاختلاط العجيب من معجمين طافين على سطح القصيدة فيه، صورة ألم عاصف يسكن الجسد والروح معًا، موجع لدرجة النزف، ومغتال للنفس لدرجة التحير والتيه، هذا وجه تنطق به القصيدة.

 

 وصورة أمل.. بارق تتولد بشاراته من دم الشهداء المنير، وعطر الوعد الباعث على عتق النفس، ونور الفجر حين يؤذن، ويأذن برحيل العتمات، وحب الناس، وتفجر نيران الخضرة في الأشجار.

 

وفي ديوان إسماعيل علام علامات ظاهرة على شعرية منتمية، تتجاوز حدود الرومانسية السلبية إلى أجواء من الرومانسية الإيجابية الخصبة.

 

وهذا الميل نحو الشعرية المنتمية، أو ما يسمى باسم الرومانسية الإيجابية له شواهد كثيرة من أفكار الديوان الكلية والجزئية بتفصيلات الحنين نحو الوطن، والغربة، والمواجع الجسمية والروحية معًا، والآلام وعذابات الترحل والمقام.

 

وهي رومانسية باسم معجم النور والعطر والأوقات الأسرة المفضلة عند جماعات شعراء الرومانسية، وباسم الأشجار والأطيار والبحار ومجموع مشكلات البيئة ذات الأبعاد الحية.

 

وهي رومانسية إيجابية بشهادة معجم اللون الذي يتحرك بين الألوان الخافتة في الزمان والمكان والألوان الزاهية، الباعثة على الأمل والتفاؤل والميلاد الجديد.

 

(4)

 الشعرية الناطقة

وملامح الشعرية في الديوان ظاهرة ودالة على عصرية الشاعر من جانب، وعلى شاعرية متدفقة من جانب آخر.

 

وفي الديوان ملامح كثيرة للصورة النضرة، التي تنسجم مع روح القصيدة يقول الشاعر:

* روحك أسئلة

ويقول:

* حين خذلنا الشمس

* صب الزمن الصامت

* أردية الثلج علينا

 

وسيطرة روح الغربة وما تجلبه من توتر وحيرة فرضت نمطًا من الصورة المتناغمة مع هذه الروح، وهو ما بدا في تشبيه الروح بالأسئلة في أكثر من مرة الشاعر ثانية:

 

* وكل الوجوه هنا أسئلة

وتتبدى بعض ملامح من عصرية القصيدة تجعلها في العمق من الحضور المعاصر، ليزداد المتلقي إقبالاً عليها، وحضورًا فيها.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل