المحتوى الرئيسى

كتاب مقدمة في الأسطورة وبداية توظيفها في القصة العراقية / تأليف محفوظ فرج إبراهيم

07/25 21:18

المقدمة


لم يدر في خلدي يوما أن أكتب بحثا عن الأسطورة على الرغم من ملاحظتي لعناية الشعراء المعاصرين بالأسطورة ابتداء من بدر شاكر السياب الذي فتح الباب في الشعر العربي والقصة العربية على مصراعيه لتوظيفها حتى شعراء الثمانينيات فقد نجد الرمز الأسطوري في شعر عبد الوهاب البياتي، وخليل خوري، وحسب الشيخ جعفر، وغيرهم، ولم تكن القصة محط عنايتي لأتابع التوظيف الأسطوري فيها.

ولكن القاص فرج ياسين وهو طالب في مرحلة الماجستير قد ذكر أنه ينوي دراسة التوظيف الأسطوري في القصة العراقية فقلت له سأمهد لهذه الدراسة بمحاضرة في اتحاد أدباء صلاح الدين، وفعلا كان هذا البحث الذي قدمته، وقد حضره مجموعة من أساتذة جامعة تكريت وحشد من أدباء محافظة صلاح الدين، وكان مقرر الجلسة القاص فرج ياسين.

ولا أزعم أن القاص فرج ياسين قد أفاد من هذه الدراسة في رسالته للماجستير فدراسته لتوظيف الأسطورة في القصة تختلف معنى ومبنى عن دراستي ولكنني نقلت الواقع الموضوعي لقصة هذه الدراسة التي كانت تعتني بمفهوم الأسطورة وتعدد تفسيراتها أكثر من عنايتها في التوظيف الأسطوري في القصة العراقية لاسيما أنها دراسة حديثة على أدباء المحافظة وقد ألقيتها عام 1994م وقد كانت الدراسة على النحو التالي:

1ـ في ماهية الأسطورة

2ـ آراء في تفسير نشأة الأساطير

3ـ النقد الأسطوري1 ( mythopoeic)... ومصطلح التناص

4ـ تاريخ التوظيف الأسطوري في القصة العراقية

5ـ في البناء الأسطوري

6ـ الخاتمة

على أن الدراسة اعتمدت على المراجع المهمة التي اعتنت بالأسطورة وأبرز هذه المراجع دراسات الدكتورة نبيلة إبراهيم وخاصة كتابها الأسطورة في سلسلة الموسوعة الصغيرة والأساطير السورية لصموئيل نوح كريمر، ونظرية الأدب لأوستن وارن، ورينيه ويليك، وكتاب خمسة مداخل إلى النقد الأدبي ويلبر سكوت ترجمة الدكتور عناد غزوان وجعفر الخليلي، ومفاهيم نقدية رينيه وليك

وقد أفادت الدراسة أيما فائدة من أعداد مجلة الأقلام العراقية في التي كان لها الحضوة الكبرى، والاعتناء الأكبر في مسألة توظيف الأسطورة في الشعر والنثر.














1 ـ في ماهية الأسطورة

شغلت الأسطورة المفكرين من نواحي عدة فهي بوصفها نمطا قصصيا شغلتهم بما تحكيه وبالسؤال عمن يحكيها ولمن ؟ ولماذا ؟ وهي بوصفها صور وخيالات شغلتهم بالسؤال عن مغزى هذه الصور والخيالات ومدى علاقتها بالواقع الحسي ، ثم هي بكونها جزأ لا يتجزأ من النشاط الفكري والروحي للإنسان القديم بدليل انه حرص على نقشها على آثاره الدينية ،شغلتهم بالسؤال عن مدى ارتباطها بالحضارات التي عاشت فيها ،وفيما إذا كان الارتباط محدودا بزمان ما، أو مكان ما ؛ أم إن الأسطورة تكشف في جوهرها بصرف النظر عن تباين أشكالها ، عن بناء الفكر البشري في أي زمان ومكان 1

وردت الأسطورة في ( فن الشعر ) لأرسطو كلمة تفيد العقدة ، البناء القصصي، الحكاية على لسان الحيوانات ( fable) ونقيضها ، ونضيرها العقل (logos) وهي يقابلها في كثير من اللغات الأجنبية كلمتا ( myth, mythos) التي هي نمط قصصي قائم بذاته وليس من السهل أن يختلط بغيره من الأنماط ، والاصطلاح يرجع أصلا إلى الإغريق إذ كانت كلمة ( mythos ) تعني الكلمة المنطوقة .2

وإذا كان هذا النمط غير محدود في بداية الأمر فانه قد تبلور في النهاية وأصبح يعني حكايات الآلهة 3، وليس غريبا أن تشيع كلمة الأسطورة وحولها الكثير من الغموض لذلك حاولت الدراسات تحديد معنى هذه الكلمة لأنها مرت بمراحل متعددة حتى استقرت فمعنى الكلمة في البداية كان يعني تفكير الإنسان الرمزي وتعبيره عن أقدم صورة من صور وعيه إلى الكلمة التي تعني تركيبة من الأحداث تستغرق زمنا إلى الكلمة التي تعني طرازا من القيم العقلية 4

والأسطورة العربية مشتقة من ( سطر ) أي ألف الأساطير5 أو الأحاديث التي لا أصل لها ، والأحاديث العجيبة الخارقة للطبيعي والمعتاد عند البشر6 فهي في العربية لها علاقة بالتصورات الدينية والاعتقادية قال تعالى ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) 7

وإذا كان هناك تطور في معنى كلمة ( mythos ) فان هنالك آراء متعددة في تعريفها وذلك يرتبط أيضا في أصولها وفي أنواعها المتعددة ، فهي عند فونك حكاية تحكي أحداثا وقعت في زمن بالغ القدم إذ لابد أن تكون شخوصها الرئيسية من الآلهة8وهي عند آخر ( نتاج صبياني لخيال مهوش ووهم نزق ) وهي في رأي آخر ( روايات خرافية تطورت من أجل تفسير طبيعة الكون ومصير الإنسان وأصول العادات والعقائد والأعمال الجارية أيامهم ، وكذلك أسماء الأماكن المقدسة والأفراد البارزين )9 ولدى آخر قصة تقليدية تروي تاريخا مقدسا من آلهة وأشباهها )10 ويعرفها هانز مير هوف بأنها( نسق لازماني وهي لا زمانية في كونها حاضرة أبدا كتذكير دائم بالعود الأبدي للشيء نفسه) ويعرفها كلود ليفي شتراوس إنها ذات بنية مزدوجة تاريخية ولا تاريخية11 ويقول الدكتور خليل أحمد خليل ( إنها حكاية عن كائنات تتجاوز العقل الموضوعي12)

فالأسطورة هي ( قصة مقدسة ) تتضمن موضوع الخلق وبداية الوجود ، وتصف الأحداث المثيرة التي صاحبت عملية الخلق ، والدور الذي قامت به مختلف الآلهة والمخلوقات الأسطورية في هذه الأحداث ؛ ولما كانت مقدسة من جيل إلى جيل بالرواية الشفهية مما يجعلها ذاكرة الجماعة

وقد يمتزج تعبير الأسطورة في أذهان الكثيرين بتعبير ( الخرافة ) ، والحكاية الشعبية ولكن الأسطورة يلعب أدوارها الآلهة فما يمبزها من غيرها هو الاعتقاد فيها ،

فهي موضوع اعتقاد

أما الخرافة فهي حكاية بطولية ملأى بالمبالغات والخوارق إلا ان أبطالها الرئيسيين هم من البشر والجن ولا دور للآلهة فيها وهي ليست موضوع اعتقاد ،

وخرافة أصلها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( إن خرافة كان رجلا من عذرة أسرته الجن في الجاهلية فمكث فيهن دهرا طويلا ثم ردوه إلى الإنس ، فكان يحدث الناس بما رأى من الأعاجيب (فقال الناس : حديث خرافة )13

والحكاية الشعبية كذلك لا تحمل طابع القداسة أو يلعب أدوارها الآلهة كما أنها لا تتطرق كما هو شأن الأسطورة إلى موضوعات الحياة الكبرى وقضايا الإنسان المصيرية ، بل تقف عند حدود الحياة اليومية ، والأمور الدنيوية ؛ كمكر النساء ومكائد زوجات الرجل الواحد ، وقسوة زوجة الأب على الطفلة المسكينة 14


1ـ الأسطورة د. نبيلة إبراهيم سلسلة الموسوعة الصغيرة وزارة الإعلام العراقية ص 4ـ 5

2ـ نظرية الأدب رينيه وليك وأوستن وارن ترجمة محي الدين صبحي دمشق مطبعة خالد الطرابيشي 1972م ص 245

3ـ الأسطورة د. نبيلة إبراهيم ص 6

4ـ الشعر العربي المعاصر د. عز الدين إسماعيل ص 224

5ـ معنى الأساطير في مختار الصحاح الأباطيل

6ـ مضمون الأسطورة في الفكر العربي د. خليل أحمد خليل ص 8

7- سورة الفرقان الآية/ 5

8ـ الأسطورة د نبيلة إبراهيم ص 7

9ـ الأسطورة في شعر السياب عبد الرضا علي ص14

10 ـ مجلة التراث الشعبي العراقية العدد/ 1سنة ص1993 87 11ـ مضمون الأسطورة في الفكر العربي ص 12

12ـ الأساطير السومرية / صموئيل نوح كريمر ص 13

13ـ مغامرة العقل الأولى / فراس السواح ص 19 عن مسند ابن حنبل المطبعة الميمنية مصر 1313 هـ ج2 ص 281

14ـ مغامرة العقل الأولى 17

















2 ـ آراء في تفسير نشأة الأساطير

اختلف الباحثون في تفسير نشأة الأساطير وقد قدموا يصدد هذا آراء، ولنقل نظريات تنتمي إلى مدارس انثروبولو جية مختلفة، وفيما يلي آراء العلماء فيها

1ـ اندرولانج:

يرى أن الأسطورة أساسها التأمل في نظام الكون، وفي خلق الإنسان وفي ذلك يقول ( من الطبيعي أن أصل العالم، والجنس البشري كان يمثل مشكلة شغلت الإنسان القديم، ومن الطبيعي أن هذه المشكلة تشغل أدنى العقول تطورا فلا بد أن الإنسان في كل مكان وقف برهة، وتساءل من أنا ؟ ومن أين جئت؟ وكيف نشأ الكون؟ ولماذا تبدو الأشياء على ما هي عليه؟

ومن ذلك يفهم أن الأسطورة تمثل أولى مراحل التفكير الفلسفي .

2ـ ماكس مولر

وهو أبرز عالم لغوي في القرن التاسع عشر أن الأسطورة مرض لغوي فالإنسان البدائي كان يتحدث من خلال الأسطورة لا من خلال اللغة، وذلك لأنه لم يكن مؤهلا لاستخدام اللغة في التعبير عن دوافعه الداخلية؛ ولهذا بدت أشعة الشمس أصابع آلهة ؛ والسحب الممتلئة بالماء أبقاراً ممتلئة ضروعا وهكذا؛ ومعنى هذا أن الأسطورة من وجهة نظره تمثل مرحلة متخلفة للفكر الإنساني .

3ـ جيمس فريزر

بعد ثمانين عاما على ظهور كتابه الفريد ( الغصن الذهبي) فإن تأثير ذلك العبقري ما زال ماثلا، وآراؤه ما زالت تلقى الاحترام لدى الكثيرين يقول جيمس فريزر: إن الأسطورة قد استمدت من الطقوس إذ أنها تأتي لإعطاء تبرير لطقس مبجل قديم، فالجنس البشري عنده يمر بمراحل ثلاثة في مرحلة التطور الحضاري وهي: مرحلة السحر، ومرحلة الدين ، ومرحلة العلم، والأسطورة مرتبطة بطبيعة الحال بمرحلة السحر فهو يشير في ذلك إلى أساطير الخصب والنماء في أسطورة ايزيس، وادزوريس ،أو في أسطورة أدونيس ، وعشتروت أو في أسطورة مردوك وتيامات فإن هذه الأساطير جميعاً هي بعينها الأفعال الطقوسية التي تؤدى في مواسم الجدب والخصب توسلا للآلهة لكي تعيد اليهم الخصب والنماء بعد أن أضر بهم القحط والجدب

4ـ مالينوفسكي

عالم الانثروبولوجيا الشهير الذي قضى شطرا من حياته في دراسة تجريبية مع قبائل التروبرياند في غرب المحيط الهادي ، إبان الحرب العالمية والذي يعد من أشهر ناقدي جيمس فريزر، وأصحاب المدرسة النفسية أيضا كفرويد يقول مالينوفسكي : إن الأسطورة لم تظهر استجابة لدافع المعرفة والبحث ولا علاقة لها بالطقس أو البواعث النفسية بل هي تنتمي للعالم الواقعي، وتهدف إلى تحقيق نهاية عملية فهي تروى لترسيخ عادات قبلية معينة ، أو تدعيم سيطرة عشيرة ما أو أسرة ، أو نظام اجتماعي قائم وما إلى ذلك ؛ فهي والحالة هذه عملية في منشئها، وغايتها .

فالأسطورة لديه لها وضيفة تقوم بها ويرد على فريزر في نظرية السحر ويقول: فليس السحر مرتبطا بمرحلة حضارية تتسم بالبدائية ، والهمجية كما يرى فريزر ولكن السحر متداخل مع الأنشطة الروحية والفكرية الأخرى وهي: الدين،والعلم، فالسحر له وظيفة ويلبي حاجة؛ لذلك فالأسطورة مرتبطة كل الارتباط بالأنشطة الفكرية والاجتماعية التي تواكبها

5ـ فرويد

في كتابه (تفسير الأحلام ) اجتذبت فرويد الأسطورة كما اجتذبت الكثير من أتباعه، وفي كتابه الذي نشر أول مرة عام 1905م يرى فرويد تشابها في آلية العمل بين الحلم والأسطورة، وتشابه الرموز لكليهما فهما نتاج العمليات النفسية اللاشعورية، ففي الأسطورة كما في الحلم تجد الأحداث تقع مرة خارج حدود الزمان والمكان،فالبطل في الأسطورة كما هي حال صاحب الحلم يخضع لتحولات سحرية ويقوم بأفعال خارقة هي انعكاس لرغبات، وأماني مكبوتة تنطلق من عقالها بعيدا عن رقابة العقل الواعي الذي يمارس دور الحارس على بوابة اللاشعور ؛ فالأسطورة والحالة هذه ملأى بالرموز التي ان فسرت زودتنا بفهم عميق لنفس الإنسان الخافية ورغباته المكبوتة .

فالصور الأسطورية لدى فرويد هي رموز أو ديبية ومثال ذلك أن الطوطم يرمز إلى صورة الأب

6ـ كارل غوستاف يونغ

وهو أكثر تلاميذ فرويد اهتماما بالأسطورة، وتعمقا في دراستها وتعويلا على أهميتها فقد ميز يونغ بين نوعين من اللاشعور 1ـ الشعور الفردي الذي يضم كل مكتسبات ـ خلال خبرة الحياة ـ من الأفكار والمشاعر التي يتم نسيانها أو كبتها 2ـ اللاشعور الجمعي وهو الذي لا يبدأ أثناء حياة الفرد فقط بل قبل ذلك بفترات طويلة وتتم وراثة محتوياته التي تشتمل على الأساطير والأفكار الدينية والدوافع والصور الخيالية والتي يمكن أن يتجدد ظهورها عبر الأجيال وتترك آثارها على شكل ومحتوى الذهن الإنساني، وقد اعتبر يونغ اللاشعور الجمعي هو القاعدة الأساسية لنفس الإنسان وشخصيته فاستخدم مفهوم النماذج الأولية ( أو البدائية ) أو الأساسية ليشير إلى نوع من الصور التي يستخدمها اللاشعور الجمعي ب2صورة متكررة والتي تكون محملة بالعواطف القوية وتظهر خلال الأساطير والرموز الدينية والاجتماعية ، وبذلك تكون عنده الأسطوؤرة ناتجة عن اللاشعور الجمعي للبشر ؛وهو يناقض نظرية فرويد القائلة بأن الأسطورة والحلم إنما يشفان عن مكنونات العناصر المكبوتة في لاشعور الفرد وان كان يلتقي معه في الأسطورة بأنها نتاج اللاشعور

7ـ ميرسيا إلياد

عالم الاجتماع الروماني الأصل قد درس الفكر الأسطوري من زاوية فطرية أو فنومولوجية واعتبر أن الأسطورة ( ليست وهما ولا كذبا ) وإنما هي تجربة وجودية كان يعانيها الإنسان البدائي الإنسان الديني الذي يعيش في المجتمعات التقليدية والشرقية ولهذا فان الأسطورة في منظوره ترمز إلى (واقع مقدس ) يدرك الإنسان عالم الغيب من خلاله .

8ـ كلود ليفي شتراوس

يرى كلود ليفي شتراوس أن الأساطير خضعت لمناهج تفسير تتضارب كليا مع بعضها البعض ومع الطبيعة الأساسية للأساطير نفسها؛ رآها الناس أحلاما جماعية أو أساسا للطقوس : أو نتيجة لنوع من النشاط الجمالي ، ورأوا في شخصيات الأسطورة تجريدات مجسدة أو أبطال ذوي طبيعة أسمى من البشر ،ى أو آلهة هابطة من السماء، ولا يمكن قبول هذه التفسيرات أنها تهبط بالأساطير إلى مستوى لعب الأطفال ويفسر مفهوم الأسطورة تفسيرا حضاريا من خلال أربعة أسس :

1ـ إن الأسطورة تعيش بالضرورة في عقل الإنسان وهي ليست مجرد حكايات تؤلف عمدا فهي جزء من الأشكال الإنسانية التي ينكشف من خلالها الع4قل البشري.

2ـ ينبغي أن لا تدرس الأساطير مفردة بل في شكل وحدة.

3ـ يرى ؟أن من يريد أن يحدد ويفهم مغزى الأسطورة ينبغي عليه أن يفتتها إلى وحدات من الأحداث وان يصنف هذه الوحدات وفق تنظيم بنائي محدد وعندئذ يتكشف لنا أن هذه الوحدات ترسل إشارات متجانسة ضمن رسالة واحدة؛ وطريقة تصنيف هذه الوحدات هي وضعها متسلسلة في قائمتين تتضمن القائمة الأولى الوحدات التي تبالغ في تأكيد قيمة الحدث والأخرى تبالغ في الحط من شأنه وعندئذ يتجلى التعارض في الوحدات البنائية للأسطورة

4ـ من خلال المبالغة في إبراز قيمة الحدث، والمبالغة في التهوين من شأنه

ينتهي الصراع إلى حل وسط ومثال ذلك الصراع بين الحياة والموت، أو الطبيعة والحضارة، أو المحلل والمحرم.

من خلال هذه الأسس انتهى شتراوس إلى أن الفكر البدائي لا يمثل مرحلة من مراحل التطور بل يمثل منطق الفكر البشري، في كل زمان ومكان، ووسيلتنا في الوصول إلى الشكل الكلي لهذا المنطق البشري وهي دراسة الأساطير وفقا لمنهجه البنائي.

وإذا كانت البنائية وعلم النفس التحليلي يتفقان على أنهما يريا في سلوك الفرد معنى أعمق من المظهر السطحي ؛ فإن المحيط الذي ترجع إليه البنائية يقع في عمق التاريخ البشري، وعمق الكون في حين أن المجال الذي يرجع إليه علم النفس يتحدد ببيئة الفرد، والبنائية لا تميز بين حالة الشعور واللاشعور فحسب لكنها تضيف حالة أخرى يطلقون عليها اصطلاح : Non- conscious انه مستوى شعوري يقع خارج الوعي ؛ مثال ذلك المشي وهو نمط من أنماط السلوك الجمعي يمارس بوعي ولكن دون علم بأسبابه ، ودلالته ولكنه يقوم به الإنسان لمجرد انه يمارس حياته من خلال الجماعة.
















3 ـ النقد الأسطوري1 ( mythopoeic)... ومصطلح التناص

وهو مايسمى المدخل النموذجي ، أو الطوطمي أو النقد القائم على الموروث الشعبي أو الأسطوري ، أو الشعائري

ويبدو أن هذا المنهج النقدي قد تبلورت ملامحه نتيجة لجهود عالمين هما سير جيمز جورج فريزر عالم الأنثروبولوجيا الأسكتلندي من خلال مؤلفه ( الغصن الذهبي ) وهو في اثني عشر مجلدا من عام 1890م حتى عام 1915م تتبع فيه الأساطير إلى بدايتها في ما قبل التاريخ2

وكوستاف يونغ الذي ارتبط اسمه أصلا باسم فرويد وكانت جهوده فيما يتعلق بالنقد الأسطوري في نظرية الذاكرة الجماعية

Collective-unconsciusnsness

إن جهدي هذين العالمين في توكيدهما على سيادة الأسطورة وعلاقتها بالذاكرة الجماعية استهوتا الخيال الخلاق أشد استهواء3 ، ومن ذلك يتبين أن هنالك مصدران رفدا المنهج الأسطوري هما علم الأنثروبولوجيا وعلم النفس التحليلي في الصيغة اليونغية على الرغم من أن يونغ قد حذر من تطبيق فلسفته على الأدب

والنقد الأسطوري يتطلب قراءة دقيقة للنص وهو قريب إلى علم النفس لتحليله استهواء العمل الأدبي للجمهور ، وهو ليس منقطع الصلة مع المناهج الأخرى4 بل يمكن القول إن من الصعوبة بمكان أن يعتمد الناقد عليه لوحده ؛ لأن تبلوره كان نتيجة لجهود علماء من مختلف الاختصاصات في معرفة ماهية الاسطورة كأصحاب المدرسة التطورية وعلى رأسهم جيمس فريزر ، وأصحاب المدرسة الوظيفية وعلى رأسهم مالينوفسكي ، وأصحاب المدرسة الحضارية وعلى رأسهم كلود ليفي شتراوس ؛ ولذلك فهو من جهة له ارتباط بالتاريخ باعتبار ان الأساطير ظهرت في مراحل تاريخية متعددة ، ومن جهة له ارتباط بعلم الاجتماع باعتبار ان الأساطير تعكس الأعراف والعلاقات الاجتماعية ، ومن أخرى له ارتباط بعلم النفس التحليلي من خلال اعتبار فرويد ان الأسطورة شبيه بالحلم وكلاهما يصدران عن اللاشعور الفردي ؛ واعتبار يونغ لها بأنها تصدر عن اللاشعور الجمعي للبشر ، ومن خلال العلاقة الوثيقة بين البنائية وعلم النفس تتضح علاقتها مع البنيوية نتيجة لجهود كلود ليفي شتراوس في دراسته لبناء الأسطورة ، واهتمام فلادمير بروب ببناء الحكاية الخرافية الروسية ؛ ومن جهة أخرى فقد يكون التوظيف الأسطوري ، أو المنحى الأسطوري ليس وحده الذي ارتقى بالنص إلى النضوج وإنما كان جانبا هامشيا مكملا فيكون الاعتماد على هذا المنهج ليس إلا تكلفا يقسر النص إلى الخضوع لذلك المنهج .

والحق إن النقد الأسطوري تنصب عنايته على المضمون أكثر من الشكل الفني ، وذلك يتطلب منه الاستعانة بالمناهج الأخرى لكي يتوازن طرفا المعادلة بين الشكل والمضمون5 وقد عد بعض الباحثين هذا المنهج حركة نقدية ، وأبدى مخاوفه عليها لأنها تعكس اتجاها ساريا في انتحال الشعبية ؛ وانتحال الشعبية يذكر بشعبية النازية المتصل بالعرق والوطن ،وكذلك فان ما يخشى على النقد الأسطوري هو أن يتحول الناقد إلى مجرد محص للعناصر والجزئيات الأسطورية في العمل الإبداعي ، وتبدو براعته فيما يقول وليس في شرعية ما يقوله ، فيكون نقده أشبه بجلسات استحضار الأرواح 6، وعلى الرغم من ذلك فان النقد الأسطوري من خلال البحث في ماهية الأسطورة بجهود علماء اختلفوا في مشاربهم ،وثقافتهم ، وتخصصهم جلب أجزاء متنوعة من المعرفة في الانثروبولوجيا ، وعلم النفس ، والفلسفة ، والفنون الجميلة ، والتاريخ ؛ ولعل من المفيد أن نذكر البدايات الأولى للنقد الأسطوري .

فقد درست مود بدكن في انجلترا في كتابها ( الأنماط العليا في الشعر ) قصيدتي الملاح الشيخ واليباب باعتبارهما قصيدتين تتناولان نمط الانبعاث 7.

ونورثرب فراي الذي فسر الأساطير الشخصية التي خلقها وليم بليك في كتابه( التماثل المخيف) ومزج في كتابه ( تشريح النقد ) 1957م بين النقد الأسطوري وبين بعض الأفكار المستمدة من النقد الجديد ويهدف التشريح إلى الوصول إلى نظرية شاملة في الأدب لا يحد مراميها أحد8، وكان نور ثروب فراي ذا تأثير كبير في أولئك النقاد الذين برهنوا على ان الأنماط الأصلية تبدو ركيزة للأساليب والحبكات ، والأنواع في الأعمال الأدبية ، ومن هنا فان لـ ( فراي ) يد على النقد الأمريكي ، إذ فتح الأبواب واسعة للتيارات الجديدة في النقد ولا سيما أفكار البنيويين ، وما بعد البنيويين ممن هيمنوا على النقد الفرنسي ، وقد حضي هذا المنهج النقدي لدى النقاد العرب بالعناية نتيجة الدراسات العربية بشأن الأسطورة ، والتراث الشعبي ، ونتيجة للنصوص الإبداعية الكثيرة التي وظفت الأسطورة برؤيا فنية معاصرة فرضت على الناقد العربي أن يتناولها من خلال المنهج الأسطوري مثل الدكتور عز الدين إسماعيل ( في الشعر العربي المعاصر )9 وغيره

ويبدو لي أن من الأجدر التنويه في هذه المرحلة على ملامح أخذت في الاتساع بين الفنون الأدبية منذ مطلع الثمانينات ؛ وهي أن النصوص الإبداعية أخذت تبالغ في الاعتماد على نصوص سابقة أكثر بكثير مما سبق من مراحل مر بها الأدب العربي حين كان المصطلح النقدي ( السرقات الأدبية ) يلاحق الأديب إذا وجد عنده صدى لأدباء سابقين له ؛ ولعل غض النظر عن ذلك أو تثمينه من خلال المصطلح النقدي ( التناص ) قد فتح الباب على من هب ودب

أن يسلخ نصوصا إبداعية ، وخطابات تأريخية ، وجغرافية متفرقة ليجعل منها بناء واحدا لنص إبداعي على الرغم من التنافر في المقاييس والأبنية ، والتغيرات في السرد ، وفي القصد كما حصل في قصيدة النثر حين أخذ حتى من لم يحفظ بيتا واحدا من الشعر يكتبها ، وطبقا للحالة هذه يأتي الناقد مستندا على ان ذلك النص فيه كم زاخر من المعرفة فيجد أرضا خصبة تلائم آلياته التي يشتغل عليها ، ويقرأ أفقيا ، وعموديا ، ويرسم خرائطه ، ومعادلاته باعتباره ينطوي على شفرات عديدة كشفرة الدلالات ،والشفرة الرمزية ، والشفرة التخمينية ، والشفرة الحضارية .... ليرى أن نص النشوة الأزلية الذي يربك القارئ ، ويزلزل قناعاته التاريخية ، والحضارية ، والنفسية ، كم يزلزل قيمه وذوقه المألوفين10

أقول ذلك مع إقراري بأن ذلك لا يعود إلى منهج معين ، وإنما يعود إلى الناقد نفسه

ولذلك ان جميع النصوص المتفرقة بطريقة ليست خاضعة لرؤية الكاتب ، موسومة بميسمه ، وطريقته في التناول ؛ تفتح الباب إلى الناقد على أساس ( التناص ) intertexualit، وإن مجرد اختياره هو إقرار بجودته ، وذلك مركب سهل له فيغيب في ذلك أي حكم تقويمي ، ولكن كل المحاولات التي قصدت إخراج القيم من الأدب فشلت وسوف تفشل لأن القيمة هي جوهر الأدب11 ، وعلى الرغم من أن التناص لا يعني السطو على جهود الآخرين ؛ وإنما هو خلاصة مركزة لنصوص أخرى ، وتقاطع مع قيم معرفية ، وميثولوجية ، وجمالية ، إنه لا يعني الصورة التي هي عليها أمثلة القصة القصيرة نعم انه ( لا شيء أدعى إلى إبراز أصالة الكاتب وشخصيته من أن يتغذى بآراء الآخرين ) نعم إن ( كل إنما هو نتاج لتداخل نصي ، إذ تتمرأى فيه نصوص أخرى بمستويات مختلفة ، وبصيغ يصعب أو يسهل إدراكها هي تمثل مكونات الثقافة في ماضيها وحاضرها وان كل نص نسيج جديد من اقتباسات سالفة )12 ولكن يبقى الباب مفتوحا على مصراعيه لكتابات لا تدرك ان ذلك الاعتماد على نصوص سابقة يجب ان يكون خاضعا لرؤية الكاتب نفسه

إن الطروحات النقدية شجعت كتاب القصة القصيرة خاصة على الاتكاء على نصوص أخرى من الموروث أو الحديث ، ففي الشعر يمكن ان يكون استلهام الميثولوجيا رموزا فاعلة في تجربة الشعر مع احتفاظ الشاعر بأسلوبه كما نرى ذلك لدى السياب، والبياتي ، وصلاح عبد الصبور

ولكن استلهام القصة القصيرة للأسطورة يتطلب الحيطة والحذر لأن الأسطورة والحكاية الشعبية والخرافة في بناءاتها ، ومضامينها ، وأحداثها هي قصة واعتماد القصة على قصة شيء يختلف عن الشعر لأن الرمزي الشعري يعتمد غلى الصورة في بناء الرمز ، ولكنه في القصة يعتمد على أنماط سلوك الشخصية أو مكان الحدث وموجوداته على الرغم من تقارب الأجناس الأدبية .

1ـ أو النفد النموذجي archetypal criticism والمقصود بالتسمية أنه النقد الذي يستند إلى النموذج الأول أو المثل الأصلي المستوحى من الأسطورة ، أو المترسب في الذاكرة الجماعية

الاقلام العراقية 11ـ12 / 1992م المنهج الأسطوري في دراسة الفن القصصي ونقده الدكتور صبري مسلم ص95

2ـ خمسة مداخل إلى النقد الأدبي / ويلبر سكوت ترجمة الدكتور عناد غزوان وجعفر الخليلي ص 265

3ـ المرجع نفسه ص 267

4ـ مجلة الأقلام العراقية 11ـ 12 ص34

5ـ نظرية الأدب / رينيه ويليك وأوستن وارن ترجمة محيي الدين صبحي ص 89 وخمسة مداخل إلى النقد الأدبي ص 265

6 ـ الأقلام ص96

7ـ مفاهيم نقدية رينيه وليك ص482

8ـ المرجع نفسه 482

9ـ ذكر الدكتور صبري مسلم الدراسات النقدية على المنهج الأسطوري في مجلة الأقلام العراقية 11ـ 12 ص100

10ـ ينظر في ذلك البنيوية وعلم الإشارة / ترنس هوكز ترجمة مجيد الماشطة ص 104

11ـ مفاهيم نقدية ص63

21ـ الأديب المعاصر العدد 1/ 1993 توظيف الموروث البابلي في القصة العراقية ص 38






















4 ـ تاريخ التوظيف الأسطوري في القصة العراقية

يبدو لي أن بداية التجريب في توظيف الأسطورة في القصة العراقية كانت ساذجة إذ تأخذ التتابع في السرد على طريقة الخبر التاريخي ، والسير العربية الكبرى حيث يترتب الزمان ، وعد هذا النسق من أبسط أشكال النثر الحكائي التخيلي ، وقد كان كتاب القصة القصيرة يستعيرون جو الأساطير لقصصهم على هذه الطريقة من غير تمثل ، أو مقابلة بالحاضر ، وحين تتبع الدكتور

عبد الله إبراهيم بدايات توظيف الموروث البابلي في القصة العراقية ، وجد أن عطا أمين قد نشر قصته ( رؤيا صادقة ) عام 1919م وفي هذه القصة يقوم الراوي برحلة متخيلة الى مدينة بابل

لملاقاة الكاهن المشهور ( بيروس ) ويقدم شكوى إليه عن حال بغداد ، وما جرى لها ، ويقدم الراوي وصفا تفصيليا لمدينة ( بابل ) وبرجها حيث يتعبد ( بيروس ) في قمته ، ويظهر برج بابل بطوابقه السبعة مماثلا لمعنى الأسطورة التي تفرض أنها بناء شامخ ، وهو ينهض على معبد الإله ( مردوخ )1 كما استعار عبد الحق فاضل جو الأساطير لقصصه ( الرائد ، البيك ، الانتقاد )2

في مجموعته ( حائرون ) وان كان لم يجعل من شخوص قصصه ما يناظرها آلهة أو أنصاف آلهة ولكنها اتخذت طابع الحكاية الشعبية في السرد أسلوبا لها ، كما استعار القصاص العراقيون بعد الحرب العالمية الثانية جوا غير واقعي تتحرك فيه شخوصهم كأجواء ألف ليلة وليلة ، كما في قصة ( في قرى الجن ) لجعفر الخليلي الذي يعج بالسحر ، والبخور ، والدراويش ، والعفريت الذي يصيح لبيك لبيك وبطل القصة شاب خطفته الجن في ليلة عرسه وزوجوه بعروس منهم

والجدير بالذكر أن توظيف الأسطورة والرمز إطارا لمضمون عصري حضاري برؤيا فنية معاصرة كانت وراءه أسباب متعددة منها أن التحول من الدين إلى القومية في الحياة السياسية للعصر أعطى أهمية عظمى لتراث ما قبل الإسلام على انه جزء من تراث الأمة بما فيه من ميثولوجيا إذ اتخذت أمثلته الأسطورية رموزا للحياة والموت لدى الشعراء ، وكتاب القصة القصيرة ،3 وكذلك فان توظيف الأسطورة في الشعر لدى الشعراء الرواد السياب ، البياتي ، خليل حاوي ، صلاح عبد الصبور كان له أثره الواضح في اتجاه القصة القصيرة نحو توظيف الأسطورة وتمثلها بأسلوب فني معاصر ، وقد دفع ذلك كتابها من التعرف على أساليب قصصية حديثة في ( التكنيك ) أن يطلعوا على أحدث الأساليب الغربية الحديثة في القصة القصيرة مثلما اطلع الشعراء كالسياب على أساليب التوظيف الأسطوري في الشعر الأجنبي ، فضلا عن ذلك فان تعدد أساليب القصة في العالم وتوظيفها لرموز وأساطير من مختلف أنحاء العالم دفع بالقاص العراقي إلى كتابة قصة قصيرة ذات ملامح عراقية عن طريق الميثولوجيا السومرية ، والبابلية ، والآشورية ولعل ذلك ما أكده ، محمود جنداري حين سئل عن أسباب توظيفه للأسطورة في قصصه قال ( أنا محلي قلبا وروحا ، وفكرا ، وتطلعا ،أنا مفتون بتاريخ العراق إلى حد أني بدأت أرى العالم من خلال العراق )4 ان شعور العراقي بأصالته وعمق انتمائه ؛ لأنه صانع أول ملحمة في التاريخ ألا وهي ملحمة كلكامش ، وجهود الباحثين في نشر تاريخهم العريق كما فعل الأستاذ طه باقر في دراساته وترجماته لتاريخ العراق القديم كترجمته لملحمة كلكامش وكتابه ( مقدمة في أدب العراق القديم ) كان له أثر في كبير في اطلاع القاص العراقي على الملاحم والأساطير العراقية واستلهامها في توظيفها رموزا مطروحة في رؤية فنية معاصرة ؛ ومن الأسباب البارزة في توظيف الأسطورة في القصة القصيرة هو أن القاص غالبا ما يعمد إلى ذلك لكي يبتعد عن إزعاجات أزمة بطله المأزوم في صراعه الإنساني الباحث عن الحقيقة في خضم المعارك والتحولات السياسية غير المستقرة التي يخشى التصريح بها مباشرة 5؛ وربما يكون طموح القاص في أن يجعل إبداعه عملا جدبرا بالبقاء والخلود كخلود الأسطورة التي وظفها وهذه من المحفزات المهمة لتوظيف الأسطورة في القصة العراقية 6.

ويبدو ان رواية ( ليس ثمة أمل لجلجامش ) لخضير عبد الأمير عام 1971م كان لها وقعها الحسن في أنها أعطت الأسلوب الفني في الشكل الروائي الحديث عنصرا جديدا للإلهام، والإبداع مما دفع النقاد إلى الإشارة بها فكتب عبد الرضا علي مقالة بعنوان توظيف الأسطورة في رواية ثمة أمل لجلجامش ) وكتب صبري مسلم ( التوظيف الشعبي والأسطوري في ليس ثمة أمل لجلجامش ) ان ارتكاز القاص على الأسطورة ليس أمرا سهلا يمارس فيه القاص الطقوس الاسطوريه وانما هي عالم مظغوط مفتوح بأنماط مختلفة وقيم متباينة لشخوص وأحداث وتجارب ماضوية منها ما تكون عميقة أو حية جامدة أو متطورة لذلك فا لارتكاز عليها مشروط با لانحياز لما هو حي ودينامي ،ومحكوم بادراك ووعي سابقين يتطلب من القاص التفاعل وليس التعاطف،التمييز وليس الاندماج، التفرد وليس الذوبان في التعامل الجدلي مع الأسطورة ،هذه العملية لا شك أنها بحاجه إلى ذهنيه حية قادرة على تشبيك الموروث الحسي ،والنفسي ،والاجتماعي من خلال حركة الجدل الإنساني ،وهكذا ظهر التجريب الأسطوري الأمثل في القصة العراقية القصيرة لدى محمود جنداري ،محمد خضير،محسن الخفاجي ، ناجح المعموري،جليل القيسي ،نعمان مجيد،عواد علي ،ولطيفه الدليمي .وقد أسس هؤلاء ملامح اتجاه فني جديد في السرد

لقد عكست نصوص هؤلاء تطورا في الرؤيا الفنية لماهية الأسطورة،وطرائق التعامل معها ،واستفادت من تطورات الأجناس التي في هذا المنجز مع بعضها واخذ السرد من الشعرية كل ما هو مهم ومثير وكذلك الفنون من الفنون الأخرى،لذا كانت بعض النصوص ملفته للانتباه في خلخلة البنى السردية، وتحطيم البنى السردية ،وتحطيم الزمنية والتقريب بين السرد والكتابة الشعرية الجديدة ، ولأن الصلة قائمه بين الشعر والأسطورة كما قال ياكوبسن استفاد السرد من الاستعارة والتقابلات 7 وفي ذلك أفاد كتاب القصة من أساليب تيار الوعي لجيمس جويس ، وفرجينيا وولف ،والذاكرة اللاإرادية لمارسيل بروست ،وتنوع وجهات النظر لهنري جيمس ،وتعدد الأصوات للورنس داريل ،وتداخل الأزمنة لفوكنر ، وتنافذ الأشكال المعرفية لبورخس والرؤى الخارقة لكالفينو 8

أما في ما يتعلق في القصة الكردية فقد عرض حسين عارف بالتفصيل لأساليب التوظيف الأسطوري في القصة الكردية فوجدها منذ عام 1970 م وما بعدها لجأت إلى الأسطورة والرمز شكلا تكنيكيا مورس على نطاق واسع من أجل التعرف على أساليب حديثة في السرد ووجد فيه ملاذا يعبر بواسطته عن وجهات نظر فكرية وسياسية ،ووجد اغلب كتاب القصة الذين لجأوا إلى الأسطورة هم من الملتزمين سياسيا أو يميلون أفرادا إلى هذه الايديولوجية أو تلك كما لاحظ أن قسما كبيرا من القصص الكردية الأسطورية تدور حول المدينة الأسطورة ولكن المفهوم حولها والقصد يختلف من قاص إلى قاص ،ويذكر قصص لجأت إلى الرمز الأسطوري منها (المجتمع الحديدي)لعبد الله السراج و(عذاب القبر في نفق بابا)لرءوف حسن وغيرها 9

الهوامش

1)مجلة الأديب المعاصر / العدد 1 /1993 توظيف الموروث البابلي في القصة العراقية القصيرة

د.عبد الله إبراهيم ص 38

2) مجلة الأقلام العدد 4/1976/ملامح القصة القصيرة في العراق د. عمر الطالب ص 47

3) مجلة الأقلام العدد1/1985/ الحركة التموزية في الشعر وتأثير اليوت /نذير العظمة ص6

4)مجلة آفاق عربيه العدد11/1989/حوار مع محمود جنداري أجراه هاتف الثلج ص 126

5)هذا الرأي يراه عبد الرضا علي في نقده توظيف الأسطورة في (ليس ثمة أمل لجلجامش) وحسين عارف ورعد عبد الجليل

6)مجلة الأقلام العدد 9/1972/ توظيف الأسطورة في رواية ليس ثمة أمل لجلجامش عبد الرضا علي ص 75

7) الأقلام العدد1 ، 2 /1993 /الأسطورة مركز الإبداع ناجح المعموري ص46

8)الأقلام العدد 7،8 /1993/الكتابة الروائية عباس عبد جاسم ص23

9) الأقلام العدد 2،3 /1984 /أشكال التكنيك الحديث في القصة الكردية ص123






5 ـ في البناء الأسطوري


لم يكن توظيف القاص محمود جنداري للرمز الأسطوري في قصصه القصيرة في مجموعته القصصية ( عصر المدن ) مثل غيره ممن نحى هذا المنحى في القصة القصيرة ؛ إنه يفترق عنهم باختياره أسلوبا سرديا خاصا به؛ فهو لا يرتكز على الأسطورة ليحدث بينها وبين شخوصه، وأحداثه مقابلة تستوعب قصصه ، وإنما يمر لديه الرمز الأسطوري سريعا شأنه شأن الرموز التاريخية الأخرى أحداثا وأماكن وشخصيات منذ أول بصيص لتاريخ العراق حتى الحاضر ؛ ويبدو أن توجه القاص للتاريخ بدأ منذ وقت مبكر كما يقول هو إذ أشّر بداياته منذ قصة (حدث في عام الفيل) المنشورة في الموقف الأدبي عام 1973م. وفي مجموعتيه القصصيتين ( أعوام الضمأ ) و ( الحصار)

يذكر أن توظيفه للتاريخ كان مجرد مناطق إضاءة تساعد على استكمال البانوراما التي أراد التعبير عنها وفي مجموعته القصصية ( عصر المدن ) أي قصصه ( القلعة ، مصاطب الآلهة ، زو العصفور الصاعقة ، العصور الأخيرة ، عصر المدن ) أصبح التاريخ هو مادة الكتابة ، والجدل ، والمحاورة الجادة العميقة ، وعلى الرغم من ذلك فالملاحم والأساطير له عناية خاصة بها إذ يراها خامات شديدة الخصوبة تمنح الكاتب طاقة غير منظورة وغير محددة بزمن ولا بمكان ومن خلالها يحاول إعادة عالمه الخاص بترتيب الأحداث ، والرموز والأزقة وفق ما يراه 1

لقد سنحت لي الفرصة أن أقرأ له من مجموع هذه القصص قصة العصور الأخيرة، وعصر المدن وكان فيهما لا يولي اهتماما بتوظيف الأسطورة ولكن بنية السرد تنحو منحى ملحميا ، وميثولوجيا واضحا ولكن دونما تفريط بالإطار الواقعي والحسي للسرد2، إنه من خلال تكرار لازمة يختارها يجري انتقالا إلى زمن آخر، ومكان آخر ، وشخصيات تاريخية أخرى ففي قصة العصور الأخيرة يكون الفعل الأمر ( علمني ) منطلق السرد وكلما انتهى من زمان ، ومكان ، وحدث عاد إليه لينطلق ثانية إلى أزمنة ، وأمكنة ، وأحداث ليس لها رابط بالتي سبقتها ولا هي تالية لها؛ وهكذا بطريقة يفكك فيها الوقائع ليجعل منها شذرات غير مترابطة تتداعى في أذهان الرواة الذين يشغلهم أمر استحضارها كأنها منشط خفي لإيقاظ الوعي ؛ إن عدم الترابط الآنف الذكر ينثال قي ذاكرة الرواة دفعة واحدة كأنها تقع في زمن واحد وعلى الرغم من التشضية تبدو نسيجا موحدا وموحيا .

إن قصة (عصر المدن ) التي يتكرر في مفاصلها ( طويس ) وتنتقل الأزمنة والأمكنة كلما أخرج (طويس ) الدف ونقر بثلاثة أصابع عليه انتقلت أجواء السرد إلى مناخات ملحمية ، أسطورية البناء، ولا بأس إذا كان في خضم هذه الأجواء توظيف أسطوري كما يبدأ القصة ( أشرقت الشمس على بابل وصار في أرضها دهس ، وقشعريرة وانتشرت في براريها روائح الآس ، والياسمين ، وفاحت رائحة البخور الراكدة في ظلمات معبدها حيث يجلس مردوخ الكبير على منصة من حجر )

لقد اقتربت قصص محمود جنداري كثيرا من قصيدة النثر وإن الأمكنة ، والأزمنة ، والأحداث هي ليست إلا رموزا وصورا لقصيدة شعرية طويلة وابتعدت كثيرا عن ملامح القصة القصيرة التقليدية التي يجري فيها تنامي الأحداث والتعاقب الزمني .

إن لغة القاص حافلة بالمجاز، والرموز لتجسيد الجانب التكويني في الأسطورة ، وهناك إيقاع خاص ينظم السرد من خلال تكرار صياغات لغوية معينة، واتخاذ هذه الصياغات منطلق لاستئناف السرد بقوة أكبر3 .

أما القاصة لطفية الدليمي فقد سبق لي أن ألمحت إلى أن التوظيف الأسطوري في القصة العراقية القصيرة بدأ بداية تفتقر إلى الدراية ، والمعرفة بالأساليب التي تجعل من هذا التوظيف فنياً متفاعلا مع رؤية معاصرة يصبح فيها جدلياً في الأداة والمعنى

وفي قصة لطفية الدليمي (هو الذي أتى) على الرغم من أن جدلية الحياة والموت في (ملحمة جلجاجمش ) قد استثمرت قبلها لدى كتاب عراقيين مثل رواية خضير عبد الأمير( ليس ثمة أمل لجلجامش ) وعادل عبد الجبار في ( وطن اليعاريب) فان لطفية الدليمي اختارت شخوصها الأسطورية ، وشخوصها المعاصرة ، وأحداث قصتها بطريقة تختلف عمن سبقتها وان كانت هي ايضا تقيم في متن القصة تناظرا بين حكاية حب معاصرة أبطالها جواد ونهال ؛ وبين حكاية حب تاريخية أبطالها (جوديا) ملك لكش 2060ق .م ، ونانشا ، وقد لاحظ الدكتور عبد الله إبراهيم استثمار تقارب الأسماء جواد ونهال وهما طالبان في قسم الآثار يطمحان لإكمال دراستهما العليا ، وإذ تنصرف نهال لإعداد أطروحتها ( أشكال عبادة إينانا عشتار السومرية) في بلاد ما بين النهرين ينصرف جواد لإكمال دراسته في أطروحته بعنوان ( جوديا أمير لكش وعصره الذهبي) ولكن نهال تترك دراستها فتتحول إلى مدرسة تاريخ بإشارة من جواد لأنها تصاب بحال غريبة كلما دخلت المتحف .... وجوديا الذي يقابل جواد قاد حملة ضد الغزاة وانتصر عليهم ، ويكرس جزء من حياته لاستعادة حبيبته نانشا التي نزلت إلى العالم السفلي حيث تقوم نهال على غراره بمحاولة استعادة جواد الذي قتل في الحرب فتتوحد شخصيتا جواد وجوديا في نظرها ويخيل إليها أنهما لم يموتا لأنهما ضحيا بنفسيهما من أجل هدف واحد إلى أن يهمس جواد في أذنها من قبره ( لم أمت ولم يمت اسمي).

فالقصة في ظاهرها هي قصة حب ولكنها تشير إلى معان أعمق منها الصراع الحضاري والمعنى الآخر يمكن العودة فيه إلى عنوان القصة ( هو الذي أتى) المستوحى من ملحمة كلكامش ( هو الذي رأى كل شيء ) والتي مضمونها جدلية الحياة والموت والفناء والخلود ولكن النص يتناولها قريبا من دلالتها الأسطورية لاستخلاص معنى معاصر لها.

1ـ آفاق عربية مقابلة مع القاص أجراه هاتف الثلج العدد/ 11/ 1989 ص 126

2ـ الأديب المعاصر العدد/ 1 / 19993 ص 44 توظيف الموروث البابلي الدكتور عبد الله إبراهيم

3ـ الأقلام العدد/4 / 1989 ص136 تعقيب لباقر جاسم محمد






















6ـ الخاتمة

هذا ما أمكننا أن نعطي صورة تبدو واضحة للأسطورة من خلال تتبع الدراسة لاشتقاقها ؛ فقد وردت الأسطورة في ( فن الشعر ) لأرسطو كلمة تفيد العقدة ، البناء القصصي، الحكاية على لسان الحيوانات ( fable) ونقيضها ، ونضيرها العقل (logos) وهي يقابلها في كثير من اللغات الأجنبية كلمتا ( myth, mythos) التي هي نمط قصصي قائم بذاته وليس من السهل أن يختلط بغيره من الأنماط ، والاصطلاح يرجع أصلا إلى الإغريق إذ كانت كلمة ( mythos ) تعني الكلمة المنطوقة . وقد ذكرت الآراء في تفسير نشأة الأساطير فقد فسرها أندرو لانج ، وماكس مولر، وجيمس فريزو،ومالينوفسكي ، وفرويد، وكارل غوستاف يونغ، ومرسيا إيلياد، وكلود ليفي شتراوس ولعل أهم الآراء هو رأي مالينوفسكي يقول:

إن الأسطورة لم تظهر استجابة لدافع المعرفة والبحث ولا علاقة لها بالطقس أو البواعث النفسية بل هي تنتمي للعالم الواقعي، وتهدف إلى تحقيق نهاية عملية فهي تروى لترسيخ عادات قبلية معينة ، أو تدعيم سيطرة عشيرة ما أو أسرة ، أو نظام اجتماعي قائم وما إلى ذلك ؛ فهي والحالة هذه عملية في منشئها، وغايتها .

وقد وجدت من المهم أن أوضح الاتجاه النقدي المتعلق بالموضوع وهو النقد الأسطوري لأن عنايته تنصب على المضمون أكثر من الشكل الفني ، وذلك يتطلب منه الاستعانة بالمناهج الأخرى لكي يتوازن طرفا المعادلة بين الشكل والمضمون وقد عد بعض الباحثين هذا المنهج حركة نقدية ، وأبدى مخاوفه عليها لأنها تعكس اتجاها ساريا في انتحال الشعبية ؛ وانتحال الشعبية يذكر بشعبية النازية المتصل بالعرق والوطن ،وكذلك فان ما يخشى على النقد الأسطوري هو أن يتحول الناقد إلى مجرد محص للعناصر والجزئيات الأسطورية في العمل الإبداعي.

وذكرت أن بداية التجريب في توظيف الأسطورة في القصة العراقية كانت ساذجة إذ تأخذ التتابع في السرد على طريقة الخبر التاريخي ، والسير العربية الكبرى حيث يترتب الزمان ، وعد هذا النسق من أبسط أشكال النثر الحكائي التخيلي، ويبدو ان رواية ( ليس ثمة أمل لجلجامش ) لخضير عبد الأمير عام 1971م كان لها وقعها الحسن في أنها أعطت الأسلوب الفني في الشكل الروائي الحديث عنصرا جديدا للإلهام، والإبداع، ظهر التجريب الأسطوري الأمثل في القصة العراقية القصيرة لدى محمود جنداري ،محمد خضير،محسن الخفاجي ، ناجح المعموري،جليل القيسي ،نعمان مجيد،عواد علي ،ولطيفه الدليمي .وقد أسس هؤلاء ملامح اتجاه فني جديد في السرد

لقد عكست نصوص هؤلاء تطورا في الرؤيا الفنية لماهية الأسطورة،وطرائق التعامل معها،










المصادر

1ـ القرآن الكريم

2ـ الأسطورة ، د. نبيلة إبراهيم ، سلسلة الموسوعة الصغيرة 54، وزارة الإعلام العراقية، 1979م

3ـ الأساطير السومرية، تأليف:صموئيل نوح كريمر ترجمة: يوسف داود عبد القادر/مطبعة المعارف - بغداد/1971

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل