المحتوى الرئيسى

الكتابة الانتقالية

07/17 23:21

لايفرض الثوار واقعهم الجديد بين يوم وليلة. لايطوون صفحة الماضى فى غمضة عين. ولا يفتحون صفحات المستقبل بضربة معلم. ثمة ولادة عسرة تمر بها البلدان بعد الثورات اسمها: الازمنة الانتقالية.

 ثمة ايام رمادية وليال لاطعم لها. وفى هذه الازمنة الانتقالية. يفرض السؤال نفسه: كيف يكون شكل الكتابة؟ كجزء من اسئلة كبرى عن الطبيعة الانتقالية فى كل مناحى الحياة: أمن انتقالى وعدالة انتقالية واقتصاد انتقالى وسياسة انتقالية. بل وميزانية انتقالية. الفارق الجوهرى بين الكتابة وهذه الامور الأخرى انها محسوسة ومدركة. لكن الكتابة عمل من اعمال الخيال الانسانى.

عندما نزلت مؤخرا الى وسط البلد. وجدت بكل مكتبة ركنا خاصا للكتب التى صدرت بعد 25 يناير. وهو سلوك ينطلق من حس تجاري. وايضا له طابع سياحي. وان كان اصحاب المكتبات يغطون سلوكهم بطبقة من الوطنية باعتبار ان التحرير اصبح ميدانا يلخص مصر. وان 25 يناير ثورة ألهمت البشرية الكثير. ويحكون لك ما قاله اوباما وغيره من رموز العالم عن الثورة المصرية.

وفى هذه الكتب ان فعلت مثلى واشتريتها وذهبت الى بيتك وجلست لتتصفحها لابد وان تكتشف أنها كتابة متعجلة. ومع اننى أكره التعميم فى الاحكام. إلا أن هذه الكتب طبعت ايضا على عجل. ما أن تفتح الكتاب حتى ينفرط عقده. وتصبح كل ورقة فى جانب. أما عن المحتوي. فحدث ولا حرج. صفحات باكملها منقولة من الصحف كما هي.

ومن ينقل فانه قد ينقل ايضا الاخطاء ليسهل عليك اكتشاف نقله. ستقول لى ان هذه كتابة صحفية. ومن ناحيتى اقول لك إنها كتابة نثرية. اى ليست شعرا ولا سردا ولا مسرحا. ولا كتابة فلسفية فكرية تبدأ من اسطح الاشياء حتى تصل الى الاعماق. فماذا إذن عن الكتابة الادبية سردا وحكيا وشعرا؟

أقول لك أن الحدث الذى تسأل عن الكتابة عنه. مازال يتخلق فى الواقع. ولم يصل الى كلمة النهاية. نحن نتابع واقع يتخلق فى كل لحظة مازال قادرا على ان يفاجئ الانسان بكل ما هو جديد وغير متوقع. لذلك فلان المتابعة والاستيعاب والتمثل قد تحتاج إلى وقت قد يطول أو يقصر. حتى يمكن للمبدع أن يجلس الى مكتبه ليدون الكلمة الأولى فى السفر الأول من حكاية الثورة. هذا بشرط ان نصل لنهاية الحكاية فى ارض الواقع. وتستقر الامور ويصبح لدينا واقعنا الجديد الذى يمكن ان نجلس لنحكى عنه ما جرى فيه ونطرح عليه اسئلتنا: متى وأين وكيف ولماذا؟

إن كان الكلام عن مقدمات الثورة، لدينا اطنان من الحكايات والقصص والروايات والاشعار. خاصة شعر العامية. الذى سبق شعر الفصحى كثيرا فى تناول الخلل الذى كان قد أصاب الحياة المصرية وعاد بها الى الايام الأخيرة قبل ثورة يوليو 1952. وصولى إلى هذه النقطة لايعنى أى إشارة منى الى من يخرجون علينا الآن. ليقول كل منهم إنه تنبأ بالثورة فى عمله الفلاني، وأنه لولا عمله العلانى ما قامت الثورة.

لأن هذا الكلام لو كان صحيحا فلا يقوله سوى الباحثون والدارسون. وبالذات اصحاب علم اجتماع الادب. وهو الجهد المتوقف فى بلادنا. والفريضة الغائبة فى تناولنا النقدى لاعمالنا الابداعية بعد كتاب سيد يسين الرائد فى علم اجتماع الادب. أما المبدع الحقيقى فلا ينطق بكلمة واحدة خارج نصه. ولو كتب نصه بشكل جيد وتفرغ لكتابته تماما واعتزل الدنيا من اجل إتمامه لكان قد قام بالمطلوب منه وربما اكثر. أما ان يصبح المبدع ناقدا لاعماله. باحثا فى دروبها. رابطا بينها وبين الواقع الاجتماعى الذى تتكلم عنه. فذلك قد لايكون مقبولا. وإن تم ربما تكون نتائجه عكسية.

إن السؤال هو: ماذا كان سيفعل المبدع لو لم يكن متاحا له كتابة مقال ينفث به عن نفسه. يحرك قلمه على الورق الابيض. يعبر عن نفسه به. فى هذا الوقت الذى لايجرؤ الانسان على الدخول فى نص ادبى سواء كان كبيرا أم صغيرا. لست من الذين يفرقون بين انواع الكتابة حسب الشكل الذى تتم به. فكتابة المقال ربما كانت شكلا آنيا لمواجهة اللحظة والتفاعل معها والتعامل مع جزئياتها بديلا للانسحاب التام. لكن هذه الكتابة الانية لايمكن أن تحل وتصبح بديلا للكتابة الادبية.

سؤالى الذى ألف وأدور حوله: كيف تكون الكتابة الانتقالية؟ هل معنى هذا ألا تتوافر فيها الاشكال الفنية المفترض وجودها فى النص حسب شكله الفني؟ أم أن علاقة النص باللحظة المكتوب عنها يمكن ان تعفى صاحبها من تمثل الشكل الفني؟ بشكل اكثر تحديدا هل يضحى المبدع بجماليات الكتابة ويتنازل عن عنصر المتعة الفنية الناتجة عن القراءة من اجل ان يكون موجودا فى قلب اللحظة؟

من باب التذكير فقط اقول ان ثورة 1919 وجدت اديبين يكتبان عنها من بين الكثيرين الذين ظهرت الثورة فى رواياتها. لكنى متأكد ان رواية: عودة الروح لتوفيق الحكيم كتبت سنة 1928 ونشرت سنة 1932. أى أن الكتابة تمت بعد تسع سنوات من الثورة. والنشر تم بعد ثلاثة عشر سنة من الثورة. وأن ثلاثية: بين القصرين. قصر الشوق. السكرية بدأت عملية كتابتها سنة 1949 اى بعد ثلاثين سنة من الثورة. ونشرت سنة 1959 اى بعد اربعين سنة من الثورة.

أكثر من هذا إن رواية نجيب محفوظ: السمان والخريف. وهى رواية بطلها من فلول ثورة يوليو. كتبت بعد قيام الثورة بعشر سنوات.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل