المحتوى الرئيسى

القابضون على الجمر

07/14 08:20

كتبت مرتين عن أخى المرحوم د. ياسر الجندى، الطبيب الذى تبتل فى محراب الطب، وقصر حياته على مساعدة المرضى الفقراء، ثم استرد الله وديعته الغالية منذ ثمانية أعوام، وعمره 44 عاما. وكتب عنه أيضا د. أحمد خالد توفيق، كاتب الشباب المعروف، منذ ثلاث سنوات تقريبا، مقالاً مميزاً هزّ أفئدة كل من قرأه.

 ثم أعاد نشره أحد الأطباء على موقع هيئة التدريس بجامعة طنطا على شبكة التواصل الاجتماعى (فيس بوك)، فبدأ زملاؤه وتلاميذه يكتبون ذكرياتهم عنه، مثل الرواية متعددة الرواة التى يكشف كل واحد جانباً منها، فبدأت الصورة تكتمل بالتدريج.

كيف تحطم قلبه الرقيق حين رأى بؤس المريضات الفقيرات فى المستشفى الجامعى، فقرر أن يكرّس لهن حياته! كيف كان لا ينام إلا ساعات قليلة، ويتبرع بالدم خمس عشرة مرة فى العام، وهو رقم قاتل، ولكنه يرى المريضة تموت، فيطيش صوابه! كيف أنفق ماله الخاص حتى آخر قرش على علاجهن!

 كيف واصل الليل بالنهار، واعتبر كل مريضة مشكلته الخاصة! كيف كان مجلسه علما وعملا، لا يُرفّه عن نفسه، لا يتنزه مع أصدقائه! عشرون عاما من التعب والإرهاق والذبول وترويض النفس على المكاره حتى مات.

■ ■ ■

مات ياسر الجندى منذ ثمانى سنوات، لكن المدهش أن تأثيره الآن صار أرسخ وأقوى. هذا ما كشفته التعليقات التى قرأتها، فسالت دموعى أنهاراًً. ليت مساحة المقال كانت تسمح بنشرها. كل واحد من الأطباء (الذين صاروا أساتذة الآن) راح يحكى عن ذكرياته معه، وتأثره بإخلاصه وتجرده، والقدوة التى مثّلها له، حتى إنهم فى النهاية قرروا التبرع من أموالهم لإنشاء جائزة مالية ضخمة تحمل اسمه وتُقدّم كل شهر للطبيب المثالى.

على أن التعليق الذى هزنى من الأعماق كان للدكتور خالد إسماعيل، أستاذ الجراحة، الذى شاهده فى الرؤيا بعد صلاة الفجر، فسأله فى استغراب: «د. ياسر! انت مش مت؟!»، فإذا به يرد مبتسماً مُستبشراً، والنور ينبعث منه: «أمّا كرم ربنا علىّ كبير أوى أوى أوى»، واستيقظ من غفوته ودموعه تبلل وسادته.

أنا أيضا لم يكن ممكنا ألّا أبكى وأنا أقرأ هذه البشرى. إذن فلم يكن سهر الليالى بلا ثمن! إذن فلم يكن تعبه عبثا! إذن فلم يكن ذبوله وإرهاقه وصبره على المكاره بلا أجر! وما أعظم الأجر وأتفه عشرين عاما من التعب أمام جنة عرضها السماوات والأرض. أسأل ذا الجلال والإكرام أن يجعلها رؤيا حق.

■ ■ ■

أكتب هذا المقال لتعلموا أن الجهد لا يضيع وإن بدا فى لحظة أنه جهد ضائع، مصداقا لقوله تعالى (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ) صدق الله العظيم.

أهدى هذه البشرى للقابضين على الجمر، إلى كل رجل شريف يغمس الخبز بالتعب ولا يقبل المال الحرام على عياله، إلى كل امرأة تتحمل مسؤولية أبنائها بقوة وصبر، إلى كل فتاة فضّلت الحلال الصعب على السهل الحرام، إلى أبناء ياسر الجندى الروحيين فى كل زمان ومكان، أهديهم هذا المقال.

[email protected]

 

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل