المحتوى الرئيسى

مصر تَطْلُب مزيداً من الثورة!بقلم:جواد البشيتي

07/14 00:45

مصر تَطْلُب مزيداً من الثورة!

جواد البشيتي

من يحكم مصر الآن؟

إنَّكَ يكفي أنْ تسعى وتجتهد في إجابة هذا السؤال، الذي هو "سؤال الساعة" في "ميدان التحرير"، حتى تتأكَّد أمْراً في منتهى الأهمية (السياسية والثورية) هو أنَّ شخوص نظام الحكم (مع رأسه، أو رئيسه) يمكن أنْ يتغيَّروا من غير أنْ يتغيَّر نظام الحكم نفسه؛ لكنَّ نظام الحكم لا يمكن أنْ يتغيَّر من غير أنْ تتغيَّر، في الوقت نفسه، شخوصه (مع رأسه، أو رئيسه).

مصر الآن بلا رأسٍ، أي بلا رئيسٍ، فالرئيس مبارك المعزول المخلوع هو حتى الآن آخر رئيس لمصر، التي عَرَفَت من مثالب ومساوئ "نظام الحكم الجمهوري الرئاسي"، وفي عهد مبارك على وجه الخصوص، ما جَعَل تمييزه من نظام الحكم الدكتاتوري الأوتوقراطي الاستبدادي الشمولي الفردي أمْراً من الصعوبة والاستعصاء بمكان.

ليس مبارك الشخص، وإنَّما نظام (وخواص نظام) الحكم الرئاسي المعمول به في الدول العربية، هو ما جَعَل "سيادة الرئيس محمد حسني مبارك" فرعوناً، يَشْعُر (ويُشْعِرونه) أنَّه الأكبر والأعظم من مصر، وأنَّه الذي كان ولم تكن مصر، وأنَّه الباني الحقيقي لهرم خوفو، فإذا انتهى انتهت مصر؛ والعالم كله، وعلى رحبه واتِّساعه، يظلُّ أصغر من عالمه هو؛ ولقد نجحت الثورة المصرية في إدخاله التاريخ بصفة كونه آخر فراعنة مصر.

نظام الحكم الرئاسي كان اللبوس الذي يلبسه الحكم الدكتاتوري الاستبدادي الأوتوقراطي الشمولي؛ ولقد حان له أنْ ينتهي، وإلى الأبد، فلا نظام حكم ديمقراطياً حقيقياً في عالمنا العربي إلاَّ الحكومة البرلمانية الحزبية المنتخبة، ولا انتخابات ديمقراطية حقيقية إلاَّ التي تُجْرى وفق نظام التمثيل النسبي، والذي بموجبه يغدو الوطن كله دائرة انتخابية واحدة كبيرة، فنتغلَّب على كل انتماء يُفْسِد الحياة الديمقراطية، منطقاً وواقعاً.

لقد ذهب الرئيس الذي بفضل خواص نظام الحكم الرئاسي في مصر (وغيرها من الجمهوريات الرئاسية العربية) كان يرجع إليه الأمر كله؛ ومع ذلك، بقي نظام الحكم نفسه، من حيث الجوهر والأساس؛ وأحسب أنَّ المجلس العسكري الأعلى برئاسة المشير طنطاوي، والحكومة برئاسة شرف، يَصْلُحا (في مواقفهما وأعمالهما) تأكيداً، لا نفياً، لبقاء نظام الحكم نفسه حيَّاً يُرْزَق، ولضرورة الاستمرار (من ثمَّ) في الثورة المصرية، والمضي فيها قُدُماً، حتى يَسْقُط نهائياً نظام الحكم القديم، ولا يبقى منه حجراً على حجر؛ فالثورة الناقصة، غير المكتملة، والتي تتوقَّف في منتصف الطريق، أو على بُعْد شبر من هدفها النهائي، أو نصرها النهائي، إنَّما هي ثورة تَحْفُر قبرها بيديها، وتُمهِّد، وتُقصِّر، الطريق إلى "الثورة المضادة"، التي من الوهم الخاص، والقاتل لصاحبه، أي للثورة المصرية، أنْ يُظَنَّ ويُعْتَقَد أنَّ قواها قد خارت وتلاشت ونفدت؛ فإنَّ لها (أي للثورة المضادة) الآن من قوَّة الدافع والحافز ما يشدِّد الحاجة إلى مزيدٍ من اليقظة الثورية، وإلى التفكير في موضوعية، توصُّلاً إلى إجابة "أسئلة الساعة"، والتي في مقدَّمها: "ماذا نريد الآن؟"، و"ما هي الأولويات من ثمَّ؟"، أو "كيف نتوصَّل (أو يمكن أن نتوصَّل) إلى ما نريد؟".

وإنَّها لساعة ثورية، مصيرية، حاسمة، تَحْظر على الثوَّار وقادة الثورة في مصر إساءة الفهم والتقدير، وارتكاب الأخطاء، والمغالاة في حُسْن الظَّن، وفي إبداء النيِّات الحسنة، وتُلْزِمهم النأي بمواقفهم وأقوالهم وأفعالهم عن الثِّقة المُطْلَقة المجرَّدة العمياء؛ فإنَّ هذه الثِّقة، وبُحْكم صفاتها تلك، تأتي بالغَفْلة المؤدِّية حتماً إلى الهلاك.

إنَّني لا أدعو إلى إعلان نهاية الثِّقة بالمجلس العسكري الأعلى ورئيسه المشير طنطاوي، وإنْ اسْتَشْعَرتُ بأهمية وضرورة أنْ يأتي قول الثورة وفعلها، من الآن وصاعداً، بما يُظْهِر ويؤكِّد أنَّ ثقتها بالجيش، وبالجنود وصغار الضبَّاط، تفوق كثيراً، وكثيراً جدَّاً، ثقتها بهذا المجلس الذي لدى أعضائه من المصالح الشخصية، أو الفئوية الضيِّقة، ومن قوَّة الدافع إلى الاحتفاظ بعلاقة قوية ووطيدة مع الولايات المتحدة، ما يُبرِّر الخوف من أنْ يكونوا، في سعيهم الخفي، قوَّة لإنقاذ نظام الحكم القديم؛ وإنَّ إفراط الشعب والثورة في الثقة بهذا المجلس، وبحكومة شرف، قد تسبَّب بتضاؤل الضغط الشعبي الثوري، وبتعاظُم واقعية احتمال تحوُّل المدِّ الثوري إلى جَزْرٍ.

وإيَّاكم أنْ تتوهَّموا أنَّ المجلس العسكري الأعلى الذي يحكم مصر الآن، أو الذي من خلاله تُحْكَم مصر الآن، يريد انتصاراً للثورة يَزِنُ أكثر من خَلْع مبارك، وتحقيق جُمْلَة من الإصلاحات الليبرالية، التي هي، لجهة وزنها وحجمها وأهميتها، قطرة في بحر ثورة الشعب المصري.

إنَّني لستُ من دعاة الصدام مع الجيش؛ لكنَّني ضدَّ الرومانسية الثورية في الموقف من قيادته العليا، وضدَّ الاستخذاء لوهم أنَّ المؤسَّسة العسكرية يمكن أنْ تنحاز إلى ثورةٍ بأهمية وعظمة ثورة الشعب المصري، فشعار "الجيش من الشعب" لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، أنَّ المجلس العسكري الأعلى هو أيضاً من الشعب، بمعناه السياسي الثوري الآن؛ وإنَّ تاريخ الثورات الشعبية التاريخية الظافرة ليؤكِّد لنا أنَّ الثورة لا تنتصر من خلال انحياز المؤسَّسة العسكرية إلى جانبها، وإنَّما من خلال وصول المدِّ الثوري إلى السواد الأعظم من الجيش، فقيادته العسكرية العليا تظل جزءاً لا يتجزأ من نظام الحكم الذي تستهدف الثورة إطاحته والقضاء عليه.

ثورة الشعب المصري، وبصفة كونها مركز الزلزال الثوري الشعبي الديمقراطي القومي العربي، مدعوة الآن إلى أنْ تعيد صياغة مطالبها بما يجعل هذه المطالب من نمط "المطالب الانتقالية"، أي المطالب البسيطة في ظاهرها؛ لكن المتعذَّر على نظام الحكم تلبيتها في الوقت نفسه. وهذا النوع من المطالب هو ما يبقي الثورة الشعبية محتفظةً بطاقتها، ويكسبها مزيداً من الطاقة؛ ذلك لأنَّ نظام الحكم لا يمكنه تلبية "المطالب الانتقالية" من غير أنْ يحفر قبره بيديه، ولا يمكنه، في الوقت نفسه، رفض تلبيتها من غير أنْ يسكب مزيداً من الزيت على نار الثورة.

وأحسب أنَّ مطلب "الجمعية التأسيسية" المنتخَبة التي تتوفَّر على إعداد دستور جديد للبلاد هو في مقدَّم "المطالب الانتقالية" الذي ينبغي لقيادة الثورة المصرية أنْ تظل مستمسكة به.

أمَّا الوسيلة التي بها يصبح ممكناً الانتصار لهذا المطلب، ولغيره من المطالب الانتقالية، فهي "الاعتصام الشعبي المليوني والدائم" في ميدان التحرير، وفي سائر ميادين العاصمة والمدن، مع "الإضراب العام"، حتى يستخذي المجلس العسكري الأعلى لمشيئة الشعب وثورته، رافعاً "الراية البيضاء" لعلمه أنَّ اللجوء إلى الحراب لن يفضي إلاَّ إلى جلوسه هو عليها؛ وهذا ليس بانحياز من جانب المؤسَّسة العسكرية إلى الشعب وثورته، وإنَّما خضوع واستخذاء للمشيئة الشعبية المعبَّر عنها بتلك "المطالب الانتقالية".

الشعب لا بدَّ له الآن من العودة إلى الثورة؛ والثورة لا بدَّ لها من العودة إلى الشعب، الذي يُعرَّف الآن، ويجب أنْ يُعرَّف، سياسياً، لا ديمغرافياً؛ فإنَّ الشعب في مصر هو الآن جموع المصريين الثائرين المحتشدين في ميدان التحرير وأشباهه في سائر مصر، ولو لم يكونوا أكثرية المصريين العددية؛ فأين هي الثورة الشعبية (التاريخية) التي صنعها الشعب بصفة كونه "الأكثرية العددية"؟!

لقد اقتحم "الشعب"، والذي يسمَّى "الشارع"، في كثير من البلاد العربية، المسرح السياسي، وأصبح لاعباً سياسياً من الوزن الثقيل، وجزءاً لا يتجزَّأ من السياسة في عالمها الواقعي الملموس، وكأنَّه الكائن الذي خُلِق من طين لازب، وظلَّ على هذه الحال قروناً من الزمن، حتى جاءت "الثورة"، ونفخت فيه من روحها، فدبَّت فيه الحياة ضدَّ حكَّام يمثِّلون خير تمثيل الموت الحضاري والفكري والسياسي والأخلاقي..، أو "إله الموت" عزرائيل، لجهة صلتهم بشعوبهم ومجتمعاتهم.

و"الشعب"، بصفته كونه كائناً سياسياً (عربياً) جديداً، خرج من أحشاء حالة الموت التاريخي التي عاشتها الأُمَّة زمناً طويلاً، يختلف عن سائر الكائنات السياسية والحزبية لجهة كونه لا يعرف من الكلام السياسي إلاَّ الجامع المانع منه، وخيره، أي ما قلَّ ودلَّ، فـ "برنامجه السياسي" لا يتألَّف إلاَّ من بضع كلمات، منها على سبيل المثال، أو أهمها، كلمة "ارْحَل!"، التي تكاد تشبه كلمة "اقْرَأ"، لجهة ضآلة عدد حروفها، وغزارة معانيها، وأهمية أثرها وتأثيرها.

ومع أنَّ آية "ارْحَل" نزلت بلسان عربي (شعبي) مبين فقد استغلق على الحاكم العربي، الذي كلَّما خَطَب أثبت أنَّه الضديد للغة "الضاد"، فَهْم معانيها ومدلولاتها، فاقتضى هذا القصور، الذي يعانيه فكراً ولساناً، أنْ يُشْرَح له ويُفَسَّر معنى "ارْحَل"، فَفَهِم وأدركَ، بعد جهد جهيد، أنَّ "ارْحَل" تعني أنْ يَرْحَل عن سدة الحكم، لا عن البلد؛ لأنَّ "المحكمة" أعِدَّت له، وتنتظره انتظار جهنَّم لأصحابها.

و"الشعب" مدرسة جديدة في عِلْم السياسة، تجعله في الظاهر بعيداً عن "السياسة"، منطقاً وواقعاً؛ لكن في الباطن يتأكَّد، في استمرار، أنَّه ضاربٌ جذوره عميقاً في تربتها؛ فهو لا يطيق المناورات والألاعيب الدبلوماسية، ما دقَّ منها وما عَظُم، ولا يَفْهَم "السياسة" على أنَّها "فن الممكن"؛ وكيف له أنْ يفهمها كذلك وهو الذي أثبت وأكَّد أنَّ "سياسته" هي "فن جَعل المستحيل ممكناً، فواقعاً نابضاً بالحياة".

كان كل مُغْتَصِب للسلطة (مِمَّن يحقُّ له وحده امتلاكه، ألا وهو الشعب) يستهل بيان اغتصابه للسلطة بما يشبه الآية "باسم الشعب.."؛ وكان "الشعب"، لجهة موقف الحاكم منه، كالمرأة يعبدها الرجل ما ظلَّت مستعبَدة له؛ فإذا شقَّت له عصا الطاعة، ووعت حقوقها، وسعت إلى نيلها، أصبحت، في موقفه منها، الشيطان الرجيم.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل