المحتوى الرئيسى

مخطوطة "مسلية الغريب بكل أمر عجيب"

07/13 14:53

بقلم: الشيخ/ خالد رزق تقي الدين

مخطوطة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله البغدادي الدمشقي "مسلية الغريب بكل أمر عجيب"، تأصيل تاريخي ووصف متميز لعالم جليل وداعية من الطراز الأول، والشيخ البغدادي عالم أديب ذو مواهب متعددة، كتب الشعر والأدب، وأتقن العلوم المختلفة إضافة للعلوم الشرعية، وتمكن من  اللغتين العربية والتركية، وكان محبًّا للسفر والتجوال، ولقد سافر إلى الدولة العلية العثمانية في الأستانة في عهد السلطان عبد العزيز الأول؛ حيث مارس الدعوة وترقى في المناصب ليصير إمامًا للبحرية العثمانية، وحينما علم أن هناك سفينتين ستسافران إلى البصرة مرورًا برأس الرجاء الصالح طلب الإذن لمرافقة إحداهما، وكان ذلك في عهد أمير البحار محمد صالح آتيش باشا، وكان قصد الشيخ كما ذكر في مخطوطته: "فطلبت المسير بإحداهما قصدًا للسياحة والتأمل بكل ساحة، إذ هي تزيد اليقين ويتأكد بالنظر لعظمة القدير المبين"، وقد بدأت الرحلة في أوائل جمادى الأولى سنة 1282م هجرية، وحينما وصلت السفينتان إلى المحيط الأطلسي هبَّت عاصفة قوية وحملتهما إلى بلاد بعيدة تبين بعد ذلك أنها مدينة "ريو دي جانيرو"  عاصمة دولة البرازيل في ذلك الوقت، وهناك التقى مجموعةً من المسلمين البرازيليين من أصول إفريقية، والذين ألحوا عليه في البقاء لتعليمهم أمور الدين الإسلامي، وقد قبل الشيخ البقاء معهم، وذلك بعد مرور ثلاثة أيام كان قد قضاها في التشاور مع قائد السفينة حول وضع المسلمين في البرازيل والجهل الذي أصابهم، وتبديل شعائر دينهم، يقول الشيخ البغدادي: "وهناك تركت البوابير لأجل تعليم المسلمين المقيمين بهذه البلاد محتسبًا لوجه رب العالمين".

 

هذه المخطوطة تُعدُّ بلا شك عمدة للدارسين والمتابعين لتاريخ المسلمين في البرازيل، لأن من كتبها عالم جليل وأديب مخضرم، استطاع أن يصف كل ما رأى، وأن يضع تصوراته لإنقاذ الجالية المسلمة في ذلك الوقت، لقد أضافت هذه المخطوطة بُعدًا آخر على تاريخ الإسلام والمسلمين في البرازيل؛ حيث كان الاعتقاد السائد لدى الدارسين لتاريخ الإسلام والمسلمين في البرازيل أن قصة المسلمين الأفارقة الأوائل الذين جلبهم البرتغاليون للبرازيل للعمل على استصلاح أراضيها، تنتهي بانتهاء ثورة 1835م في ولاية باهيا والتي كانت نتيجتها الفشل في تحقيق أهدافها لتحرير العبيد وإقامة مملكة إسلامية.

 

وحين وصلتنا هذه المخطوطة استكملت حلقة مفقودة في تاريخ المسلمين في البرازيل، وجاءت لتؤكد أن الإسلام استمر موجودًا وبفعالية داخل دولة البرازيل، وإن كان أتباعه يمارسونه سرًّا لسنين طويلة بعد فشل هذه الثورة، ولقد حاول المسلمون خلال هذه الفترة أن يوحدوا صفوفهم وكان لهم تواصل منظم بين تجمعاتهم المنتشرة في دولة البرازيل الكبيرة، ومارسوا شعائر دينهم التي شابها الكثير من التحريف؛ نتيجة قتل مشايخهم واندساس بعض اليهود بينهم والذين عملوا على تبديل أوليات الدين الإسلامي.

 

زيارة الشيخ عبد الرحمن البغدادي للبرازيل عام 1866م تُعتبَر أول زيارة لعالم عربي مسلم للمسلمين في دولة البرازيل، بل نستطيع القول إنها أول زيارة لعالم مسلم للأمريكتين، ولقد دون الشيخ خلالها ووصف بدقة أخلاقياتهم وحياتهم وممارساتهم وتفاعلاتهم المختلفة، وحاول من خلال برنامج تربوي إسلامي التغلب على معظم المصاعب والأمراض الأخلاقية التي أصابت عددًا كبيرًا من مسلمي البرازيل.

 

الجهود العلمية لدراسة المخطوطة:

لقد ظهرت المخطوطة منذ مدة قصيرة وما زالت تحتاج للكثير من الجهود لدراستها من جوانبها المختلفة، وكذلك دراسة الحقبة التاريخية التي زامنت كتابة هذه المخطوطة سواء في البرازيل أو العالم الإسلامي، وخصوصًا إفريقيا الموطن الأم لمسلمي البرازيل، وسأحاول من خلال هذه الدراسة تتبع أهم الدراسات والكتابات التي تحدثت حول هذه المخطوطة.

 

كتاب "المسلمون الأوائل في البرازيل":

وهو كتاب صدر باللغة التركية قام الأستاذ أحمد شرف العنتبلي بترجمة المخطوطة من اللغة التركية إلى اللغة العربية وقال معقبًا: "لقد ترجمت قصة رحلة السيد عبد الرحمن إلى اللغة التركية والتي لم يكن موجودًا عنها معلومات كافية لكي يعرفها كل شخص؛ وبشكل عام فقد أظهرت وأوجدت تناقضًا بين الأصل والترجمة وشحت الأماكن التي رأيت أنها تتعلق بالموضوع"، ولقد أعد الترجمة على شكل قصة الأستاذ أحمد أوزابل، وقامت بنشرها مكتبة  23 عام 2006م في إستانبول بتركيا.

 

 كتاب مسلية الغريب بكل أمر عجيب:

والكتاب هو دراسة تحليلية عن رحلة الإمام البغدادي، وقد قامت بنشره مكتبة أمريكا الجنوبية- الدول العربية باللغات الثلاث العربية والبرتغالية والإسبانية عام 2007م، وقد تم إعداد الكتاب بناءً على توصية اجتماع رؤساء الدول اللاتينية والعربية في إعلان الدوحة عام 2009م، وقد قام بتحقيقه الدكتور باولو دانيال إلياس فرح، أستاذ الأدب بجامعة ساولو البرازيلية، وقدم له وزراء خارجية البرازيل وفنزويلا والجزائر، وكذلك وزير الثقافة البرازيلي جيلبيرتو جيل.

 

وقد ذكر رئيس مؤسسة المكتبة الوطنية في ريو دي جانيرو "مونيز سودريه" عن كيفية اكتشاف المخطوطة: "اشترى هذه الوثيقة الخطية ألماني من أيدي تركي، ووصلت مكتبة برلين ومنها إلى يد الدكتور باولو فرح".

 

ولقد توسع الدكتور باولو فرح في تحليل الجانب الثقافي والوصفي في المخطوطة، وكان تركيزه ضعيفًا على الجانب الديني والدعوي لعمل الشيخ بين المسلمين.

 

كتاب صراع اليهودية والإسلام في البرازيل:

والكتاب قراءة في أدب عبد الرحمن البغدادي، ألفه الدكتور خالد محمد أبو الحسن مدرس اللغة التركية بآداب سوهاج، وقامت بنشره المكتبة المصرية عام 2009م، وواضح من دراسة الدكتور خالد أنه لم يصل إلى المخطوطة، وإنما كان عمله قائمًا على ترجمة كتاب "المسلمون الأوائل في البرازيل" من اللغة التركية للغة العربية: "وحينما بحثت في الأمر وجدت كتابًا (باللغة التركية) لمؤلف بغدادي الأصل يدعى عبد الرحمن أفندي البغدادي عاش في كنف الدولة العثمانية، وذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر"، وقد أجاد الدكتور في تحليل الإساءات والتحريفات التي أدخلها المترجم اليهودي على الدين الإسلامي، وكان هذا اليهودي قد رافق الشيخ البغدادي مدة من الزمن قبل أن يكتشف أمره وكان صلة الوصل بينه وبين مسلمي البرازيل في المرحلة الأولى من إقامة الشيخ البغدادي وسط المسلمين.

 

"مسلية الغريب.. رحلة إلى أميركا الجنوبية" لعبد الرحمن البغدادي:

وقام بتحقيقها الجزائري عبد الناصر خلاف وقد حصلت على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة  لعام 2009م والذي يقيمه المركز العربي للأدب الجغرافي- ارتياد الآفاق، ولم أستطع الحصول حتى الآن على صورة من هذا البحث.

 

الشيخ عبد الرحمن البغدادي في بلاد السامبا:

وهو تحليل قمت به بناء على المخطوطة التي حصلت على صورة منها من الدكتور باولو فرح، وقد تم نشر الدراسة على ثلاثة أجزاء على أكثر من موقع على شبكة الإنترنت، وسأقوم بتنقيح الدراسة وإخراجها على شكل كتاب باللغات الثلاث العربية والبرتغالية والإسبانية، لأنها مخطوطة جديرة بالتأمل والدراسة من أكثر من زاوية، وتحتاج لكثير من التحليل، خصوصًا أن الشيخ البغدادي- رحمه الله- وصف وصفًا دقيقًا لكل ما مر به وسمعه وشاهده خلال هذه الرحلة، وهي بلا شك مفتاح لدراسة أعمق لهذه الفترة التاريخية، وهذا سيساعد على إعادة صياغة تلك الفترة التاريخية التي أهملت ولم تُوفَ حقها من الدراسات العلمية. 

 

 

 ندوة "مسلمو البرازيل قاوموا عمليات التنصير في القرن 19":

وهي عبارة عن ندوة ألقاها الدكتور مايكل جوميز، أستاذ التاريخ والدراسات الإسلامية والشرق أوسطية بجامعة نيويورك، نظمتها كلية الدراسات الإسلامية بقطر في شهر مارس 2011م، وقد جاء في التقرير الذي تحدث عن ندوته: "وعرض جوميز لمخطوط الرحالة عبد الرحمن البغدادي "مسلية الغريب" والذي زار باهيا عام 1880م، واجتمع مع المسلمين وتحدث معهم عن دينهم 1880، ورأَى بعض الآثار الإسلاميَّة يعني ما زالت موجودةً في بعض المسلمين العبيد، الذين كانوا يقومون ببعْض الصَّلوات، وقال في مخطوطه: لمَّا نزلْنا على سواحل السنتس- مدينة ساحلية- فأرادوا أن يصلُّوا فلمَّا أقاموا الصَّلاة جاء بعض العبيد وأخذوا ينظرون إليْهم، في اليوم الثاني ظنُّوا أنَّهم جاءوا ليستهزئوا بهم ويضحكوا عليهم، في اليوم الثَّاني هؤلاء العبيد جاءوا وشاركوا في الصلاة، وطلبوا منه أن يبقوا عامين معهم حتَّى يعلِّمَهم، فبقِي هذا الرَجُل حوالي سنتَين ثم كتب هذا الكتاب، والكتاب الآن بعد التَّبادُل الآن بين دوْلة البرازيل وبعض الدُّول العربيَّة أوْصَوا بأن يُطْبَع، وأظن أنَّه طُبع في مدينة الجزائر، وموجود قيْد التناوُل الآن، هذا التَّواجد القديم".

 

أرجو أن أكون قد ألقيت من خلال هذا المقال الضوء على عمل أدبي رائع لأحد علماء المسلمين الذين وهبوا أنفسهم للدعوة إلى الله، وتحملوا الكثير من المصاعب في ظروف صعبة كان البرتغاليون والكنيسة يعدون على المسلمين أنفاسهم، واستطاع هذا العالم الجليل خلال فترة وجوده أن يصحح الكثير من المفاهيم المغلوطة حول دين الإسلام، وأن يبعث روح العزة بين أبناء المسلمين، مما دفعهم لهجر الكثير من المعاصي والالتفات لتعلم العقيدة الإسلامية الصحيحة وشعائر الدين الإسلامي الحنيف، وقد أعطانا الشيخ البغدادي صورة عن كيفية عمل الداعية وسط الأقليات المسلمة، نسأل الله أن يتغمده بكامل رحماته، وأن يحفظ المسلمين في كل زمان ومكان.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل