المحتوى الرئيسى

النوبيون.. وحلم العودة إلي البحيرة

07/06 02:04

ولا أعرف مواطناً مصاباً بمرض حب الوطن مثل هذا المواطن المصري.. فهو يحلف بغربته ان ترك قريته في محافظة الغربية وسافر للعمل في احدي مدن القليوبية مثلاً.. فما بالنا ان ذهب للعمل في الاسكندرية مثلاً.. والغربة عند المصري نفسية أيضا وليست جسدية فقط، وليس غريباً أن يعرف المصري زميلاً مصرياً له، وان كان من قرية اخري من «لكنته» أي من كلامه وطريقة نطقه للكلمات، وبالذات عندما تتعدد اللهجات واللكنات في قري ونجوع الصعيد.

<< ولكنني أري النوبي اكثر المصريين التصاقا بقري النوبة القديمة وهو يتمسك رغم مرور عشرات السنين علي تهجيره من قراه القديمة علي ان يحفظ أولاده اسم القرية التي أخرج منها.. وموقعها علي الارض المصرية، حتي ولو كانت قد غرقت تحت مياه بحيرة السد العالي.. وكم عاني النوبي عندما سخر أحد محافظي اسوان من كثرة كلام أهل النوبة عن ضرورة العودة إلي قراهم.. اذ رد المحافظ إياه علي ذلك قائلاً «من يريد العودة إلي النوبة عليه ان يبحث عن قريته تحت مياه البحيرة.. بين القري الغارقة» وانا هنا أخفف من كلمات هذا المحافظ حتي لا أنكأ الجروح المملوءة بالملح في جسد كل نوبي..

<< وقد جمعني الفنان المستنير، ابن الجيزة الاستاذ صلاح السعدني، شقيق كبير الجيزاوية وكبيرنا الصحفي الكبير الراحل محمود السعدني، جمعني في برنامج تليفزيوني يقدمه في قناة مودرن مصر ومعي الاديب اللبيب حجاج حسن أدول، أحد مقدمي رافعي راية مطالب اهل النوبة، وهو قصاص مهموم بالقضية، استطاع ان يخرج بها إلي العالمية.. وكان معنا الفنان المطرب النوبي خضر المشهور عالمياً اكثر منه مصرياً.. بصوته الرخيم الحزين الذي يتفجر ألماً وشجناً وهو يغني لمحبوبته النوبة ولقريته الغارقة - هي ايضا - تحت مياه البحيرة..

أقول جمعنا العمدة صلاح السعدني - منذ أيام - في برنامجه لنناقش أوجاع النوبيين الماضية.. وأحلامهم المستقبلية في العودة إلي أرض الجدود..

<< والنوبي -حتي وإن اجبرته الظروف علي الهجرة من مصر والعيش في اوروبا وامريكا - يحن لقري الاجداد.. خصوصاً التي غرقت في الطوفان الاكبر بعد مشروع السد العالي وعددها 45 قرية كانت ملء السمع والبصر وأتحدي هل يتذكر طلبة مدارسنا اسماء 5 قري منها علي سبيل المثال.. رغم انها غرقت من نصف قرن فقط..

والنوبة تعرضت للطوفان بداية من بناء خزان اسوان عام 1902 ثم مرة اخري عندما تمت تعليته الأولي عام 1912 ثم التعلية الثانية عام 1933.. وفي هذه المرات صعد النوبي ببيوته وقراه من المنسوب الملاصق لمياه النيل إلي أعلي الجبال والتباب.. ولكن في نفس المواقع تقريباً.. ولكنه في المرة الاخيرة كانت الضربة القاضية.. فقد غرقت كل قري النوبة تحت مياه الطوفان الذيجاء.. ولن يذهب.. فغرقت بيوت الاحياء.. ومعها بيوت الموتي، مقابرهم..

<< ولن نقول أبداً إن النوبي يكره السد العالي وبحيرة السد العالي، حاشا لله.. فهو يعرف ان هذا وتلك فيهما حياة كل المصريين ولكنهم أيضا يريدون لأنفسهم أن يعيشوا أيضاً..

وهم يرفضون إبعادهم حتي في قري نصر النوبة قرب كوم أمبو.. ولكنهم يحنون إلي الحياة بجوار النيل الذي عاش بجواره الآباء والاجداد.. هم يحنون إلي مياهه يغسلون فيها همومهم دون أن يلوثوه.. كما يلوثه باقي المصريين.. وإذا كان عدد النوبين هو خمسة ملايين انسان.. فان من يعودون لن يتجاوز عددهم نصف المليون.. واكثر النوبيين يعيشون الآن في الاسكندرية حيث يعيش أغلبية اهل الصعيد.. سعياً وراء الرزق الحلال..

<< وإذا كانت فلسفة رفض عودة النوبيين للحياة بجوار النيل تقوم علي اساس الخوف من تلويث خزان مصر المائي، أي البحيرة، فإن العصر الحديث وتكنولوجيته تسمح باقامة قري عصرية غير ملوثة للبيئة سواء من مخلفات الحياة اليومية.. أو من الصرف الصحي، أو حتي من مخلفات الزراعة.

وبالمناسبة كانت قري النوبة اكثر قري اسوان انتاجاً وعطاءً في كل المجالات.. واذا كنت أحترم عشق النوبي في العودة إلي قريته النوبية.. فإنني أتمني أن يعرف شعب مصر، وبالذات الاجيال التي لم تعش عملية تهجير اهل النوبة عن قراهم حقيقية ما قدمه النوبيون لمصر كلها.. ولما كنا في عهد جديد، عهد ثورة يناير، كم أتمني أن نعيد كتابة تاريخ النوبة وعطاء اهل النوبة.. وان يحفظ شعب مصر كله اسماء كل تلك القري الغارقة تحت مياه البحيرة فهي بالفعل جزء غال من مصر، واعطت مصر الحياة.. حتي وان ماتت هذه القري.. فداء لمصر..

<< وشكراً يا عمدة مصر.. ايها الفنان الاصيل الذي لمع منذ «أيام الساقية والرحيل، وأبدع في ليالي الحلمية واكد مصريته في أرابيسك».. شكراً صلاح السعدني.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل