المحتوى الرئيسى

عن التاكسي القديم وأشياء أخري

07/05 01:23

عندما كتبت الأسبوع الماضي عن ذلك اللون الكحلي والأبيض الذي حملته عربات التاكسي القديمة مودعا لها قبل أن تغيب وتأخذ معها أحد أهم معالم العاصمة وسماتها المميزة‏,‏

فوجئت أن بعض الإخوة من القراء, لا أعرف كيف, راحوا يتحدثون عن التحضر الذي يستوجبه وجود التاكسي الأبيض والثورة التي قامت للقضاء علي العربات المتهالكة والتلوث والسياحة وغيرها. مع أن حديثي كان عن التمسك بالألوان فقط وليس الصاج القديم ولا الموتور المتهالك. باعتبار أنه لم يصل إلي علمي أن العربات الجديدة أبدت اعتراضا أن يكون لونها المميز هو الأبيض والكحلي, كما أن السيد العداد لم يصر علي الوجود إلا في عربات بيضاء فقط.

وما ذلك كله إلا لأن الملامح العريقة المميزة لمدينة من المدن ليست أمرا عابرا, وإذا جرؤت حكومة أو إدارة محلية أو غيرها علي النيل منها ثار الناس وفرضوا إرادتهم, وفي ميلانو الإيطالية, مثلا, أرادت الحكومة في ثمانينيات القرن الماضي أن تزيل الترام الخشبي القديم ولكن عامة الناس أبوا ذلك وقالوا إن الترام القديم هذا هو أحد السمات التي تمثل الذاكرة الجمعية لمدينتهم وأهلها. ومازال الترام القديم هذا يسعي هناك حتي اليوم. ويذكر أبناء جيلي هذا الترام بخشبه الأشقر المشرع من الجانبين بأرائكه ذات الشرائح ومقابضه النحاسية وسلمه النحيل وسنجته ذات الحبل المدلي عندما كان يمضي بطيئا وسائقه يضغط بقدمه علي زر كبير في الأرض فيصدر رنات لا يصدرها إلا بائع العرقسوس وهو يمضي وديعا بين الناس في شوارع القاهرة.

التراث المعماري والتفاصيل التاريخية العريقة لمدينة من المدن هو ميراثها الحضاري والروحي, ونحن عادة لا ننتمي للهواء الطلق ولكننا ننتمي إلي هذه الشواهد الحية من حولنا.

لقد عشنا طوال السنوات الماضية في حالة من القبح العشوائي, وهي ليست مصادفة أن أجمل ما نمتلكه من مبانينا القديمة الباقية التي نباهي بها لا فضل لنا فيها. حتي التماثيل التي تم استحداثها, لا تليق مقارنتها بما ورثناه. تأمل تمثال نهضة مصر الملهم الذي صنعه (محمود مختار 1902-1934) من الجرانيت الوردي والذي اكتتب المصريون بقروشهم لإقامته.. تأمل تمثالي سعد زغلول البرونزي بذراعه المرفوعة أمام الأوبرا الجديدة والآخر بمدينة الإسكندرية.. تأمل تمثال طلعت حرب (1867-1941) ومصطفي كامل (1874-1908) الذي أمر محمد فريد (1868-1919) بإقامته واكتتب من أجله فلاحو مصر بقروشهم وملاليمهم القليلة وصنعه الفرنسي ليوبولد سافين, ثم تأمل تمثال إبراهيم باشا الذي أمر به ابنه إسماعيل وصنعه الفرنسي الآخر كوردييه ونصبه في ميدان العتبة عام 1872 قبل نقله إلي مكانه الحالي عام 1882.

انظر إلي هذا كله من فضلك وانظرإلي ما أقمناها نحن. هذا تمثال طه حسين قائما مثل شوكة عالية ضائعة بين ما يطاولها من أعمدة الإنارة وأنت تمر من عند مدخل كوبري الجلاء دون أن تلحظه مهما فتشت, واذهب إلي ميدان عبد المنعم رياض وانظر إلي تمثاله وأدر وجهك حزنا بعد أن تري المحارب العظيم وهو يقف منكفئا هكذا وهو الذي لم نعرف له صورة إلا شامخا بوجهه المشرئب بالعزيمة والكبرياء, وقد زاحمته هو الآخر أعمدة الإنارة الحجرية المحيطة تنافسه كأنها تماثيل عليها الفوانيس مع أكتوبر الذي يعلوه, ثم اتجه إلي ميدان سفينكس المختنق من أسفل وأعمدته المزدحمة التي يعلوها كوبري مايو الأسمنتي, والتفت لتفاجأ بتلك الكتلة العجيبة المزنوقة وسط الزحمة واسمها نجيب محفوظ والتي عندما رآها الراحل العظيم ابتسم مسلما أمره لله وقال:

واضح إن اللي عمل التمثال ده, لم يقرأ لي غير رواية الشحات.

ونحن نمر بهذه التماثيل البائسة دون أن تقام بيننا وبينها أية صلة.

لذلك أطلب منك, بدلا من مرورك العابر بنهضة مصر وسعد زغلول وطلعت حرب وغيرها, أن تمنح نفسك الفرصة وتتأملها لدقائق, وأن تسمع ماذا تخبرك التماثيل وماذا يخبرك الفنانون أنفسهم.

قال (بيكاسو 1881-1973) وهو من هو: التماثيل تفكر, وإذا لم تكن تفكر ما فكرنا نحن إذ ننظر إليها. إنها توحي لنا بأفكارها, وأفكارها تستمدها من الفنانين صانعيها. وأفكار هؤلاء الصناع, هي المعاني التي أرادوا تجسيدها بعملهم. جرب, وسوف تري مختار يحدثك عن نهضة مصر.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل