المحتوى الرئيسى

قراءة تحليلية تربوية في مجموعة شهرزاد للكاتب يعقوب الشاروني - بقلم د. أميمة منير جادو

06/26 20:48

القراءة التحليلية والتأويلية لنصوص

مجموعة شهرزاد -من أدب الطلائع للكاتب يعقوب الشاروني - بقلم د / أميمة منير جادو

تقتصر رؤيتنا فى هذه الدراسة على تناول ثلاث محاور هى :

الفكرة العامة للحكاية أو ملخصها ، القيم والمضامين التربوية المُتضمّنة ، جماليات السرد .

حكاية رادوبيس

أولاً : الفكرة العامة للحكاية :

هى مُتشابهة إلى حد كبير مع فكرة " حكاية سندريللا " الشهيرة ، الفتاة الجميلة جدًّا التى تقع فى الأسر أو تعمل خادمة بشكل ما ، وتتحمّل الذل والعبودية دونما شكوى بل بصبر وتفان فى العمل وتتمتّع بجمال الخلق والروح والخلقة معًا فضلاً عن ذكائها مما يدعو لغيرة من حولها منها وإضمار الحقد والحسد لها وبالتالى تدبير المكائد ، ولكن رغم ذلك فإن الأقدار تنقذها وتقف بجوارها فتفقد ( فردة من صندلها ) تلك التى يعثر عليها الأمير ، فتروق له بشكل ما ، فيكرّس كل الجهود للبحث عن صاحبة هذا الصندل حتى يجدها أخيرًا ويتزوّجها ويُحرّرها ويتوجها أميرة لجواره .

والحكاية مُستلهمة من ( خُرافات أيسوب الشهيرة ) وقد وردت إشارات كثيرة لذلك من الكاتب نفسه أثناء الحكى دلالة على أمانته وعدم تنصله منها كما يُبرّر لنا دائمًا لماذا هو حريص على عدم تغيير بعض الأسماء التى وردت فى النص التراثى الأصلى .

ثانيًا : القيم والمضامين التربوية المُتضمّنة :

- تبدأ الرواية بالعبودية وتنتهى بالحرية مرورًا بمواقف التحوّل والمُصادفات والأقدار .

- التسليم بالقيم التكاملية للأضداد ... وحيث لا يُمكن أن يستقيم فى الحياة أحدهما فقط لأنها سُـنّـة الكون حيث يكتمل الحُزن بالفرح .. والقُبح بالجمال والخير بالشر والليل بالنهار والبداية بالنهاية والحياة بالموت .. الخ .

- أثار الشارونى قضيّة ( حوار الحضارات ) فمصر القديمة لم تكن مُغلقة على نفسها ، بل كانت عبر التجارة والأسفار والغزوات مُضطرّة للتعامل مع أجناس أخرى والتأثر بها والتأثير فيهم ( أمازيس حاكم مصر خصّص مدينة نكراتيس ليسكن فيها اليونانيّون لتوثيق العلاقات مع اليونان ) .

- الانتماء للوطن والاعتزاز بالحضارة المصرية القديمة : يقول عن ( كهنة هليوبوليس : " وهم أمهر الأطباء فى مصر بل فى الدنيا " ) ( ص3 ) .

إن كلمة ( فى الدنيا ) تمنحنا الفخر اللا نهائى بالحضارة المصرية الفرعونية القديمة .

- الخوف على الأطفال ، وتحذيرهم من اللعب ليلاً – خاصة – وحدهم ( لأنهم لا يملكون القُدرة على مواجهة الأخطار بمفردهم ) .

وهى قيمة تربويّة مُهمّة كُلّنا نعلّمها لصغارنا ( تم خطف رادوبيس فعلاً أثناء غفلتها ولعبها بالحديقة عندما غار قراصنة البحر على بلدتهم ) ففى النص على لسان رادوبيس ( ذات مساء لا أنساه ، وقد بلغت الثامنة من عُمرى ، كُنت فى الحديقة مُنهمكة فى مُراقبة فراشة ... ، لم أشعر بغروب الشمس وأن الظلام بدأ يحل … ، وفجأة وجدت شيئًا كأنه ثوب واسع يهبط فوق رأسى ! وقبل أن أتنبه إلى ما يحدث كان ذلك الثوب يغطى كل جسمى ، وشعرت بيد قوية تَلفُّهُ حولى بإحكام ، وبيد أخرى توضع فوق فمى تمنعنى من الصراخ وطلب النجدة بعدها شعرت أن هناك من يحملنى بين ذراعيه ثم انطلق يجرى ، ففقدت الوعى . وعندما أفقت نظرت من نافذة الغرفة ... ، فلم أر إلا الماء أمام بصرى ، واكتشفت أننى فوق سفينة وسط البحر وحولى رجال تظهر القسوة على ملامح وجوههم ) ( ص5 ) .

- تعليم الأطفال طاعة الأهل : خاصة فى عُمر مُبكّر لأنّهم يملكون الخبرة الحياتية الأوسع منهم ، يقول النص : ( كانوا يُحذّروننى من الخروج وحدى إليها – الحديقة – خاصة بعد غروب الشمس ، ولم أكن أفهم سببًا لتحذيراتهم ) .. وبعدما تمّ خطفها " بعد التجربة " تقول رادوبيس : ( وفهمت لماذا كانت أسرتى تُحذّرنى من الخروج إلى الحديقة خاصة بعد الغروب ، لكنّنى فهمت ذلك بعد فوات الأوان !! )

ولذا يُشير الكاتب عبر " النص " إلى وجوب التشدّد أحيانًا مع الأطفال فى المرحلة المُبكّرة من العُمر ، من قبيل الحرص على حياتهم ، لأن من الأخطار ما قد يُكلّف ( الإنسان / الطفل ) حياته كُلّها ...

وحيث لا يجوز مثلاً التهاون مع طفل يخرج للشارع بمفرده بين السيّارات / أو يلعب بأدوات كهربيّة أو حادّة ... الخ .

- يعود لينتقل إلى دور وقيمة " الإقناع فى التربية " وربط السبب بالنتيجة أو العلّة بالمعلول أو ما نسميه المنهج العلمى فى التفكير – منهج حل المُشكلات . فالفتاة فى موقف لاحق وكـ ( رد فعل لها إزاء الخطف ) قد امتنعت عن الطعام عنادًا وهى فى الأسر بعدما خُطفت ، يقول النص : ( لكن لصوص البحر كانوا حريصين على سلامة صحّتنــا ) ، ( كُنّا بالنسبــة لهم بضاعة، ولكى يرتفع ثمنها فــى أســواق العبيــد لآبد أن نتمتّع بالصحــة الجيّدة ) ( ص7 ) ، هذه هى المُقدّمة المنطقيّة لكى يضمنوا بيع الطفلة بسعر غال .. وهنا عبْر الحوار الجميل بين الطفلة والسيّدة المُشرفة على رعايتها يتضح الهدف ( الواعى ) الذى قصده الكاتب ، فيأتى الحوار بين رادوبيس والسيدة الحكيمة ( والتى ترمز للمربية هنا ) :

( قالت لى السيّدة : من مصلحتك أن تتوقّفى عن البكاء وأن تتناولى طعامك لكى يظهر جمالك ) ( ص7 ) .

( قُلت لها فى غضب : هل تحرصون أن يظهر جمالى لكى تحصلوا على أكبر ثمن لى عندما أباع فى سوق العبيد ؟! ) ( ص7 ) .

( قالت فى هدوء : كُلّما ارتفع ثمنك ضمنت أن تعيشي فى بيت أحد كبار الأغنياء ، فالفُقراء لا يدفعون كثيرًا ثمنًا لعبيدهم ) ( ص7 ) .

( قالت الطفلة : العبودية هى العبودية ، سواء كنتُ فى بيت غنى أو فقير ) ( ص7 ) .

( قالت السيّدة بنفس الهدوء : المُعاملة أكثر لينًا فى بيوت الأغنياء، وستجدين حولك كثيرًا من الخدم والعبيد ، فلا تتحمّلين وحدك الكثير من الأعمال الشاقة ) ( ص9 ) .

( ثم ابتسمت وقالت : ومن يدرى ؟ قد يُعاملك أحدهم كأنّك ابنته إذا أعجبه جمالك أو اكتشف ذكاءك ) ( ص9 ) .

ثم تأتى مراجعة الطفلة لنفسها وللحدث عبر " دراما المونولوج " لتقتنع وتتأثّر وتُمهّد للحل : ( استعدتُ حديث تلك السيّدة بينى وبين نفسى كلمةً كلمةً عدّة مرات ، .. قلت لنفسى : هذه السيّدة على حق ، لن أستطيع تغيير ما حدث ، لكنّنى أستطيع التأثير والتحكّم فيما سيحدث إلى أن أجد طريقًا أعود به إلى أهلى ) ( ص9 ) .

هذا الحوار من أجمل وأروع الحوارات التى يُمكن أن تدور بين طفلة وشخصية ما لتُثير منظومة قيم : الحل العلمى للمُشكلات ، والتفكير المنطقى ، والاختيار والإرادة والقُدرة على الصمود والتحدى ، والقُدرة على الإقناع ، والحوار مع الآخر بموضوعية وتقبل الرأى إذا جاء صوابًا .

لقد رسم الكاتب هنا الطفلة / الأنثى ذات " إرادة " ، ذات قُدرة على الاختيار بين " البدائل " ، ليست عنيدة مُتعصّبة فى عنادها ، ولكنّها شخصيّة مُطواعة مرنة ذكية تقارن بين المُعطيات والبدائل لتقرّر بنفسها ماذا ستفعل ، إنها ليست مُستكينة ولا مُتخاذلة ولا مُستسلمة رغم عبوديّتها ، بمعنى " إذا كان الصبر مفروض عليك فلتصبر باختيارك ، فإن فعل الإرادة يمنح الإنسان الأمل والقوة ويُعينه على التحدى " .

- يُشير النص إلى قيمة " اقتران الأزمة بالفرج " ، أو أن التقبّل الهادئ الواعى والموضوعى للأمور يُساعد على سلامة الوصول إلى حل ، وحيث العناد والتعصّب لا يحل المُشكلة بل يعقدها .

يقول الكاتب على لسان رادوبيس : ( واستقبلتُ الصباح بابتسامة مُشرقة على وجهى وتناولت طعامى بشهيّة ) ( ص9 ) ، إن الطفلة قرّرت ونفّذت وأحلت قيمة ( التفاؤل ) بدلاً من قيمة ( التشاؤم ) لكى تواصل حياتها بنجاح ( إنها أيضًا قيمة التكيف مع الواقع الجديد لقهره بدلاً من الاستسلام لليأس ) حتى تفرجها الأقدار ، وتنطوى على قيمة ( الصبر على الابتلاء ) أيضًا .

وفى محاولة الكاتب للتأكيد على ( إرادة الاختيار ) ، يقول مُتابعًا الحديث على لسان رادوبيس : ( فما دام مصيرى أن أباع فى سوق العبيد ، فقد قرّرتُ ألاّ يشترينى إلاّ أغنى الأغنياء ) ( ص9 ) .

وللوقوف على وعى الكاتب بقضية الاختيار والإرادة التى طرحها وأنّها لم تأت جُزافًا ، نقرأ السطر التالى على لسان رادوبيس أيضًا : ( إنّنى أدهش الآن كيف فكّرت على هذا النحو فى سنّى تلك الصغيرة ، لكن الغريب أنّه تحقّق لى ما أردت ) ( ص10 ) .

إذن فالكاتب يُثير فى الأطفال وعن " وعى كامل " مسألة الإرادة والصمود والتحدّى والاختيار السليم حتّى فى الأزمة ...

وهو توجه حديث فى مناهج الإدارة يُعرف بـ " إدارة الأزمات " وأحد أساليبه : إدارة المشاعر والعواطف ، إدارة الوقت ، وإدارة الحوار والعلاقات .

نعم فإن الشارونى يُقدّم للطفل حلولاً بسيطة ليتعلّم كيفيّة " إدارة الأزمات " فى المُستقبل ، إنّه يطرحها تلقائيًّا عبر القص السردى المُحنّك والتلقائى ، وعبر خبراته التربوية المُتراكمة ، ومخزونه الثقافى والتعليمى عبر تعامله مع الأطفال .. إن الكاتب استطاع بمهارة أن يُقدّم قيمة تربويّة جديدة خلال موروث تراثى هو " إدارة الأزمات " بما تنطوى عليه أساليب مُتعدّدة كما سنرى .

وتستمر الطفلة " رادوبيس " تدير أزمتها بوعى وبلا تذمر ، بل فى هدوء حتى يأتى الفرج ... ولعل هذا يُذكّرنا بقول الشاعر : " ضاقت حتى استحكمت حلقاتها " ، " ولمّا استحكمت حلقاتها فُرجت ظننتُ أنها لن تفرج " .

ما زال النص يطرح كيف أدارت الطفلة أزمتها بوعى ، تقول رادوبيس : ( عندما توقّفت السفينة فى ميناء بعيد ، وعرضونى للبيع ، فإن جمال وجهى الذى أبرزته سلامة صحّتى ، وإجاباتى المُتزنة العاقلة عن أسئلة من تقدّموا لشرائى ، جعلت ثمنى لا يقدر عليه إلاّ رجل شديد الثراء ، اشترانى ، ......... واكتشفت أنه اشترانى لأكون زميلة لعب لإحدى حفيداته ... ووجد أن صحبتى لحفيدته قد تُخفّف عنها آلام المرض وتُسلّيها ... كنت أقرأ لها الكُتب والقصص وأغنى وأرقص ) ( ص10 ) .

إن رادوبيس فكّرت وقرّرت وتعايشت مع الموقف الجديد ، وأدارت أزمتها ، بل وتقبّلت الوضع بشجاعة لدرجة الاندماج الكامل مع " الحفيدة المريضة " لسيّدها الذى اشتراها ، ولدرجة أن خلقت معها جوًّا من الأمن مّما أتاح لها صداقتها والمسئوليّة تجاه هذه الصداقة أيضًا ... تقول رادوبيس : ( وكانت تحكى لى عن نفسها وأحكى لها عن حياتى ) ( ص10 ) .

هذا الحكى بينهما يُمثّل قيمة " الراحة " أو " الأمان " ويُمثّل " الصدق " و " الثقة " والحميميّة والصداقة بينهما ، ثم تقول : ( وهكذا وجدت نفسى ، وأنا فى الثامنة من عُمرى ، أتحمّل مسئوليّة رعاية فتاة فى مثل سنّى .. وحاولت أن أجد فى تلك الحفيدة أختًا لى ) ( ص10 ) .

بهذا القدر من الذكاء والمرونة تتحمّل الطفلة مُعاناتها وتتعايش معها ، لكنّها فى حقيقتها الجوانيّة لم تنس أحزانها تمامًا ...

إذ يطرح الكاتب أنّه ثمة فارق بين " النسيان " و " التناسى " ، فالطفلة لم " تنس " ماضيها لكنّها تناسته ، والتناسى هو فعل الإرادة والقُدرة على معايشة الواقع القاسى بوعي من صاحبه ، وهو ما أسميناه بـ ( إدارة الأزمة ) ، مّما يدُل على ذلك قول رادوبيس تحكى عن " أيسوب " ( 1 ) اليونانى أحد عبيد القصر الذى اشتهر بثقافته وحكمته ، تقول عنه : ( لقد فَهِمَ أن خلف قناع السعادة الذى أضعه على وجهى يختفى القلق والحُزن ) ( ص11 ) ، نفهم أن السعادة كانت مجرّد ( قناع ) أى أنها سعادة مُزيّفة ( للتناسى ) و ( أسلوب ) من أساليب ( إدارة الأزمة ) .

ثم يُثير النص كيف يتعامل المُربى المُدرّب مع الأطفال فى مثل هذه المواقف ... فتقول رادوبيس عنه وهى ترسم شخصيّة جديدة ( 2 ) فى الحكاية : ( لذلك كثيرًا ما كان يحكى لى حكاية لا أنساها ، .... ، إن الحُزن والفرح وجهان للحياة ، وإذا فرحنا يومًا فلابد أن نجد ما يُحزننا فى يوم آخر ، وليس فى هذا ما يبعث على اليأس أو السخط بل علينا أن نتقبّل هذا كما نتقبّل ذاك ) ( ص11 ) .

ثم تقول رادوبيس عن تأثير حكايات " أيسوب " فيها ، مّما يُساعد على ت;وين شخصية الطفل خلال القصص التى يستمع إليها : ( وقد ملأتنى هذه القصة بالأمل فى مُستقبل أكثر سعادة وإشراقًا مّما أصابنى فى سابق حياتى . لقد كان هذا الرجل الحكيم يُعاملنى كابنته أو حفيدته ، ....، وقد علّمنى كيف أختار ما أقرأ وكيف أجيد الكتابة ، لكنّه علّمنى أيضًا الحكمة وفن التفكير السليم ، والقدرة على فهم الآخرين ، وكيف استفيد مّما يُقابلنى من خير أو شر ) ( ص12 ) .

إن الكاتب برع فى رسم صورة " المُربى " ، الذى ليس بالضرورة أن يكون ( الأب ) ولكن من يقوم مقامه أيضًا ...

لقد تصدّى الكاتب عبر الحكى إلى مسئوليّة المُربين فى أية مؤسسة ، هؤلاء الذين تضعهم الأقدار فى موقع المسئوليّة دون أن يختاروا ذلك ، إن ما ينطبق على شخصيّة أيسوب هو الذى يجب أن يكون عليه الأب أو الجد أو الأستاذ فى المدرسة أو معلّمة الحضانة أو من يقوم بهذا الدور فى مؤسّسات رعاية الأيتام ... الخ .

إنه يُذكّرنا بلقمان الحكيم وبحكمته التربويّة مع ابنه ، ويُذكّرنا بنصائح المصرى القديم التى سجّلتها الحضارة الفرعونيّة ، مّما يُفيدنا بأن جذور التربية السليمة تمتد فى شرايين الزمن وصولاً لمنبع الحضارات ، وقبل أن تأتى كل الفلسفات التربويّة الغربيّة المُعاصرة ، حيث أن التربية نشأت مع البشر ومع المُجتمعات والعُمران وتوارثها الأبناء عن الأجداد ..

إن القـارئ المُتمعّـن لحكاية " رادوبيس – الشارونى " يجد كل هذا مرصـودًا

( 1 ) انظر خرافات أيسوب .

( 2 ) شخصية أيسوب .

بتلقائيّة وبساطة .. لذلك فإنّنا ننصح بعدم الحكى السريع أو القراءة السريعة ، وإنّما المُتأنية حتى تستطيع القصة تحقيق هدفها التربوى ... إن الشارونى مَعْنِيُّ بتربية الطفل عبر القصص المُسلّية التى تلعب أهدافًا مُزدوجة .. فهى للتسلية وللتربية معًا ...

هى للمُتعة وإثارة الخيال والتشوّق وللنمو العقلى والنفسى والوجدانى معًا ...

وما زالت القصة تبث القيم التربويّة لتؤكّد قيمة فى غاية الأهمية يجب أن نُعلّمها للأطفال وهى : " قيمة جوهر الإنسان " .

بمعنى أنه يجب الحُكم على إنسان ما بجوهره وليس بمظهره ، إنها تعنى البحث فى قاع الشخصيّة وليس سطحها ، نعم إنها دعوة للغوص فى الأعماق وسبر أغوار الشخصيّة ، ويعرضها النص بشكل مُبسّط يُناسب الطفل بأن " قُبح الوجه – أحيانًا – ليس يُعنى بالضرورة قُبح النفس ، بل العكس هو الصحيح " وهى دعوة ضمنية لعدم السخرية من الآخرين لعيوب خلقية بل دعوة لأن نحمد الله على ما وهبنا إياه وما لم يهبه لغيرنا .

وحيث تؤكّد القصة أن قُبح الوجه قد يقترن بجمال النفس ، وجمال الوجه قد يقترن بقُبح النفس ، إن جمال الوجه – أحيانًا – قد يكون مَدْعاة لغرور صاحبه كما فعل الطاووس بين الطيور فطرده الله من الجنة( 1 ) ، أو كما فعل إبليس عندما عصى الله واستكبر على الإنسان ، لأنه يرى أنّه أفضل منه لأنّه مخلوق من نار والإنسان مخلوق من طين ، وهيأ له غروره ذلك فكان سببًا فى طرده من الجنة أيضًا .

إن القصة تذكّرنا بالكثير من هذه الأمثلة من التاريخ ، فها هو " أحدب نوتردام " بكل نقائه وطُهره وحُبّه الكبير لمن حوله ، إنه يتميّز بجوهره الأصيل رغم شكله الأحدب .

تُثير القصة هذه القيمة عبر التنبيه عليها لأن أيسوب كان " قصير القامّة مُشـوّه الملامح " فتقـول رادوبيس : ( مـن أهــم مـا تعلّمــت منــه أن ملامــح الإنســان الخارجيـة

( 1 ) من المأثور أن الطاووس كان من طيور الجنة فلما ركبه الغرور لجماله وشعر بخيلاء وكبرياء ، أنزله الله من الجنة للأرض .

لا يُمكن أن تكون وسيلة سليمة للحُكم على حقيقة النفس والسلوك ) ( ص13 ) .

( فأنا أيضًا كثيرًا ما سمعتهم يقولون إن عمى أيسوب مُشوّه الخلقة جدًّا ، لكنّنى لم أره كذلك أبدًا ) ( ص13 ) .

إن الكاتب يؤكّد أن جمال الإنسان الداخلى هو الأصل ، وهو ينعكس على وجهه فيمنحه جمالاً آخر حتّى ولو كان مُشَوَّهًا فنحبّه ، وحين نحبّه لا نرى عيوبه الخلقيّة بل محاسنه الأخلاقيّة والنفسيّة وجمال روحه وصفاء قلبه .

يعود الكاتب ليؤكّد ذلك على لسان الثعلب فى الحدوتة مُخاطبًا الفهد ومقارنًا بينه وبين نفسه ، يقول النص : ( لكن شهرتى تفوق شهرتك ، كما أتمتع باحترام الناس أكثر من أى حيوان آخر ، ذلك أن زينتى ليست فى شكلى الخارجى ولا فى عضلاتى أو أنيابى ، لكن فى عقلى ، والعقل والذكاء هما سر تفوّق الإنسان على كل مخلوقات الأرض ) ( ص15 ) . يؤكّد الكاتب فى النص السابق على تنمية العقل وأهمية الذكاء وكيفية استخدامه وما زال يُلح فى هذا التأكيد عبر النص فى عبارات ومواقف أخرى تالية ليُعلى ويُعزّز من مضمون هذه القيمة التربوية فنقرأ : ( لذلك أرى أنك حرصت مع جمالك على تنمية عقلك ) ، ( تعلمت كيف أحسن استخدام عقلى ، فاستطعت احتلال مكانة خاصة فى بيت سيدى السابق ) ( ص15 ) ، ( أن السيد الجديد كان معجبًا بجمال رادوبيس وذكائها ) (ص16 ) . إن الفقرة الأخيرة تؤكّد كيف يجب على الإنسان ألا يتلهى بجماله وبخاصة الفتاة فيدعوها ذلك للغرور ، ولكن عليها أن تنمى ذكاءها حيث الجمال وحده لا يكفى ، وحيث الانشغال به أحيانًا قد يصرف الإنسان عن قدرات أخرى داخلية به .

تؤكّد الحكاية على قيمة " الحرية " ، وأن افتقاد المرء لحريته شىء يدعو للحزن والأسف أو الحسرة ، وقد دلّل الكاتب على هذا المعنى بطرح الفكرة العكسية أو ما يُمكن تسميته " بالطرح المُضاد " ، هذا الطرح المُضاد الذى جاء على لسان المشرفة الحسودة التى تحقد على رادوبيس فى قصر السيد ، ففى النص : ( كانت " نفرت " تقول وهى تتأمّل فى حسد وجه رادوبيس الجميل : كل واحدة منّا مواطنة حرة ، نأخذ أجرنا مُقابل عملنا ونبيت فى بيوت أهلنا ، ولسنا عبيدًا اشترانا سيدنا بماله من السوق فلا نملك من أمر حريتنا قليلاً ولا كثيرًا ، وتسمع رادوبيس هذا فتنكمش بعيدًا عن سخريات خادمات القصر ، وتعليقاتهن اللاذعة ) ( ص17 ) .

كما يطرح الكاتب قيمة " العمل " وأهميته بشكل واضح ، فكل من فى القصر يعمل وتختلف الأعمال وتتنوّع وتتوزّع الأدوار بين الخادمات خاصة رادوبيس فيقول : ( كانت رادوبيس تقوم بالنصيب الأكبر من تلك الأعمال ، بالإضافة إلى تلبية أوامر بقية الخادمات ) ( ص18 ) ، غير أن الأقدار لا تتخلّى عن المُخلصين ، بل إن الله يمد لهم يد العون ، وتكون هناك بارقة أمل ونافذة للرجاء ، فالبؤس أو شقاء رادوبيس ليس مُستمرًّا دائمًا وإنما يقترن بنوافذ للضوء والأمل ...

فعلى الرغم من إرهاق رادوبيس نتيجة واجباتها بالقصر وعلى الرغم من عبوديتها وفقدها لحريتها ، فإن الأقدار تمنحها هذا الأمل وهذا الضوء فى حياتها اللذين يتمثلان فى صداقتها للخادمة الصغيرة " نفتيس " وهى تماثلها فى العمر ، وفى البقرة " قشدة " التى كانت تحدثها كثيرًا حتى : ( يُخيّل إليها أن البقرة تفهم ما تقصد وما تقول ) ( ص20 ) .

ويُضيف النص ( وكانت رادوبيس تغنى للبقرة وتقول : قشدتى يا قشدتى .. بقرتى يا بقيرتى .. لا راحة عندك ولا راحة عندى .. لازم سيدك وسيدنا ، يشوف حالك وحالتنا ! ) ( 1 ) إن الكاتب يصوّر أيضًا كيف يستطيع الإنسان مهما كان مُتعبًا وكادحًا وشقيًّا ــ أن يخفّف عن نفسه وعن آلامه عن طريق الترويح أو الغناء والرقص ، تمامًا كما يفعل العُمّال عندما يعملون فى الموانئ أو المبانى أو كما يُغنى الفلاحون فى الحقل وذلك للتخفيف من المشقّة والتعب ...

( 1 ) ( يذكرنا هذا النص بحكاية ست الحسن والجمال تلك الحكاية الشعبية التى تتناول موت أم الطفلة ست الحسن وزواج ابيها من أخرى ، وميراث أمها لها المُتمثّل فى الجاموسة أو العجلة التى كانت تؤانسها فى وحدتها وهى ترعاها وتحدثها وتقول لها : يا عجلتى يا عجولتى .. يا خلف نينتى .. شوفى مرات أبويا بتعمل فيه إيه ؟ وتعطيها الخبز المقدد والجبن القديم والمش لتاكله العجلة ) وتخرج لها اشهى المأكولات فتزيد جمالاً ( أنظر : حواديت جدتى من التراث الشعبى للكاتبة – مرجع سابق ) .

يقول النص واصفًا رادوبيس كيف تتغلّب على متاعبها : ( وبعد الغناء ترقص رادوبيس برشاقة حول نفتيس وبقرتها قشدة كما كانت ترقص فى حديقة بيت جدّتها وهى صغيرة ، فتشعر كأنها تطير مع إيقاع رقصاتها ، وأن متاعبها قد خفت ) ( ص20 ) .

كما يصف الكاتب كيف كانت رادوبيس تتخذ من رقصها أسلوبًا للمقاومة الذاتية للعبودية والأسر وبهذا يؤكّد الكاتب على قيمتين فى وقت واحد هما : " قيمة الحرية " ، " قيمة المقاومة للعبودية " وتعد الأخيرة أحد أساليب ( إدارة الأزمة ) التى تحدثنا عنها سابقًا . يقول النص : ( حدث أن السيد كرايسوس كان يمر مصادفة فى الحديقة ووقع بصره فجأة على رادوبيس ترقص ، فوقف لحظة يراقبها ... لكنه وجد نفسه يقف مبهورًا يتابع حركاتها الرشيقة ، وقد انساب قوامها يُقدّم أروع تعبير عن الرغبة فى الحـريـة وتحطيـم قيـود العبـوديـة والأســر ) ( ص23 ) . ( ومـا إن انتهـت رادوبيـس مــن قصتها حتى توجهت نحو بقرتها تسألها: ما رأيك يا قشدة ؟ هل فهمت ما قلته بحركات جسمى وملامح وجهــى بغير كلمات ؟ ) ( ص23 ) . ( وكــم كانت دهشتها عندما سمعت صوتًا يقول فى حماس : لقد قلت بلغة الفن ما تفوّقت به على الراقصات المحترفات ! ثم وجدت سيّدها يندفع فى تصفيق حار تعبيرًا عن شدة إعجابه بها ، قال السيد : هذه الأقدام القادرة على تقديم كل هذا الفن الرائع جديرة بشىء جميل يليق بها ! وفى اليوم التالى كان صانع أحذية مشهور يُسجّل مقاسات قدمى رادوبيس ، قال السيد : سيصنع لكِ صندلاً لم يسبق لفتاة أن وضعت مثله فى قدميها ) ( ص23 ، 24 ) ، إن الكاتب استلهم هنا فكرة " حذاء سندريللا " ( 1 ) فى القصة الشهيرة ليوظّف الموقف لخدمة القصة التى يحكيها لنا ، وحيث تبدأ العقدة ( عبودية رادوبيس ) فى الامتثال للحل التدريجى ، حيث تصنيع فردة الحذاء والتى يخطفها الطائر ويطير بعيدًا ، وحيث يوقعها فى حِجر الملك الذى يبحث بدوره عن صاحبة هذا الحذاء ، وحتى يعثر عليها ليتزوجها وتصير ملكة متوجة على البلاد بعدما يمنحها الملك الحرية بزواجه منها ...

ولكى يصل الكاتب لهذه النهاية فإن الحكاية تمر بسلسلة من الأحداث المُشوقـة

( 1 ) وربما كانت سندريللا مأخوذة عن خرافات أيسوب اليونانية الشهيرة ، أى أن أصل سندريللا ( رادوبيس ) وليس العكس ، فكلتاهما حكايات شعبية ، رادوبيس شعبية يونانية ، سندريللا أوربية ، وتَتَرْ والغول وست الحسن والجمال ( مصرية ) . انظر حواديت جدتى من التراث الشعبى للمؤلفة .

التى تجذب الطفل المُتطلّع لعالم الخيال والمُغامرة والدهشة .

فقد أثار الحذاء الجميل حسد وحقد بقية الخادمات وبالتالى فقد استبعدتها رئيسة الخدم من العمل داخل فى القصر ، جاء على لسانها : ( همست نفرت لنفسهـا : منذ اليوم سأجعل رادوبيس تعمل فى الحظائر لكى لا تقع عليهـا عينا سيّدى ) ( ص25 ) ، إن الكاتب استبدل " زوجة الأب " فى حكاية سندريللا ، برئيسة الخدم فى رادوبيس ، ولعل هذا الاستبدال جاء موفقًا لخدمة غرض ما فى نفس المؤلف ، ولعلّنا نراه واضحًا من حيث حرصه على تصحيح صورة المرأة ( زوجة الأب ) المُتعارف عليها فى كل القصص الشعبى تقريبًا ...

فالقصص الشعبى كما نعرف يصوّر دائمًا زوجة الأب بأنها قاسية وشريرة وبلا رحمة كما فى سندريللا وكما فى ست الحسن والجمال وغيرها ..

ولأن الكاتب أراد أن يُغيّر من هذه الصورة المُتوارثة ، ذلك لأن بعض زوجات الآباء لا يتسمن بهذه الصفات وبعضهن يعاملن أبناء الزوج بدرجة إنسانية كبيرة ويساهمن فى تربيتهن على نحو كبير من التربية المُثلى مثل أبنائهن ويعاملنهن معاملة حسنة وكريمة .

ولقد استطاع الشارونى الخروج من هذا المأزق الموجود فى التراث بعملية الاستبدال هذه ... لذلك فإن القصة منذ البداية تحكى عن رادوبيس الطفلة التى كانت تلعب وخطفها بعض اللصوص وباعوها فى مدينة أخرى بعيدة ، وبالتالى فإنها وقعت فى الأسر أو نالت ذل العبودية بسبب جمالها وعقلها ممّا دعا لحقد وحسد الخادمات بخاصة رئيسة الخدم ( نفرت ) .

فالشارونى قد استبدل " زوجة الأب فى سندريللا " برئيسة الخدم ( نفرت ) فى " رادوبيس " وذلك لمعالجة الموقف وتنقيح التراث ...

ذلك أن الحقد أو الحسد عندما يأتى من زميلة لها فى المهنة فإنه يكون أكثر منطقية وأكثر قبولاً ممّا يأتى من زوجة الأب، التى هى بمثابة الأم أو من المُفترض أنها كذلك ، وتلك محاولة محمودة للكاتب لتصحيح وضع ( صورة ) زوجة الأب الموروثة تراثيًّا .

كما يؤكّد الكاتب على قيمة الاعتزاز بالمصرية والانتماء إليها ، فعلى الرغم أن رادوبيس تنقسم فى نسبها وأصلها إلى جنسيتين- فهى من أب مصرى وأم يونانية - إلا أنها كثيرًا ما كانت تعتز بمصريتها وتؤكد ذلك ، يقول النص واصفًا رادوبيس فى حديثها مع الخادمات :

( .... رغم حرصها على أن تخبرهن أكثر من مرة أن والدها مصرى لكنهن كن يضحكن فى سخرية ، ويقلن لها فى استهزاء : انظرى إلى شكلك فى المرآة واستمعى إلى لهجتك عند الحديث . كيف تكونين مصرية وكل ما فيك ينطق بكذب ما تزعمين ؟ ) ( ص26 ) ، إن إنكار الخادمات عليها ذلك ــ لجمال وجهها ــ كان يدعوهن للسخرية منها وبالتالى لحزنها وعذابها ، ( كانت دموعها تحتج على قسوتهن لكنها لا تجد دليلاً ترد به على سخرياتهن ) ( ص26 ) .

وهكذا تستطيع الخادمة ( نفرت ) الغيورة أن تؤثر على سيّدها فتمنع رادوبيس من السفر إلى الحفلة التى يُقيمها ملك مصر ويدعو إليها كل المصريين والمصريات من أبناء البلاد ، إنهم يمنعونها من السفر باعتبارها ليست مصرية أولاً ، ولترعى شئون القصر فى غيابهم ثانيًا . وبالفعل يسافر الجميع دونها لتعود الحكاية لتؤكّد أن الحزن يعقب الفرح والعكس صحيح ، ودوام الحال من المحال ، يقول النص ( تسأل نفسها فى إلحاح : متى يا ترى يأتى دور الفرح ؟! ) ( ص29 ) .

إنها فرحت بالحذاء لكنها حزنت لأنها لم تسافر معهم ، وعادت لتحزن حُزنًا أكبر عندما يخطف الصقر ( حورس ) حذاءها عندما تركته بجوارها وهى تغسل قدميها فى البحيرة .. يقول النص : ( .. وانهمرت دموع الإحساس بالقهر من عينى رادوبيس وهى تراقب فى يأس ابتعاد الطائر عن بصرها ، والصرخات تتوالى من حنجرتها : صندلى الجميل هدية سيّدى ... كيف يضيع فى لحظة ؟ ) ( ص32 ) ، ( .... وقالت فى مرارة : هل رأيت يا قشدة ما حدث ؟! حتى صندلى الذى كان مصدر أكبر فرح لى أصبح مصدر حُزنى الكبير ! ) ( ص33 ) ، ثم يؤكّد الكاتب على قيمة ( الصداقة ) بين الأصدقاء بخاصة فى المواقف الصعبة ، فهذه ( نفتيس ) صديقتهــا الخادمة الصغيرة التى رافقتها فى وحدتها بالبيت ولم تذهب هى الأخرى للحفلة ، هذه ( نفتيس ) تساعدها على تجاوز حُزنها وتعضدها وتشجعها وتخفّف عنها : ( وهى تقول مواسية : لم يأخذ إلاّ واحدة من زوج الصندل لقد بقيت لك الأخرى ) ( ص32 ) .

كما يُجسّد صداقة الحيوان ( البقرة ــ قشدة ) وكأنها تفرح لفرحها وتتألّم لألمها ، بل تستشعر – " عن بُعد " - الأحداث أو تتنبأ بها ، وهذه ليست خُرافة تمامًا ، ذلك أن الصداقة بين الإنسان والحيوان تولد نوعًا من التفاهم عبر المشاعر والأحاسيس والإشارات ، وبالعِشرة تنمو لغة لا مرئية نتيجة لهذا التواصل الحميم بينهما فيتفاهمان ، بالإضافة لأنه من المسموح به فى الحكايات الشعبية والخرافية الشيّقة أن يستنطق النص الحيوانات والنباتات والجمادات ، إن كل شىء جائز لإنماء قيمة الخيال عند الطفل ، وليس فى هذا ما يتعارض مع منطق الحكى الشعبى أو الخيالى ، بل إن إعلاء قيمة اللا منطق أحيانًا تقف جنبًا إلى جنب ومتوازية مع قيمة المنطق فى بعض المواقف ، ولا تناقض ولا تعارض بينهما فى القصص الشعبية أو الخرافية أو المستلهمة منها ، وهذا ما يُعرف " بأنسنة الأشياء " من جماد أو حيوان أو نبات واستنطاقه فيتكلّم بلغة مفهومة للطفل أيضًا .

إن رادوبيس تفهم من صوت البقرة " قشدة " القوى المجلجل أنه يعبّر عن " القوة والفرح والانتصار " ، ويواصل النص على رادوبيس : ( ثم عادت تهمس إلى نفسها : يا ترى .. هل تحمل هذه البقرة العزيزة بشرى فرح قريب ؟! ) ( ص33 )

يؤكّد الكاتب على قيمة " التفكير العلمى " وربط السبب بالنتيجة أو العلة بالمعلول ، نقرأ فى النص : ( ورفع الملك عينيه ليرى السبب الذى جعل كل أفراد رعيته ، لأول مرة فى حياته ، ينشغلون عنه ، وسأل نفسه : هذا النوع من الصقور لا يعيش فى منف ولا فى ضواحيها ، فما السر فى اختيار الصقر رسول حورس ، هذا المكان بالذات فى هذا اليوم دون غيره وفى هذه الساعة نفسها ، ليحلّق فوقنا بهذا الإلحاح الغريب ؟! هذا شىء لم نسمع أنه حدث من قبل !! ) ( ص36 ) ثم يفسّر الكاتب ما حدث لتأكيد القيمة التى دعا إليها ويُبرهن على ما يريد ، يقول النص : ( اقترب الصقر حتى أصبح فوق عرش الملك تمامًا ،ثم أسقط الصندل الأحمر البديع فاستقر فى حِجر الملك وفوق ساقيه تمامًا ) ( ص36 ) ، إن قيمة التفكير تتأكّد ثانية عبر النص : ( ودارت فى ذهنه أسئلة جديدة غامضة ) . ( فمن الحكمة أن أرى فى هذا رسالة واضحة لابد أن اكشف معناها وأعرف سرّها ! ) ( ص37 ) ومن هذا المُنطلق تأتى العُقدة للانفراج ، حيث يأمر الملك جنوده بالبحث عن الفتاة صاحبة هذا الصندل البديع فهى بالقطع بديعة مثله وإلا فما صنعوه لها ! يقول النص على لسان الملك : ( همس لنفسه : الفتاة التى أبدع الصانع الفنان لقدمها هذا الصندل الرائع الثمين لابد أن تكون أفضل الفتيات وأجملهن ، وإلا لما بذلوا كل هذا الجهد الفنى لتزيين قدميها ! ) ( ص37 ) .

وتستمر الأحداث التى تُثير شغف الطفل القارئ ، فإن رُسل الملك يقيسون أقدام الفتيات فى جميع المُدن دون جدوى حتى يفقدوا الأمل دون العثور على رادوبيس ، حيث كتمت رئيستها ( نفرت الحاقدة ) عنها خبر البحث عن صاحبة الصندل ، بينما سيّدها غائب عن القصر .. لكن الأقدار تساعدها مُتمثلة فى بقرتها قشدة التى : ( تنطلق هائجة من حظيرتها كأن هناك من يُطاردها ويُثير رعبها ، فخرجت مُندفعة إلى الحديقة أمام أنظار رُسل الملك ، الذين ملأت الدهشة عيونهم وهم يشاهدون فتاة رائعة الجمال تجرى وراء البقرة تحاول الإمساك بها وإيقاف اندفاعها ...الخ ) ( ص41 ) ( قال رئيس رُسل الملك : لم نر هذه الفتاة من قبل ! لماذا لم تجرّب الصندل ؟! ) ( ص42 ) ( وفى سهولة شديدة وضعت الصندل فى قدمها ومدّت ساقها ليرى الجميع كيف ناسبها الصندل تمامًا ) ( ص44 ) . ( قال رئيس الرُسل فى ذهول : هذه هى الفتاة التى أرسلنا ملك مصر العظيم لنبحث عنها ) ( ص44 ) .

وهكذا تعود لتتأكّد قيمة " الفرح " المُقترن " بالحُزن " قبلاً ، عندما تحصل رادوبيس على حريتها وعندما يتزوّجها ملك مصر وتصير أميرة ، يقول النص : ( نحن ملك مصر ، قرّرنا أن نتخذ رادوبيس المصرية المولد زوجة لنا ، وأن نتوجها ملكة على مصر تشاركنا عرش الحكم وتصبح سيدة الوجهين مصر العليا ومصر السفلى ) ( ص46 ) ، وتؤكّد رادوبيس القيمة ( لا يدوم حزن ولا فرح ، وبعد كل حزن يأتى الفرح ، وبعد كل حزن عظيم لابد أن يأتى فرح عظيم ) ( ص46 ) . النهاية .


ثالثًا : جماليات السرد فى قصة " رادوبيس " :

حفلت حكاية رادوبيس بالعديد من الصور الجمالية المُمتعة والمُثيرة للخيال ، ممّا يُنمى عند الطفل ملكة الخيال والإبداع والقدرة على التعبير الراقى عبر الوصف ، منها على سبيل المثال ما استوقفنا من التعبيرات الجميلة والرقيقة منذ بداية السطر الأول للقصة :

( يُحكى أن شابة اختلط فيها الدم المصرى بالدم اليونانى ) ، إن الجملة الرائعة السابقة تفيد كما يُبيّن النص فيما بعد أنها من أب مصرى وأم يونانية .

فى النص ( رادوبيس : وهى كلمة يونانية معناها ذات الوجنات الوردية ) ، إن الجملة السابقة تفيد أن الفتاة كانت اسمًا على مسمى .

فى النص ( تتدفّق منه مياه النهر إلى البحر ) ، إن كلمة تتدفّق توحى بالقوة والغزارة ، ثم تُفيد اختلاط النهر بالبحر فيما بعد .

فى النص ( أمضى ذلك التاجر مُعظم حياته فى قصره بتلك المدينة ، فهى هادئة ، جميلة ، مُعتدلة الجو مُعظم أيام السنة ) ، العبارة السابقة بسيطة وسهلة وتمنح القارئ الدليل الموضوعى على أسباب الاستقرار فى المُدن مثل : الهدوء ، الجمال ، اعتدال الجو .

( كانت الفتاة الشابة تجمع بين الجاذبية والجمال ، بينما تنطق ملامحها بالذكاء والروح المرحــة ) ، ( يالهــا من رائعــة ! ) إن الجاذبية مفردة تختلف عــن الجمال فقد يكون الإنسان جميلاً لكنّه ليس جذابًا ، أى يكون جماله بلا روح مثل المنظر الجميل فى صورة مرسومة بلا حياة ...

وقد يكون الإنسان جذابًا لكنه ليس جميلاً على الإطلاق ولذا فإن الجاذبية شىء والجمال شىء آخر ، فإذا اقترنا كلاهما ببعضهما صار الجمال مُبهرًا ، وإذا اقترن هذا الإبهار بالذكاء وخفّة الروح صار الجمال رائعًا وصار أسطوريًّا ، فإذا ما اقترن بالأخلاق العالية الرفيعة صار استثنائيًّا - كما يأتى ذلك ضمنيًّا عبر السرد التالى - صار من يملك هذا كله وكأنه قد أقترب من الكمال مما يدعو للدهشة والانبهار والإكبار أو الإجلال ، مما يُثير حقد البعض أحيانًا وحسدهم كما حدث لرادوبيس .. فإن مقومات جمالها وشخصيتها كانت هى السبب الأول فى إثارة حسد الأخريات عليها وغيرتهن منها كما رأينا عند التحليل السابق .

فى النص ( كنت كثيرًا ما أتسلل لأرقص فوق العشب فى تلك الحديقة ، أو أطارد الفراشات لأمسكها وأتأمل ألوانها المدهشة ) ، العبارة السابقة ترسم لوحة جميلة لأحد ألعاب الطفولة وتدلّل على جمال هذه الألعاب وبراءتها . فإن هذه اللوحة إنما تصوّر وترسم لعب الأطفال ولهوهم البرىء بالصوت والإيقاع والحركة .

فى النص ( وإن الظلام بدا يحل محل ضوء النهار ) إنها عبارة ترسم تعاقب الليل والنهار واقتران أحدهما بالآخر مما تعكس الجملة فلسفة ( اكتمال الأضداد ) .

فى النص ( يحميهم سواد الليل الذى بدأ يحل ) تدل على التخفى فى الظلام .

فى النص ( فهمت بعد فوات الأوان ) إشارة إلى الزمن والندم معًا .

فى النص ( وأنا أراقب السفينة تشق طريقها وسط الماء ، وقد نشرت أشرعتها السوداء الكبيرة ) . تبدو السفينة هنا فى المنظر العام للطبيعة وكأنّها السيف يشطر البحر إلى شطرين ، والأشرعة هنا سوداء لأنها فى الظلام أو لأنها للصوص ، فاللون هنا يُفيد الأسر وذل العبودية ، وحيث الأبيض يُفيد السلام والنقاء .

فى النص ( لقد فهم أن خلف قناع السعادة الذى أضعه على وجهى يختفى القلق والحزن ) ، تفيد كلمة " قناع " بأنها ــ أى سعادة الطفلة ــ مظهرية . وأن القناع أحيانًا يفصح عن المشاعر الحقيقية للإنسان مهما بالغ فى لصقه بدليل فهم أيسوب لها ومحاولته التخفيف عنها .

فى النص ( علينا أن نتقبّل هذا كما نتقبّل ذاك ) ، عبارة تُفيد التقبّل المُتكامل للنقيضين معًا ( الحزن والفرح ) ، والتسليم دائمًا بوجود الأضداد هذا ، وذاك ) .

فى النص ( انظر إلى جمال شكلى ، فرائى الأصفر الذهبى الذى ترصّعه هذه المساحات الداكنة هو سر شهرتى .... ) ، عبارة تفيد جمال تداخل اللونين الأصفر الذهبى بالداكن .

فى النص ( استطعت احتلال مكانة خاصة فى بيت سيّدى ) ، كلمة احتلال تفيد القوة والإرادة وانتزاع مكانة مُميّزة .

فى النص ( كثير السفر على ظهر سفينته ذات الشراع الأبيض الكبير ، تشق ماء النيل ) ، هنا دليل على الملاحة النهرية والسياحة البحرية والنزهة أيضًا والتمتع بطقس البحر أو النهر .

فى النص ( كانت تتسلّل إلى بيت البقرة فى الحديقة تتأمّل عينيها الواسعتين ) ، إشارة إلى حب الحيوانات والتفاهم معهم وجمال عيون البقرة التى تشتهر بها .

فى النص ( وتهز البقرة رأسها أو تتمسّح بجلدها فى كف رادوبيس كأنّها تشاركها النداء ) ، عبارة تدل على مُنتهى الألفة بين الإنسان والحيوان وكيفيّة تعبير الحيوان عن ذلك مثلما يفعل الكلب عندما يهز ذيله مثلاً .

فى النص ( ووضعن الزهور المتنوّعة فى كثير من الأوانى البديعة ، كما ثبّتن الأعشاب ذات الروائح العطرية فوق شعور رؤوسهن وفى مختلف جوانب قاعة الطعام ) .

( واستقبل القصر العازفات والمُغنيات والراقصات ، وصاحب الضيوف الموسيقى بالتصفيق بالأيدى بينما الراقصات يرقصن فرادى أو جماعات ، وخلفهن من بعيد فى الظلال التى لا تصل إليها الأضواء ، جلست رادوبيس تراقب فى شغف كل تلك البهجة التى ملأت جنبات القصر ) ، تُفيد العبارات السابقة بوصف ورسم صورة نابضة بالصوت والحركة للحفل الرائع الذى أقامه السيد ، كما تدل على انزواء وانطواء رادوبيس وانتباذ الخدم لها بعيدًا حتى لا تشاركهن الحفل . إنها مسكينة منطوية بعيدة عن الحياة وهرجها ومرجها ، ونصيبها منها هو الصمت . لكنه الصمت المُتحدى الشجاع ، الصمت النابض بالإرادة ، إن لصمتها ضجة تعلو فوق كل صوت لكنه يتأتى فى الوقت المناسب . كما تبيّن من السرد فيما بعد .

فى النص ( كانت تخطو وتتحرّك وتدور حول نفسها كأنها تطير ! ) إنه تعبير عن الرشاقة والجمال والسعادة أو توهّم الفرح للتناسى والمداراة .

فى النص ( كان النعل من الجلد النادر ، وسطحه أحمر وردى ، يُزيّنه حجر كريم على شكل جُعران أزرق متلألئ يخطف البصر ، تحيط به ضفائر ناعمة قوية تمسك القدم بثبات ) ، إن هذا الوصف للصندل وصف رائع يستوقف الطفل القارئ عند التفاصيل فيُثير خياله ويُعزّز منطقة الإحساس بالجمال لديه .

فى النص ( فى المدينة ذات المائة باب " منف المحروسة " ) ، كناية عن عظمة العاصمة منف وحماية الملك لها بهذه الأبواب المائة ، وإشارة ضمنية للحضارة المصرية القديمة . كما تشير إلى نموذج معمارى قديم فى جغرافية المُدن وهو إحاطة المدينة بالأسوار العالية لحمايتها .

( نظرة متعالية ) ، تفيد التكبر والغرور .

( كان لديه إحساس غامض ) ، تفيد بوجود الحس السادس عند الإنسان الذى يستشعره دون مُقدمات منطقية تمامًا ، يستشعره لكن لا يستطيع التدليل عليه دائمًا .

فى النص ( رفعت البقرة عينيها إلى رادوبيس .. كانت فيهما براءة وصفاء ونقاء ) ، تُفيد الذكاء فى قراءة نظرات العيون وفك شفرة لغتها الخاصة بها والتواصل معها .

( كانت رادوبيس غارقة فى أفكارها ) ، هنا تشبيه للأفكار وكأنها بحر مُغرق ، ممّا يدل على سيطرة الأفكار أحيانًا على الإنسان ممّا يدعوه للسرحان فلا يدرى بمن حوله .

وتتأكّد العبارة السابقة بالتالية : ( لتخرجها من أفكارها التى استغرقت فيها ) .

( كانت هناك سحابة بيضاء تعبر السماء ، دفعها الهواء حتى حجبت قرص الشمس عندما أصبحت فوق رأس رادوبيس تمامًا ، وعلى غير انتظار انشقت السحابة عن طائر هائل انطلق من بين طيات الفضاء واندفع بسرعة وقوة فى اتجاه الفتاتين ... ) ، إن العبارة تصوّر ببراعة كيفية اقتحام الطائر بقوة للمجال الذى تجلس فيه رادوبيس لدرجة خطف صندلها ، وسلب إرادتها فلم تستطع أن تقاومه .

( دار فى الهواء دورة أخيرة سريعة ) ، ( وانقض ليضع مخالبه مباشرة فوق الصندل ) ، ( تشبثت المخالب به فى قوة ) ، ( فى لمح البصر ) ، ( استولى عليها الفزع ) ، ( صاحت وهى ترفع يديها مستغيثة .. ) ، كلها عبارات " ماضويه " تُفيد سرعة الأحداث ووقوع الأمر ونهاية الحدث والإصابة بالعجز حيث لا تملك إلا الاستغاثة .

( من يدرى ، الواقع يكون أحيانًا أغرب من الخيال ) ، كناية عن الدهشة والأمل معًا .

( أرض الأهرام الثلاثة الشامخة ) ، كناية عن عظمة مصر وتميّز حضارتها العريقة بالأهرامات .

( كان ملك مصر يجلس فى فناء قصره المتسع ، الذى تحيط به الأعمدة الشاهقة وقد اتخذت شكل حِزم أعواد البردى ، تعلوها تيجانها على صورة زهرة اللوتس ، ومن فوق عرشه .. الخ ) ، إنه تصوير رائع للقصر الملكى ولجلسة الملك داخل قصره فى مصر القديمة العظيمة أرض الحضارة الفرعونية الشامخة .

( وحلّق الصقر فوق القصر ، ثم حوّم فوق الفناء الملكى وقد بسط جناحيه الكبيرين ، وعندما بدأ ظله يروح ويجىء فوق رؤوس المُجتمعين ... الخ ) النص .

إن كلمات " حَلَّقَ ، حَوَّم ، بَسَطَ " هى من الكلمات الجميلة فى لغتها العربية وفصاحتها مع سهولتها وبساطتها واستخدامها كمفردات موظّفة فى موقعها المُناسب من القص ، وفى موضع تال يقول النص عن الصقر : ( فهو رسول البطل حورس ابن السماء ) .

إنها جُملة عذبة ذات مغزى دينى مُقدّس عند القدماء ، فكلمة " رسول البطل " تنطوى على بلاغة ، و " ابن السماء " تنطوى على التقديس والتكثيف والترميز لأهمية الأوامر الملكية لارتباطها بالقدسية وحيث تكون طاعة الحُكّام وأولى الأمر من طاعة الله ، وهو موجود منذ بدء الأديان وحتى خاتم الرسالات ، وثمة لا فارق .

فى النص ( علــى رُسلــى أن يذهبوا إلى كل مدينـة ، وكل قرية ، على شواطئ النيل أو علــى حدود الصحراء ) ، تُشير العبارة إلى تأكيد ضرورة البحث فى كل مكان عن الفتاة صاحبة الصندل ، ومهما كان هذا المكان بعيدًا .

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل