المحتوى الرئيسى

التاريخ الآن.. الغابة قبل الأشجار

06/25 10:06

بقلم:

أمينة البنداري

25 يونيو 2011

09:59:52 ص

بتوقيت القاهرة

تعليقات: 0

التاريخ الآن.. الغابة قبل الأشجار

 من التحديات المتكررة فى العمل بالتدريس إقناع الطلبة بأهمية «قراءة التاريخ». عادة ما يتململ بعض الشباب من القراءة عامة، ومن النظر إلى الماضى، سؤالهم المضمر: ما أهمية الماضى لحياتى ومستقبلى.. ما جدوى ذلك الآن؟ نطرح أفكار المؤرخين عن السرد التاريخى والقوة، وبالتالى عن علاقة الماضى، أو حكينا عن الماضى وسردنا له، بالحاضر والمستقبل، ألقى عليهم مقولة جورج أورويل الشهيرة فى كتابه 1984: «إن هؤلاء الذين يتحكمون فى الحاضر يتحكمون فى الماضى، وهؤلاء الذين يتحكمون فى الماضى يتحكمون فى المستقبل». أحيانا يثير ذلك انتباههم، يفكرون تلقائيا بالصراع العربى ــ الاسرائيلى وأهمية قراءة وكتابة تاريخ لفلسطين، ولكن لم تلمع أعينهم كما لمعت هذا العام: فجأة أصبح للماضى معنا جديدا فى أعين الشباب بعد أن صار بعضهم يشعر بأنه «صنع التاريخ» ذاته، أى أن التاريخ لم يعد مجرد شيئا خارجا عنه، يقرأ عنه فى الكتب ويدرسه لينجح فى الامتحان، بل أصبح شيئا حميما، يعرفه، ويخبره، ويفعله.

أحد تداعيات 25 يناير عودة الاهتمام بالتاريخ. هذا الاهتمام له عدة أوجه ولكن لكى يسفر عن نتائج مفيدة فإنه يحتاج إلى أطر ونماذج فكرية، جديدة وجامعة وبالضرورة متعددة، تضع الجزئيات والاحداث فى سياق أوسع وأعمق، بحيث نتمكن من رؤية الغابة، وليس فقط الاشجار. فنحن نعيش اللحظة الراهنة وكأنها مشهد مقتطع من فيلم طويل ولكننا بحاجة الآن إلى فهم عناصر التكوين. «إعادة زيارة التاريخ» وقراءته من مناظير جديدة ومختلفة قد يساعدنا على معرفة أين نقف بالضبط، وهو استحقاق أساسى لكى نقرر إلى أين نتجه.

●●●


فى المرحلة اللاحقة على الحادى عشر من فبراير 2011 بادر الكثيرون بقلب السرديات التاريخية المهيمنة فى مصر فى العقود الثلاثة (أو الأربع) الأخيرة رأسا على عقب. الاعلام بالذات يركز على بعض اللحظات المثيرة فى تاريخ مصر القريب ــ كالثغرة أو «الطلعة الجوية الأولى» أو معاهدة السلام أو حادث المنصة ــ ليحكيها بعكس الصورة التى كانت تحكى بها طوال سنوات، كأنها انعكاس فى مرآة، دون صياغة نموذج فكرى جديد يفسر هذه الجزئيات ويضعها فى سياق يمكننا من فهمها. تباعا يتم تحطيم كل ما حدث فى الثلاثين عاما الماضية فقط لأنها أشياء حدثت فى عهد مبارك، كل ما كان «تاريخيا» وأسطوريا فى ديسمبر أصبح شيطانيا فى مارس. مثلا أصبحت كل قوانين الأحوال الشخصية التى سنت منذ التسعينيات رجسا من عمل الشيطان ونعتت بقوانين الهانم، وبعدما كانت «مكتبة الإسكندرية» صرحا ثقافيا عالميا أصبحت وكرا للفساد وغسل الأموال. الحقيقة عادة تقع بين المتناقضات، ولكن الأهم أنها ليست دائما فى التفاصيل، بل كثيرا ما تكمن فى الكليات. (قديما قالوا: الشيطان يقبع فى التفاصيل).

أزعم أننا الآن بحاجة ماسة إلى النظر إلى الغابة ــ إلى رسم الغابة وتحديد شكلها وحجمها وألوانها ــ وليس إلى الأشجار المثيرة. نحن بحاجة إلى فهم كيف وصل بنا الحال إلى ما نحن عليه الآن؟ كيف أمكن للخامس والعشرين من يناير والحادى عشر من فبراير أن تكون أحداث نطلق أسماءها على قنوات واصدارات ومنتجات، وقريبا ــ بلا شك ــ بلح رمضان؟

ربما لا يكون هذا وقت التاريخ الجزئى أو تاريخ الوحدات الصغيرة «الميكروهيستورى»، الذى يدقق فى تفاصيل الحياة المعيشة وأحداث معينة ويدرسها على المستوى الأصغر والدقيق، ويركز عليها فيضعها فى بؤرة العدسة. ربما نكون الآن بحاجة إلى تاريخ «المدى الطويل» بتعبير فرناند بروديل، الذى ينظر إلى الامور بعدسات واسعة الزواية، على مدى زمنى طويل وبمسافة ما من الاحداث.

●●●


نحتاج مثلا إلى النظر فى تكوين وصعود وهبوط طبقات اجتماعية فى مصر على مدى قرن، أو أقل أو أكثر. ففساد بعض رجال الاعمال، وحكايات النميمة المثيرة عن ثرواتهم وزوجاتهم، لم يأت منفصلا عن تغير الخريطة الطبقية فى مصر على عدة مراحل، منذ صعود الطبقة الوسطى الحديثة واتساعها مع انتشار التعليم الحديث وتوسع آلة البيروقراطية الحكومية وسياسات حكومات ثورة يوليو ثم الانقلاب على بعض ذلك (أو كله) بعد أكتوبر 1973 وبداية خروج أفواج من العمالة المصرية إلى الدول العربية وتغير شكل الدولة التى طالما كانت تدعم طبقات ما لتؤازرها فى بسط هيمنتها على البلد والمجتمع. وذلك بدوره لا يمكن فهمه منفصلا عن تغير النظام الاقتصادى فى مصر فى الحقب الأخيرة من رأس مالية الدولة وأشكال سيطرتها المختلفة على الانتاج إلى تبنى سياسات الانفتاح والليبرالية الحديثة. لا يكفى أن نعكس حكايات المعجزة الاقتصادية التى ضاعفت مساحات الأراضى الزراعية وانتاجية الفدان دون أن نضعها فى إطار تطور الملكية الزراعية فى مصر، وتغير شكل الحيازات وتأثير ذلك على السيطرة على عائدات الزراعة.

كذلك لا يكفى أن نقول إن كل أرقام حكومة نظيف عن زيادة الانتاج كانت مفبركة (أن السبعة فى المائة نموا كانت مثلا ناقص سبعة فى المائة)، فهناك قصة أكبر تنتظر أن تحكى، عن مدى تكافؤ الفرص وتوزيع الثروات وأنماط الاستهلاك مثلا. لا يكفى أن نقول إن معدلات العنف ارتفعت فى المجتمع دون أن نحكى قصة الاستقطاب الطبقى والتغيير القيمى. كذلك الحديث عن الثغرة أو الضربة الجوية الأولى لا يجب أن يأتى منفصلا عن فهم تكوين وتطور الجيش المصرى الحديث منذ نشأته فى القرن التاسع عشر، وعلاقته، صعودا وهبوطا، بالمحيط الاقليمى لمصر، وموازين القوى العالمية ووضع الجيش الاستراتيجى فى الدولة المصرية. ربما إنْ وضعنا الثغرة والضربة الجوية فى سياق يضم لحظات أخرى مثل معاهدة لندن والتل الكبير والسويس وحتى حرب العراق والعدوان على غزة ربما يكون لهذه الأحداث معان أخرى. كذلك ربما إن وضعنا موضوع «صفقة تصدير الغاز لاسرائيل» فى سياق سياسى، وبالضرورة اقتصادى، أوسع لما ظلت القضية محصورة فى نطاق الفساد المالى والرشاوى والعمولات. إذا قُرأت أحداث يناير وفبراير 2011 فى سياق الاحتجاجات العمالية والفئوية والمطالبة بالتغيير على مدى حوالى عشر سنوات والمتوافقة مع مقاومة أحدث إصدارات النظام العالمى الجديد فى أعقاب الحادى عشر من سبتمبر 2001، ربما آنذاك لا تعدو خارجة عن السياق ولا يبدو وكأن الشعب جنى خرج من القمقم فجأة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل