المحتوى الرئيسى

الخطوة القادمة في ليبيا

06/25 03:17

عادل درويش

السؤال الاستراتيجي يشغل عدة أطراف، أولها ليبيا حيث هدف الكيان القذافي (يصعب استخدام تعبير حكومة أو نظام لوصف الظاهرة) إنهاء العمليات العسكرية والتخلص من صداع المطالبة بالديمقراطية؛ لكن طموحه الواقعي هو البقاء بتجميد الوضع والتضحية بشرق ليبيا، لتنقسم إلى طرابلس، وليبيا الديمقراطية (بنغازي) كحال كوريا مثلا.

وقف العمليات العسكرية آخر أمنيات المجلس الانتقالي الليبي، ولم تتح فرصة اختبار مصداقيته الديمقراطية بعد. ومن أجل البقاء، سيقبل براغماتيا بتقسيم فعلي (حتى وإن جاهر بغير ذلك)، وتدخل بنغازي ضمن منظومة سياسية اقتصادية بقوانين السوق الحرة، والأقرب لمحور التعاون الخليجي، بينما تظل طرابلس بنموذج كوبا وكوريا الشمالية بشعارات الجماهيرية حتى يحسم عزرائيل الأمر.

الأطراف الأخرى، كـ«التعاون الخليجي» (الأكثر مصداقية بين أعضاء الجامعة العربية، بواقعية المصالح المشتركة وتفضيل الإصلاح في نظام مستقر)، تفضل نصرة الشعب الليبي، لكن مع غياب الخبرة أو الرغبة أو القدرة على التدخل عسكريا، سينتهي الحال غالبا بالقبول بأمر واقع، أرغمت القوى الكبرى على فرضه.

قرار مجلس الأمن 1973 يقيد أيدي حلف الناتو بهدف حماية المدنيين الليبيين، وهو أقل من أهداف المجلس الانتقالي في بنغازي، والذي يكرر اتهام الحلف بأجندة خفية وراء التقاعس عن الإطاحة بالقذافي.

«الناتو» تقوده حكومات ديمقراطية تخضع حساباتها لعوامل يندر أن تختبرها الحكومات العربية؛ كتأثير المعارضة البرلمانية التي يساعدها في محاسبة الحكومة رأي عام تحركه سلطة رابعة ناضجة تعتبر حرية التعبير والنشر سر نجاحها الاقتصادي في السوق (كانت التغطية التلفزيونية الحية من ليبيا السبب الرئيسي في تحرك الحكومات الغربية لإنقاذ أهل بنغازي من مذبحة تعهد القذافي وأبناؤه بالإشراف المباشر على ارتكابها)، إلى جانب تكلفة الحرب حيث إن الاقتصاد يحدد كسب أو خسارة الانتخابات.

وبينما تواجه حكومة بريطانيا إضرابات بسبب إنقاص ميزانية الخدمات، تجاوزت تكاليف عمليات ليبيا 260 مليون جنيه إسترليني (400 مليون دولار)، بسبب استخدام قنابل ذكية وأسلحة حساسة، لأن الرأي العام البريطاني لن يقبل ضحايا بين المدنيين الليبيين.

وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني أثار قلق بنغازي ولندن بمطالبته بـ«إنهاء عمليات القتال» صبيحة اتفاق وزراء خارجية أوروبا على استمرار استراتيجية «الناتو». فطائرات سلاح الجو الملكي (RAF) تغطي أجواء ليبيا من مطارات إيطاليا، بسبب قرار حكومة ائتلاف المحافظين - الأحرار، غير الحكيم، بالتخلص من حاملات طائرات البحرية الملكية.

الجدل الآن في دهاليز «وايتهول» (مباني الحكومة) هو مراجعة كشف الحساب من البداية.. فالتورط في ليبيا جاء بضغط من الرأي العام لأسباب إنسانية وأخلاقية، ومقابل الإنفاق الباهظ واستهلاك المعدات لا توجد لبريطانيا منفعة استراتيجية في التدخل في ليبيا (كانت العلاقات التجارية والبترولية مع القذافي قبل اندلاع مظاهرات فبراير/ شباط تصب في مصلحة بريطانيا)؛ مقارنة مثلا بالمصالح الاستراتيجية مع الحلفاء التاريخيين في الخليج (هناك 260 ألفا من رعايا بريطانيا يقيمون بصورة دائمة في الخليج، مصدر أكثر من ثلثي طاقة تشغيل الاقتصاد البريطاني)، أو مع مصر مثلا، حيث الإجماع بين الحكومة والمعارضة في مجلس العموم على أن مساعدة مصر على الإصلاح الديمقراطي واستعادة إمكاناتها أهم مائة مرة مما يحدث في ليبيا أو أي مكان آخر، لدور مصر وتأثيرها الجغرافي والتاريخي في الشرق الأوسط الكبير.

وهنا تتباين استراتيجية المدى الطويل بين الحلفاء..

فإلحاق الهزيمة بالظاهرة القذافية، في قول أحد أكبر دبلوماسيي الخليج خبرة واحتراما، هو مصلحة استراتيجية ملحة للشعوب الناطقة بالعربية. فالقذافي يحارب في الخندق الأخير معركة حياة أو موت، دفاعا عن تيار ولد في مصر في يوليو (تموز) 1952 باستيلاء الضباط على السلطة (واندفع ليغرق العراق وتونس والجزائر والسودان وسوريا واليمن - مما يفسر دموية رد فعل الأنظمة على مطالبة الشعوب بالحرية) وقمع الحريات وإهدار الثروة والمعدات والأرواح في حروب افتعلوها لتبرير ديكتاتوريتهم، وقهر المواطنين، وتعطيل التطور الطبيعي لشعوبهم. وهو تيار يقاوم، منذ هزيمته في اختبار يونيو (حزيران) 1967، بوضع جثث آلاف المواطنين لاعتراض مكنسة التاريخ التي تدفعه نحو المزبلة.

اختيار الليبيين (في طرابلس وبنغازي) مصيرهم سيدق المسمار الأخير في نعش ظاهرة عكس العسكر لمسير عربة التاريخ. وبينما يعني إسقاط القذافية (كظاهرة أوتوقراطية عسكقومجية) صحوة المنطقة لتلحق بقطار تحرك من أوروبا الشرقية عام 1989، وهو ما يتمناه معظم الإصلاحيين ودعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن المفارقة أن هذا الهدف، المرغوب تاريخيا، لا يصب بالضرورة في مجرى نهر مصلحة استراتيجية المدى الطويل لبلدان حلف الناتو، بعد أن أصبحت ليبيا علامة طريق على مستقبل الحلف، من منظور آخر.

فلم يكن أحد يتصور قبل عشر سنوات أن يبدأ الحلف عمليات عسكرية، ثم تتخلى أميركا عن قيادتها بعد أسبوعين فقط. بل تفاخر الرئيس أوباما هذا الأسبوع بأنه لا يوجد عسكري أميركي واحد يشترك في العمليات ضد القذافي في ليبيا؛ وهو تعبير كان من المحرمات في خطابات أي من سابقيه، جمهوريين أو ديمقراطيين، منذ خمسينات القرن الماضي.

عندما تنادي إدارة أوباما بمساهمة أكبر من أعضاء الحلف، فهي تقصد أوروبا بعكس الواقع التاريخي، عندما كانت أميركا تفرد المظلة النووية وتقدم أكثر من 80 في المائة من عتاد وأسلحة وتمويل الحلف (إلى جانب انتقاد وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس لأوروبا في عدم الالتزام بتخصيص 2 في المائة من الناتج القومي لميزانية الدفاع، حيث لا يلتزم من الأعضاء الـ28 سوى أربعة فقط: أميركا وبريطانيا وفرنسا والنرويج).

أوباما سيكون أقل التزاما قبل انتخابات الخريف، والرأي العام في الدول الأوروبية الأعضاء ضد التدخل في ليبيا (حتى في بريطانيا التي تنقل شبكات تلفزيوناتها وحشية ودموية قوات القذافي من مرتزقة أو منتفعين أو أقلية مقتنعة بشعاراته الفارغة كزعيم ملهم). وسقوط القذافي بدوره ستنجم عنه أيضا إراقة دماء، لأن هناك قوى وتيارات مستفيدة من وجود القذافي أو معادية تاريخيا لبنغازي.

عنصر المعادلة غير الخاضع لتحكم الساسة (والقادة العسكريين) هو الزمن، حيث يعني اقتراب موعد انتخابات برلمانية أو رئاسية في دول «الناتو» الكبرى، مع ضغط رأي عام، اتخاذ قرارات لم تكن في الحسابات، وبالتالي تغلق نافذة الفرصة المتاحة لإنهاء الظاهرة القذافية الديكتاتورية اليوليوية (التموزية). عندئذ نواجه خيار إنقاذ ما تبقى من تحالف الناتو؛ أو القبول بأمر واقع وهو انقسام ليبيا فعليا إلى كيانين متنافسين في كل أوجه الحياة سياسيا واقتصاديا وثقافيا.

* نقلا عن "الشرق الأوسط" السعودية

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل