المحتوى الرئيسى

باهو عبد الله: دعوة لحملة .. نضال الكادحين هو الدستور

06/23 19:52

 

تطرح غالبية القوى السياسية ”العلمانية ” أو ”المدنية” شعار ”الدستور أولا” كنقطة انطلاق في مسار إدارة مستقبل مصر بحجج يتداخل بعضها في البعض الآخر، بحيث أصبح من الصعب فهم ما يجري وسط زحام التفاصيل التي تمثل متاهة سياسية لقطاع واسع من الناس. فما الذي يدفع ٤١ حزب سياسي وائتلاف شبابي إلى ترك كافة مطالب الثورة التي لم تتحقق والاصطفاف في معركة  كيفية صياغة دستور يعلم القاصي قبل الداني أنه من الممكن أن يصبح مجرد حبر على ورق ما لم تكن هناك قوى تحميه؟

للتدليل على هذا لا داعي أبدا للعودة للحديث عن دستور ٧١. تكفي الاشارة إلى إعلان 30 مارس 2011 الدستوري الذي انتهك حتى قبل أن يجف حبره. فنص المادة الخامسة يقول: “يقوم الاقتصاد المصري في جمهورية مصر العربية على تنمية النشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وكافة الأشكال المختلفة للملكية والحفاظ على حقوق العمال”. وبرغم ذلك لم تحل هذه المادة الدستورية دون صدور قانون تجريم حق عمال مصر في ممارسة الاحتجاج والإضراب والاعتصام، وهي الوسائل المتعارف عليها للمطالبة بحقوق العمال المصانة دستوريا؟!

 

الحقيقة أن ما يمكن تسميته مجازا بالمعسكر العلماني قد اجتمع على طرح ”الدستور أولا” خوفا من الاستحقاقات الجماهيرية الانتخابية. القطاع الأهم في هذا المعسكر والمتجسد في القوى الليبرالية يشعرون بأنهم سيخسرون في أي انتخابات قادمة. ولذلك فهم يتهربون من أي نتيجة انتخابية. وفيما يتعلق بالدستور بشكل خاص، يرى هذا المعسكر أن وضع الدستور من خلال جمعية تأسيسية منتخبة من مجلس الشعب القادم سيجعله يوضع لحساب جماعة الاخوان المسلمين.

 

في هذا السياق تظل هناك نقطتان رئيسيتان لا يصح إغفالهما. الأولى أن هذا الضعف الانتخابي ساري في أي عملية اقتراع جماهيري سواء كانت انتخابات برلمانية أو انتخابات لجمعية تأسيسية لصياغة الدستور. فما الذي يريده هؤلاء الليبراليين إذن؟ هل يريدون وضع الدستور من خلال توافقات فوقية بدون الدخول في”الصداع” الانتخابي؟

النقطة الثانية، وهي وثيقة الصلة بالأولى، تتعلق بالطريقة التي يمكن لأي قوة أن تقوم من خلالها بتغيير توازن القوى الراهن. فكيف يمكن تحويل الإخوان المسلمون من أغلبية انتخابية إلى أقلية انتخابية؟ بتعبير آخر: كيف يمكن مواجهة إشكالية جماهيرية الإخوان المسلمين؟ القوى العلمانية أو المدنية تقول أنها تحتاج إلى وقت حتى تكون قادرة على حل هذه الإشكالية. والحقيقة أن ما يحدث هو هروب للقوى العلمانية من الطريق النضالي الكفاحي لكسب الجماهير التي تخوض معارك يومية من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية إلى محاولة تسوية الأمور خارج العملية الانتخابية وخارج عملية التصويت الجماهيري برمتها. بلغة أخرى، ما يجري هو محاولة لتغيير الواقع بأكثر الطرق لا مبدئية.

فمنذ الأيام الأولى التي تلت خلع مبارك، ظهر المنادون بتطويل الفترة الانتقالية – الانتقامية بحسب الكثيرين – وباجراء الانتخابات الرئاسية قبل البرلمانية، بصرف النظر عن خطورة الصلاحيات المطلقة للرئيس علي العملية الديمقراطية. حتى مطلب انتخاب الجمعية التأسيسية المكلفة بصياغة دستور البلاد تم طرحه من جانب اطراف على استحياء بينما تجاهلته دون حياء أطراف أخرى.

الآن جرت في النهر مياه كثيرة، وما كان محسوسا بات جليا. فالأطروحات الجديدة لمعظم القوى المدنية-الليبرالية تشير إلى طبيعتها وحقيقة مطالبها. المسألة بالنسبة لهؤلاء ليست على وجه الإطلاق الديمقراطية بالمعنى الذي نفهمه : حق الجماهير في الاختيار حتى لو كان هذا الاختيار لا يروقنا، وإنما هي قضم قطعة من كعكة الحكم أيا كانت الوسيلة. والدليل على ذلك هو اتفاق كل هؤلاء على فكرة بائسة مضمونها صياغة ”وثيقة فوق دستورية” لا معنى لها ولا سابقة تمثل فقط أداة لإبرام صفقة مع الإخوان المسلمين خارج المنافسة الانتخابية وبمباركة المجلس العسكري. والدليل على ذلك كذلك هو حماسهم لإقامة حكومة ”وحدة وطنية” تضم الكل بمباركة المجلس العسكري وبالالتفاف على نتائج الاقتراع.

إذن فالمشكلة بالنسبة لهؤلاء ليست الإخوان وإنما الحكم. فإن رضي الإخوان بإبرام صفقة ”معقولة”، فلا ضرر ولا ضرار. لكن الحقيقة هي أن الطريقة الوحيدة لتخطي إشكالية شعبية الإخوان وتحالف القوى الإصلاحية-الرجعية الذي تشكل بعد الثورة لإيقاف مسارها هي خوض النضال الجماهيري حتى النهاية وليس الالتفاف عليه. فتجربة التاريخ تعلمنا أن الجماهير يتبدل وعيها في زمن الثورة بين يوم وآخر. التجربة الثورية الهائلة هي خير معلم. ففي اليوم الأول للثورة تلتف الجماهير، في الأغلب، حول القوى المعارضة الأكثر بروزا قبل الثورة. ولكن التجربة على الأرض تعلم تلك الجماهير ذاتها، في غضون أسابيع قليلة، أن من كانوا يظهرون بصفتهم القيادة المخلصة للثورة، لا يريدون تحقيق أيا من المطالب الثورية البسيطة. ومن هنا تبدأ الجماهير في تغيير اصطفافاتها ومواقفها. تظل الثقة في تطور وعي الجماهير خلال الثورة، والانغماس الحقيقي في نضالاتها اليومية، والإصرار على رفع مطالب الثورة بلا تذبذب، وكذلك إقامة التحالفات الصحيحة، جنبا إلى جنب مع الصبر الثوري، هو الطريق إلى كسب الجماهير إلى صف القوى السياسية الثورية، وليس الهروب من نتائج العملية الديمقراطية.

الحقيقة أن القوى المدنية الليبرالية، التي وقفت ضد الإخوان لأسابيع ثم حاولت بعد ذلك عقد صفقة معهم، ليست في معظمها قوى ثورية. فما يحدث من التفاف على العملية الديمقراطية عبر تفاوض فوقي مع المجلس العسكري ليس من مدنية الدولة في شيء، والاستناد الى حكم العسكر لتجنب الدولة الدينية هو، في أحسن الأحوال، عودة إلى الاستبداد. وعلى مستوى آخر، قطاع واسع من المعسكر العلماني غائب تماما عن ساحة المعارضة السياسية للمجلس العسكري ولحكومة شرف – حالهم في ذلك كحال الجماعة المدانة لذات الأسباب. فلا اعتراض من جانبهم على محاكمة المدنيين عسكريا أو على قانون تجريم الاحتجاجات أو قانون مباشرة الحقوق السياسية أو تحويل الصحفيين للنيابات العسكرية للتحقيق. أضف إلى كل ذلك ما ذكرناه لتونا من استعداد ذات القوى إلى الدخول في تحالفات انتخابية مع من يدعون أنهم ينتمون الى معسكر الثورة المضادة والرجعية.

 

نقطة أخيرة: إنصافا لقطاع واسع من الشباب ولقسم من الليبراليين المتبني لشعار ”الدستور أولا ”، لا مفر من القول بأن الحافز الرئيسي لتحركهم هو مخاوفهم المتزايدة من امتصاص ما أنجزته الثورة وإحباطهم الناتج من شعور تسرب إليهم بأن حلما يتبخر من بين أيديهم . بتعبير آخر: ينتمي كثير من الملتفين حول شعار ”الدستور أولا” من الشباب إلى معسكر الثورة ويتحمسون لهذا الشعار لاعتقادهم أنه الطريق إلى استمرارها وتجذيرها.

لكن طريق ”الدستور أولا” ليس الطريق إلى استمرار أو انتصار الثورة، بل إلى تغذية الاستقطاب العلماني الديني على حساب الاستقطاب الاجتماعي والطبقي . ان طريق استمرار الثورة، فيما يتعلق بمسألة الدستور، هو النقاط الآتية: أولا الإصرار على تضمين الدستور مبادئ اجتماعية واقتصادية وشعبية تضرب وحشية النظام الاقتصادي الليبرالي الجديد في الصميم (مثلا النص على ضمان الدولة لحق العمل لكل قادر وراغب في العمل، والنص على مجانية التعليم ذو المستوى المتميز لكل الشعب، والنص على مجانية الخدمات الصحية لكل مصري، والنص على حق كل مواطن معاق أو مريض أو فوق الستين في الحصول على معاش مناسب، والنص على اعتبار التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم، وخلافه)؛ ثانيا الإصرار على المناقشة الجماهيرية من أسفل للدستور من خلال تنظيم اجتماعات شعبية في المصانع والشركات والمزارع لصياغة نقاطه ومبادئه؛ ثالثا الإصرار على انتخاب جمعية تأسيسية انتخابا مباشرا تقوم بوضع الدستور.

لكن طبعا هذه السياسة فيما يخص الدستور لن يكون لها قيمة إلا كجزء من سياسة شاملة لدفع الثورة إلى الأمام. وقوام هذه السياسة هو البدء ببلورة جبهة استمرار الثورة التي من واجبها الانخراط في الحركة الجماهيرية الاجتماعية ومحاولة دفعها لتبنى مشروعا سياسيا مضمونه توريط كل القوى المهادنة في شر أعمالها من خلال طرح المطالب الجذرية للثورة على المجتمع والإصرار عليها. فإن كانوا هم يدخلوننا في متاهات توزيع كعكة الحكم واشكاليات الدستور، فنحن سنطرح مطالبنا بإسقاط قانون تجريم الاحتجاجات وقانون الأحزاب، وبالتبني الفوري لبرامج اجتماعية متقدمة، وبتحقيق المساواة بين المواطنين. ولنر ماذا سيقولون وماذا سيفعلون… في الأغلب سنجد المتنافرون يتفقون على تقزيم الثورة وإيقافها! وساعتها لابد أن نكون مستعدين لمواجهة تحالف الثورة المضادة.

 

مواضيع ذات صلة

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل