المحتوى الرئيسى

التوافق الثقافي

06/22 18:42

بقلم: د. حلمي محمد القاعود

عاد الأديب الكبير الرائد أحمد حسن الزيات من العراق عام 1933م، بعد انتهاء عمله في مدرسة المعلمين العليا، وبمدخراته أنشأ مجلة (الرسالة) التي استمرت قرابة عشرين عامًا، وأغلقت مع بدايات عهد 1952م، كان الزيات يحمل تصورًا إسلاميًّا ناضجًا، غذته ثقافة فرنسية عميقة، فقد درس في فرنسا، وعلم طه حسين الفرنسية، ورافقه في بعثته مع صديق ثالث هو عبد الحميد العبادي- رحمهم الله جميعًا.

 

وبروح التسامح والأصالة استطاع الزيات أن يجمع على صفحات (الرسالة) ألوان الطيف الثقافي في تناغم منتج وتوافق مبدع بحق، مع مستوى جيد وجاد، لا يترخص في أي مستوى من مستويات التعبير أو التحرير، ويكفي أن المجلة على امتداد تاريخها تكاد تخلو من الأخطاء المطبعية والإملائية، فضلاً عن النحوية والعروضية ونحوها، وكان الخطأ المطبعي أو الإملائي أو العروضي يواجه بسيل من رسائل القراء لتصحيحه، وهو ما كان يفرض على الكتاب والأدباء ضرورة الاهتمام بإتقان العبارة والصياغة كتابة وتحريرًا.

 

والأهم من ذلك كله أن (الرسالة)- ولها من اسمها نصيب كبير- استطاعت أن تكون سفيرًا مصريًّا فوق العادة لمصر، ليس في البلاد العربية فحسب، بل في أرجاء العالم الإسلامي؛ حيث كانت صفحاتها تعرف كُتَّابًا من العواصم والبلاد الإسلامية جميعًا، وكانت هذه العواصم تسمى يوم وصول (الرسالة) إليها بيوم الرسالة بدلاً من يوم الثلاثاء أو الأربعاء أو الخميس.

 

في ربع القرن الأخير لم تعرف مصر مجلة مصرية على مستوى (الرسالة) التي كانت تطبع على ورق متواضع وتظهر في شكل متواضع، ولكنها كانت رفيعة القيمة والمستوى، ومع تعدد الإصدارات في ظل النظام البائد فلم يعرف الناس في مصر مجلة ذات أهمية فكرية أو قيمة أدبية، وسبب ذلك يرجع إلى الفساد الثقافي الذي عاشته مصر، وعشش في كل الأركان، بل تحول- يا للعار!- إلى أداة خسيسة لمحاربة الهوية الثقافية للأمة، والترويج لثقافات غريبة، وقيم غريبة، وتصورات غريبة، وللأسف تم ذلك بأموال المصريين أصحاب الهوية الثقافية المستباحة!.

 

كانت وزارة الثقافة التي يفترض أن تعلي من قدر الثقافة القومية وتجليها وتعظم من قيمتها، في الخندق المضاد للأمة، وعلى مدى ربع قرن من الزمان أهدرت أموال الشعب البائس المقهور على المهارج والمؤتمرات الجوفاء والجوائز التي تُعطَى لِمَن لا يستحقون، والتكايا التي يغترف منها الأنصار والأتباع ما لا يحل لهم ولا يجوز..!.

 

كانت وزارة الثقافة تعتمد سياسة الإقصاء وتتحدث عن التعددية، وتتكلم عن الحرية وتمارس الاستبداد، وتدعي الديمقراطية وتطبق الديكتاتورية، وتشير إلى الإنجازات وتحقق الخسائر.

 

وفي الوقت ذاته كانت الأغلبية الجادة من المثقفين تحترم نفسها، وتنأى نتيجة الإقصاء عن الوزارة ونشاطاتها، بدءًا من رفض الوزير الذي جاء قبل ربع قرن على غير رغبة جموع المثقفين إلى مقاطعة مهارجه ومؤتمراته.. ونتج من ذلك انقسام واضح في جماعة المثقفين، فقد انحاز إلى ثقافة السلطة نفر ممن سعوا وراء مصالحهم الخاصة، ورأوا في الولاء للسلطة المستبدة فرصة ذهبية لإقصاء مخالفيهم في الفكر والتصور، ولتخلو الساحة لهم وحدهم يغترفون من الأموال والمنافع المادية والمعنوية ما يشاءون، الفريق الآخر ويمثل الأغلبية انحاز إلى الهوية الثقافية للأمة وفكرها وتراثها ومستقبلها، وإن ظلَّ بعيدًا عن وسائط التعبير والتوصيل.

 

كان الفريق الأول الذي يمثل الأقلية، يغترف من المكافآت والبدلات بغير حدود. كانت هناك لجان في مجالس لا يعدو تأثيرها ما يُكتب على الورق، وكانت هناك جوائز في الأدب والفكر تمنح لِمَن لا يحسنون الإملاء ولا يتقنون النحو والصرف، ولا علاقة لهم بالبحث العلمي؛ فضلاً عن الأمانة العلمية، وكانت مجلات فاشلة لم تعمر ولم تستمر يتقاضى مصدروها مكافآت ومرتبات، وكانت هناك تكية شهيرة اسمها "التفرغ" تخصص مرتبات لِمَن يجلسون على المقاهي في الغالب ولا ينتجون شيئًا ذا قيمة، وبعضهم تخصص له مرتبات مميزة لا يستحقها، وكانت هناك مهارج ينفق عليها الملايين وحصادها صفر، أو إهانة الإسلام (تأمل مثلاً مؤتمر تغيير الخطاب الديني وأعماله وتوصياته!)، وكانت هناك احتفاليات لإهانة الشعور الوطني ينفق عليها الملايين (تأمل الاحتفال بحملة نابليون على مصر تحت سفح الهرم!)، وكانت هناك مهارج للسينما وما يسمى المسرح التجريبي وفنون النحت والرسم، وحصادها إنفاق بغير طائل، واستعراض أمام آلات التصوير، وكانت هناك جريدة أسبوعية تنطق باسم الوزير وتدافع عنه، ولا تتوقف عن هجاء الإسلام، وتدعو إلى التخلي عن القدس، وتحقق خسائر فادحة ولما تزل؛ وكله من دم الشعب المصري البائس!.

 

كانت الإيجابية الوحيدة التي تم تفريغها من مضمونها هي مركز الترجمة، وكانت الكتب التي تصدر في البداية مفيدة ومهمة، ولكن الأمر تحول إلى ترجمة ما يصادم الأمة ويناقض عقائدها، دون تقديم يشرح ويفسر وينبه وينتقد..

 

وكان الحصاد النهائي أن مصر تخلَّفت ثقافيًّا تخلُّفًّا مريعًا، ووجدنا بعض الدول العربية تحقق تفوقًا ملحوظًا في المجال الثقافي، وهو تفوق يسهم فيه المصريون المطرودون من جنة وزارة الثقافة بنصيب كبير!.

 

المفارقة أن الوزير صانع الفساد الثقافي دعا ورجاله في أواخر العهد الاستبدادي البائد إلى مؤتمر لوضع إستراتيجية ثقافية تنقذ الثقافة المصرية.. أي بعد ربع قرن من الممارسة والتطبيق والإفساد يأتي الفاسدون بمشروع مؤتمر لإصلاح ما أفسدوه؟! وهي مفارقة مضحكة مبكية على كل حال.

 

بيد أن المفارقة المهمة تشير إلى أن الثقافة في بلادنا قبل حركة الجيش عام 1952م كانت مزدهرة في شتى المجالات، فقد أتاح مناخ الحرية السائد آنئذٍ أن تزدهر المواهب الأدبية والفكرية والفنية، فرأينا حركة نشر غنية، وكتابًا ممتازين من جيل عظيم، ومؤلفات قيمة، ومسرحًا مهمًّا، وسينما ذات أهداف وغايات راقية، وقبل ذلك وبعده توافقًا ثقافيًّا يسمح لجميع القوى والاتجاهات والتيارات أن تعمل متجاورة متناغمة دون إقصاء أو تشهير أو مغالبة أو تعتيم أو تجاهل (تأمل: وجود سيد قطب ووديع فلسطين ومحمد مندور ونجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله وسلامة موسى وعبد الرحمن الشرقاوي وعلى أحمد باكثير ومحمد سعيد العريان ومحمود البدوي وعبد الحميد جودة السحار وأمين يوسف غراب وغيرهم.. وكل منهم يمثل اتجاهًا ما أو فكرًا ما أو تيارًا ما).

 

كل هذا التنوع المفيد كان يعمل في إطار التوافق الخلاق، كما كان يعمل وفق الجهد الخاص، أو العمل التعاوني المشترك بين المثقفين أنفسهم؛ حيث لم تكن هناك وزارة ثقافة تملك مئات الملايين تغدقها على مَن تحب، وتحجبها عمن تكره، ولم تكن هناك مؤتمرات أو مهارج أو تكية تفرغ أو تكية نشر في أكثر من هيئة من هيئات السلطة الثقافية المستبدة، ولم يكن هناك جيش عرمرم من الموظفين والمسئولين والمستشارين الذين يفترض أنهم يخدمون الثقافة، ولكنهم أبعد ما يكون عن خدمتها أو فهم طبيعتها.

 

لقد حققت وزارة الثقافة في ربع القرن الأخير نجاحًا مذهلاً في خدمة الاستبداد البوليسي الفاشي وتمزيق المثقفين، وتقسيمهم إلى فسطاطين اثنين، فسطاط المستنيرين التقدميين وغالبهم ينضوي تحت راية ما يسمى العلمانية بألوانها المتعددة، وهذا الفسطاط يرفض الثقافة الإسلامية رفضًا كاملاً، ويحارب الهوية القومية لحساب الثقافة الغربية بخيرها وشرها، وفسطاط الظلاميين المتخلفين، وهم وفقًا لمفاهيم وزارة الثقافة من يؤمنون بالإسلام ويعتقدون بجدوى الثقافة القومية وضرورة الحفاظ على الهوية الحضارية للأمة التي تتفاعل مع الحضارات الأخرى ولا تنسحق أمامها.

 

الفسطاط الأول بمفاهيم وزارة الثقافة وأموال الأمة هو صاحب الصدارة وحق الوجود وحده، والفسطاط الثاني الذي يمثل الأغلبية ليس له إلا الاستئصال والتغييب التام، مع أنه الذي يدعم ميزانية الثقافة التي تدلل سدنتها بالعطايا والغنائم.

 

الآن فإن التوافق الثقافي في العهد الجديد، يقتضي إسقاط فكر الاستئصال والإقصاء، ويفرض الديمقراطية والحوار وحق الوجود لكل التيارات والاتجاهات والآراء، وللناس أن تنحاز إلى ما تراه مناسبًا لها.

 

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل