المحتوى الرئيسى

التحديات اليابانية جذور الأزمة والتوابع السياسية

06/18 00:42

اتسم مسرح الأحداث في اليابان خلال شهر يونيو الحالي بالصخب الشديد في المجال السياسي والجدل الحاد علي الصعيد الاقتصادي‏,‏ بحثا عما يفترض فيه ان يؤدي إلي أفضل السبل واكفأ الآليات التي يمكنها ان تخرج طوكيو من الدائرة المفرغة لسلسلة التحديات التي فرضتها غضبة الطبيعة في شهر مارس الماضي.

 والتي تمثلت في زس زس. أكثر من15 ألف شخص وتشريد تسعين ألفا آخرين, مع انكماش الانتاج الصناعي ومعدل النمو والصادرات بينما ارتفع معدل البطالة. إلا أن هذه الأوضاع لم تشفع لرئيس الوزراء الياباني ناوتو كان من محاولات الاطاحة به من منصب رئيس الوزراء الخامس منذ أربعة أعوام, والتاسع والعشرين منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية, والعمل علي إقصائه من المنصب ورئاسة الحزب الديمقراطي في آن واحد بحلول شهر يوليو القادم, مما جعل خطط إعادة البناء والانعاش رهينة للمناورات السياسية.

وعلي الرغم من تحذيرات صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية, وتصاعد القوة الاقتصادية للجارة الآسيوية, الا وهي الصين التي ازاحت اليابان من مركز ثاني أكبر قوة اقتصادية عالمية, ثم الإعلان عن تخفيض الجدارة الائتمانية للديون السيادية اليابانية من جانب مؤسسات عالمية, والإشارة إلي ضخامة الكارثة البشرية اليابانية علي مدي أكثر من قرن, والرابعة علي صعيد العالم منذ نهاية القرن التاسع عشر, وتصاعد التحذيرات الدولية من من تنامي المناورات السياسية والحزبية إلا أن المناورات مستمرة وتضفي مزيدا من الظلال القاتمة علي الواقع والتوقعات الاقتصادية لليابان.

استعراضنا لهذه الأحداث ودلالاتها لا ينفصل عما نشهده علي أرض الواقع فيما يتعلق بالجدل السياسي وتفتت الرؤي وتنازع المصالح التي تدفع بالاقتصاد المصري إلي خانة العربة المتعثرة, وليس القاطرة القائدة للنمو والتنمية! وإذا كانت التجربة اليابانية قد قدمت الالهام للعديد من الاقتصاديات الآسيوية, وعلي رأسها الصين وقبلها كوريا الجنوبية, فان التحديات الراهنة التي تواجه طوكيو جديرة بالدراسة والمتابعة ليس علي مستوي الأداء الاقتصادي والسياسي للحكومة, ولكن لمعرفة الدور الذي يلعبه المواطن الياباني الذي يمثل عصب النجاح الاقتصادي الذي تحقق, وهو الكفيل بالخروج ببلاده من دوامة التحديات الراهنة, وهو ما نتطلع الي ان يكون عليه الوضع علي المستويين المحلي والاقليمي, بحثا عن النمو والتنمية والعدالة الاجتماعية التي رفعت شعارها ثورة25 يناير.

التحديات الاقتصادية العاجلة

الحديث عن التحديات الاقتصادية التي تواجه اليابان حاليا, لا ينحصر في النتائج المترتبة علي الكوارث الطبيعية والنووية وانعكاساتها علي البنية الأساسية, ولكنه يعود إلي أزمات مزمنة ومتراكمة في الاقتصاد الياباني علي مدي عقود وتحديدا منذ التسعينيات من القرن الماضي الذي يعرف بالعقد المفقود, ثم جاءت الأزمة المالية العالمية لتطيح بما تحقق خلال السنوات الأولي من القرن الحادي والعشرين, وجعل الصين تطيح باليابان من مركز القوة الاقتصادية العالمية الثانية, بعد الولايات المتحدة لتحتل المرتبة الثالثة.

وطبقا للمؤشرات الخاصة بالأداء الاقتصادي خلال الفترة التالية للكارثة فقد انخفض معدل النمو خلال الربع الأول بنسبة7,3% والانتاج الصناعي بنسبة9,12% خلال شهر الكارثة المزدوجة مع ارتفاع البطالة إلي6,4% من حجم القوة العاملة. وهي نسبة قد تبدو غير مرتفعة ولكن يؤخذ عليها ان أرقام المشتغلين تشمل العمالة المؤقتة وتلك التي تعمل لعدد ساعات محددة. كما تأثر القطاع السياحي الذي كان يشهد أكثر من35 مليون سائح سنويا وانخفاض القوة الشرائية بنسبة20%.

كان للكارثة الطبيعية النووية المزدوجة تبعاتها التدميرية للبنية الأساسية في مناطق الشمال الشرقي, وتوقف تشغيل المجمع النووي في فوكوشيما الذي يضم ست مفاعلات نووية مسئولة عن توليد الطاقة الكهربائية وتوفيرها لدفع عجلة الانتاج الصناعي والحياة المعيشية, مما يقلل الاعتماد علي النفط الخام.( تساهم الطاقة النووية بنسبة30% من حجم الطاقة الكهربائية المولدة. وكان يستهدف الارتفاع بالنسبة إلي50% بحلول عام2030) ومن ثم فان استمرار التوقف يعني استمرار الانكماش الاقتصادي في هذه المناطق.

تم وقف العمل كذلك في ثلاثين مفاعلا نوويا من اجمالي المفاعلات النووية اليابانية التي تعمل علي نطاق اقتصادي والتي تبلغ54 مفاعلا, وذلك لمراجعة اعتبارات الأمن والسلامة, إضافة إلي الصيانة الدورية. وهذا يعني بصورة أخري التأثير علي عجلة الانتاج والنمو الاقتصادي حتي في الساحل الغربي الذي يعتبر طوق النجاة للخروج من كارثة الساحل الشمالي الشرقي. وقد ارتبط بهذه التداعيات انقسام حاد في الآراء حول الاستمرار في استخدام المفاعلات النووية لتوليد الطاقة ما بين معارض مستند إلي اعتبارات الأمان, ومؤيد يضع نصب عينيه النمو الاقتصادي.

بالإضافة إلي ذلك تواجه عملية توفير تمويل إضافي يقدر بنحو310 مليارات دولار لعبة الكراسي الموسيقية بين رئيس الوزراء ناوتو كان وزعيم الحزب الديمقراطي الياباني, وفي ذات الوقت بين معارضيه وبعض وزراءه, الذين يطالبون باستقالته من منصبه, وان يتم اقرار الميزانية الإضافية في شهر يوليو القادم من جانب رئيس الوزراء الجديد, وهذا يعني ان الاقتصاد قد اصبح رهينة الانقسام والتفتت علي صعيد المسرح السياسي والحزبي في اليابان.

الجذور الكامنة

إذا كانت الكارثة الطبيعية النووية هي المصدر الأساسي للتحديات الاقتصادية التي تواجه اليابان والتي عمقتها التطورات السياسية, إلا ان الواقع يشير إلي ان جذور الأزمة الاقتصادية تعود إلي أسباب متعددة ولسنوات متراكمة أدت إلي الحرج والتحديات الراهنة, ودفعت بتوالي التحذيرات وانكماش التوقعات من جانب مؤسسات اقتصادية دولية, وأخري عاملة في مجال الجدارة الائتمانية.

فمع التسليم بان هذه الميزانية الإضافية ضرورة لاخراج الاقتصاد الياباني من الدائرة المغلقة واستعادة الانتعاش, الا ان تراكم الدين العام الذي تجاوز نسبة200% من اجمالي الناتج المحلي ويتوقع له ان يصل إلي230% خلال العام الحالي جعل هذه الميزانية تمثل عبئا إضافيا, علي الرغم من أهميتها لتحفيز الانتاج وتواصل الصادرات.

يضاف إلي ما سبق القوة النسبية للعملة اليابانية الينس أمام فيض الصادرات الصينية للأسواق الأمريكية والعالمية حيث بلغ82 ينا للدولار. تلك النقطة جديرة بالاهتمام والتركيز ويجب ان تكون درسا للدول النامية والصاعدة اقتصاديا, وفي مقدمتها مصر. فانخفاض قيمة العملة الوطنية قوة دافعة للصادرات إذا كان هناك انتاج وجودة للمنتج. لقد حققت اليابان معجزتها الاقتصادية علي مدي السنوات منذ عام1955 حتي ما قبل التسعينيات من القرن الماضي في ظل معدل صرف للين في مواجهة الدولار تدرج من360 ينا إلي236 ينا. وقد كان للانتعاش والطفرة الاقتصادية الضخمة دورها في ارتفاع حمي المضاربة في البورصة وشراء العقارات التي انتهت بالفقاعة العقارية, ثم العقد المفقود في التسعينيات. ثم جاءت بداية القرن الحادي والعشرين بمزيد من التفاؤل وارتفاع معدل النمو, ثم امتصاص الصدمة المالية العالمية, محققة معدلا بلغ9,3% للنمو الاقتصادي عام2010, وهو أعلي معدل علي مدي عشرين عاما, بعد انخفاض بنسبة4,6% خلال2008-.2009

ويأتي النظام الضريبي الذي يتسم بانخفاض ضريبة المبيعات التي لا تتجاوز5% وارتفاع نسبة الاعفاء علي ضريبة الدخل للأفراد, ليشكل الركن الثالث في مأزق التحديات الاقتصادية ذات الجذور التاريخية.

أما الركن الرابع فهوالركود التضخمي الذي نجم عن ارتفاع الدين العام وعجز الميزانيات المتتالية رغبة في زيادة الانفاق العام علي مدي أكثر من عقدين, مما دفع المنظمات الاقتصادية العالمية والمالية إلي التحذير من استمرار هذه الأوضاع, وعلي الرغم من حيازة البنك المركزي الياباني لثاني أكبر احتياطي نقدي عالمي بعد الصين.

رؤية المؤسسات المالية

إذا كان صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي قد اطلقا تحذيراتهما بالنسبة للاقتصاد الياباني, فان مؤسسات التقييم الائتماني مثل مودي وس س سس مجال خفض الترتيب الائتماني لليابان لأول مرة منذ تسعة أعوام نظرا لتضخم الدين العام, مما انعكس علي عنصر المخاطرة المحيطة بالديون السيادية طويلة الأجل.

أما صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي فقد تضمنت تقاريرها التحذير من انخفاض معدلات النمو خلال العام الحالي, بحيث ينكمش بنسبة7,0% من اجمالي الناتج المحلي والتوقع بان يرتفع النمو إلي9,2% خلال العام2012, مع استرداد عافيته في النصف الثاني من العام الحالي. التوصيات التي تضمنتها التقارير هي خطوات منطقية في ظل الظروف والتحديات الراهنة والجذور التاريخية للأزمة, وهي جديرة بالقراءة والتحليل من جانبنا, حتي نخرج من حالة الحساسية الشديدة إزاء مثل هذه التوصيات التي تضمنت:

أولا: ضرورة اتخاذ إجراءات فعالة لمواجهة الدين العام وخفض نسبة صافي الدين إلي اجمالي الناتج المحلي.

ثانيا: مواجهة الركود التضخمي من خلال زيادة الطلب لدعم النمو والمزيد من التكامل في القارة الآسيوية لدفع التنمية الاقليمية.

ثالثا: إعادة النظر في ضريبة المبيعات لترتفع بنسبة5% إلي10% أو أكثر بحيث تحقق مصدرا يعتد به لإيرادات المالية العامة مما يسهم في خفض الدين العام المتراكم وتمويل مشروعات إعادة البناء.

رابعا: إقرار الميزانية الإضافية لتغطية تكلفة تعمير الساحل الشمالي الشرقي ضرورة لا مفر منها, مع وجود استراتيجية مالية فعالة وطويلة الأمد للتعامل مع العجز المتتالي للميزانيات.

القيود السياسية والمنافسة الصينية

إذا كانت التوصيات الدولية والتحذيرات الائتمانية قد قدمت روشتة الخلاص الاقتصادي لليابان, إلا ان طبيعة الأحداث في المسرح السياسي والحزبي, قد لا تسمح لمثل هذه التوصيات بالترجمة إلي واقع فعلي, إلا إذا أخذ المواطن الياباني علي عاتقه ما سبق ان أنجزه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية, وهو ما يحمل نافذة الأمل في الاقتصاد الياباني.

من المفارقات السياسية ذات التوابع الاقتصادية, ان يكون الحزب الديمقراطي الياباني الذي شغل مقعد المعارضة لسنوات في مواجهة الحزب الليبرالي الديمقراطي, والذي كانت سياسته المعلنة مع توليه الحكم, استعادة الاستقرار المالي وتضييق الفجوة بين الطبقات هو الذي يواجه الموقف الصعب حاليا.

وبينما نظر المحللون إلي توليه الحكم باعتباره ثورة سياسية يابانية, إلا أنه لم يسلم من آفة الانقلابات الحزبية الداخلية والتي تتردد أصداؤها علي المسرح السياسي الآن وتجعل الاقتصاد رهينة لها. والدليل هو ما تشهده طوكيو حاليا من جدل حول الميزانية الإضافية, والاقتراع بالثقة برئيس الوزراء في البرلمان الياباني الذي اجتازه بعد وعده بالتخلي عن منصبه في أقرب وقت. إلا ان إعلانه عن عزمه مغادرة منصبه قبل الوفاء بالتزاماته حتي النهاية, وتحديدا حتي شهر أغسطس, جعل معركة الخلافة

تحتدم وتتقدم زمنيا إلي شهر يوليو القادم.

فهل يستطيع الاقتصاد الياباني الفكاك من القيود السياسية التي أعاقت أداءه؟ هل يستطيع الحزبيون والسياسيون أن يأخذوا في الاعتبار القوة الاقتصادية المتصاعدة للصين التي اصبحت ليس منافسا تجاريا فحسب بل منفذا رحبا للصادرات والاستثمارات اليابانية علي حد سواء(20% من اجمالي الصادرات و70% من حجم الاستمثارات اليابانية المعادلة في أمريكا الشمالية) ناهيك عن المنتجات التي تصنع في الصين وتستهلك في السوق المحلية. إذا أضفنا إلي ذلك تعاظم الاحتياطي النقدي الصيني من العملة اليابانية الين وحجم مشترياتها من سندات الديون السيادية الطويلة وقصيرة الأجل علي حد سواء, وكيف تؤثر عمليات البيع والشراء لهذه السندات علي قيمة الين, لاتضحت لنا أبعاد الواقع الاقتصادي الذي يقتضي المزيد من المرونة السياسية وليس لعبة الكراسي الموسيقية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل