المحتوى الرئيسى

غادة نبيل تكت: أصل وصورة

06/18 12:47

كيف السبيل لردم المسافة الطفولية فى تصوراتنا بين شكل إنسان ما وفعله ؟ .

أستدعى هنا الأمثلة القريبة من ذاكرة واقعنا العربى القريب وحتى الآن .

بشار الأسد . من أسطع الأمثلة . طبيب عيون أصلاً . طفولة وهدوء صوتى يقترب من ضحايا المجازر والاضطهاد فى تاريخ البشرية . علاء وجمال مبارك : وسامة غير مصرية تُصدّر لك سمتاً يوحى بالرقى ويدل على اللياقة الجسدية التى نعرف ( أى اللياقة ) أنهما يتمتعان بها . والجاسوس الإسرائيلى إيلان المقبوض عليه مؤخراً فى القاهرة . كان يبتسم لنا فى التحرير يوم 27 مايو الفائت كما ذكرنى صديق . الجاسوس من حيث حجم الجسد والشكل ليس وسيماً لكنه هزيل نحيف إلى الحد الذى يجعلك تخاف على هشاشته ,  عدا الطفولة البادية فى وجهه كأنما لطالب لم يتخرج . الآخر الذى يبيد شعبه حالياً هو ذلك العقيد الذى كنا نتندر فى الكاريكاتير الصحفى أيام الرئيس السادات على جنونه وخاصة بعد سلسلة التفجيرات فى مصر فى عصر ذلك الرئيس التى ثبتت فيها مسئولية القذافى وأدواته .

كنا فى ليبيا لفترة وجيزة هى انتقال بين عهدين : عهد الملك إدريس السنوسى , وثورة الفاتح من سبتمبر . أذكر كيف كانت " التمرجية " الليبية لدى أبى واسمها خيرية تغنى أسفل صورة مُعمرها مترنمة " رب يصونه مُعمّر " . وكان - فى شبابه – صاحب وسامة خشنة تعتمد على كاريزما وإيحاءات صورته الشبابية قبل تقنيات النيولوك .

جميعهم احتالوا بالوسامة والشباب واللياقة والجاذبية الجسدية والصوتية لابتكار أداء ينتهج مقاربات مختلفة مع الجماهير . بينهم جميعاً رابطة الديكتاتورية كصلة الدم وفى حالة البعض كبشار مثلاً تم تدعيم الصورة بالخلفية المهنية لصاحبها بهدف توكيد البُعد الدعائى له بوصفه العاهل الرحيم المحب لشعبه , ولم لا , طالما فكرة الطبيب فى الثقافة الإنسانية تبدو معادلاً أوتوماتيكياً للرحمة , وإن كنا لا نلاحظ تأثير الصفة المهنية لـ " الدكتور " أيمن الظواهرى على " صورته " ليس فقط لممارسات القاعدة بل لافتقاره للوسامة ولمنظر تلك العمامة السحيقة والأصولية الدلالة التى تتدلى من وجه صاحبها لحية شائبة .

لا يصح إدراج اسم الزعيم جمال عبد الناصر فى نفس السياق , ليس لكونه كان محبوباً  فهناك من ينتقده ويرفضه , وإنما لأن ثمة خطأ أخلاقى مبدئى يترتب على وضع زعيم كان له مشروع قومى وكان يتمتع – مثله – بكل تلك الجماهيرية والكاريزما الجارفة , فى سياق مقارنات من أى نوع مع من تسعى شعوبهم والعالم لإدانتهم فى جرائم حرب , وأيضاً مع جاسوس إسرائيلى ! .

استثناء عبد الناصر – على شدة وسامته وعينيه الصقريتين كمثال لتأثير الشكل وهيبة زعيم أمة – هو استثناء نابع من فكرة هى بذاتها معكوس ما تنهض عليه حجة هذا المقال .

أى الالتحام والتطابق بين الشكل رهيب التأثير على الجماهير , الخالق للانجذاب قبل بذل أى جهد من المُستقبِل أو المشاهِد , مدعوماً بالصوت وموهبة الإلقاء , وبين الفعل الذى كانت تلك الجماهير تواقة إلى رؤية تحققه وراغبة فى تصديقه فى واقع مصر الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين , إلى أن حدثت نكسة 1967 وبعدها خرجت تلك الطفولة الجماهيرية هادرة فى شوارع مصر لأن الطفل لا يستطيع أن يستمر دون أبيه ولا يسمح للأب بالانسحاب كما لا يغفر له الانتحار . بعدها حدثت الصدمة بتكشف أشياء حرص نظام السادات على إبرازها لكنها لم تصل إلى حد امتساخ الرمز تماماً , وعلى غرار إعادة الاعتبار إلى صورة الهندى الأحمر فى السينما الأمريكية بعد عقود من أفلام الويسترن ( الغرب الأمريكى ) تمت إعادة اعتبار جزئية لعبد الناصر بعد زمن تكشفت فيه خطايا غيره ممن أتوا بعده . يبقى مشهد زميلى طالب المدرسة الثانوية الذى كان يضرب تمثال نصفى لعبد الناصر بمدخل المدرسة فى عهد السادات ومشهد آخر لسيدة تهبط من سيارة ميكروباص من سنوات , تخلع حذاءها لتضرب اسم أنور السادات على لوحة تذكارية رخامية عند تفرع كوبرى 6 أكتوبر المصرى فى عهد مبارك , ثم ضرب صور مبارك بالأحذية فى كل محافظات مصر , ولكن فى عهده وحياته .

المسافة المعاكسة ما بين شكل وأفعال الآخرين تبقى مصدراً لإيلام ذكائنا على المستوى الفردى . أما على المستوى الجمعى فهى تطيل أعمار الطغاة , ليس فقط لاستثمارهم السينمائى للشكل بل بفعل رغبة الجماهير أن تصدق جوهر الفعل داخل سياق القناع , مهما ارتكب الطاغية و يظل أى " تبرير " يتم تقديمه , منطقياً , طالما لم تقنع الجماهير نفسها بقبول الحقيقة , وهى حقيقة يتواصل تأجيل مواجهتها , بحكم الثمن الذى تتطلب دفعه من الجماهير , وتستمر تغذية " الصورة " التى يتم تقديم " السيد الرئيس " أو الزعيم عليها , ليل نهار فى الميديا , إلى أن تحدث اللحظة غير مفهومة التوقيت التى يخرج فيها الشعب , بلا تخطيط حقيقى أو دراسة , للشارع . من تلك اللحظة , وحتى قبل ارتكاب الديكتاتور لمجازر جديدة على سجله ِ, أكون عارفة بكل يقينى أن هذه الملايين لن تعود إلى بيوتها دون تحقيق أهدافها فى الحرية والكرامة والعدل والديمقراطية .

أتعجب كيف نفهم جميعاً هذه " الحالة " .. حالة نزول الجماهير للشارع واستمرارها فى مواجهة القتل والتمثيل بها , ولا يفهمها الطغاة ؟ . لحظة نسف كل ما تم ترسيبه فى الجوف من أوهام مصنوعة أو تم تمثلها عبر عصور الاستبداد لطيف الشكل , هادئ النبرات حين تقول الجماهير " كفى يا كذاب " لآلهتها السابقة .. هى لحظة عميقة فى مواجهة النفس بكل تدليس سلطوى تم تمويهه وتسويقه وتسويغه أو الخوف منه.

لحظة الثورة وجوهنا تبتسم بكل حرية فى الميدان ( قبل التنحى ) بحبور لم يعرفه المصريون من سنوات بعيدة وصدقوا أنهم لا يضحكون إلا سخرية من النفس أو الآخر .

اللحظة فادحة العمق والبهاء وغريبة على طبيعة شعب ساخر تعود الحزن أو هكذا ظن , حيث كسْر محرمات النظرة المباشرة الجريئة بفرحة فى عين الآخر , بدلا ًمن تنكيسها فى ثقافة غض البصر وتمجيد الخجل وخاصة تبادل النظر بين الجنسين . الحرية انتزَعتْ تلك اللحظة بمجرد نزول الشارع وشجاعة المواجهة حيث يقترب صاحبها من الحقيقة الكبرى والوحيدة فى الحياة : الموت . التجهز والرضاء المسبق بالموت هو الذى فتح أعين الجماهير لتنزل , بلا أقنعة ارتضت غشها طويلاً , لتمزق كل الأقنعة وأولها قناع الرئيس أو الزعيم الوسيم , الذى تتدعم المنطقة الحرام حوله لو كان كبير السن .تنتهز الجماهير هذه الفرصة كذلك لتمزيق أقنعتها وبعض قناعاتها المتحجرة لتتعرف على معنى المغامرة , تتذوق شيئاً حارقاً منسىّ النكهة , تتحرر الجماهير من عبء إكراهها على تقديس شكل الرئيس مُجسَداً فى صورته وهى تمزقها , وشكله المجسَد فى تماثيله التى يتسابق الشباب مع أجهزة السلطة فى أيهما يصل إليها أولاً , إما لتمزيق الصور كما شاهدنا مع صور القذافى وبن على ومبارك وعبد الله صالح وقبلها مع تماثيل صدام , أومحاولة أجهزة النظام إستنقاذ صورة الإله قبل تحطيم المعنى الذى عكفت على تخليقه بتوظيف صورته فى حياته , وبعد مماته .

 تصبح محاولات الابن , كما فى الحالة السورية , إنقاذ تمثال الأب من الأحذية والمعاول الهاجمة , فعلاً شخصياً شديد الاستفزاز للناس فهو مقارنة فجة بين الحرص  الشديد على حماية الرمز الذى يتم الإعلان عن كونه " خاصاً " فجأة بفعل الثورة من جهة , والانتهاك الكامل واللامبالاة بحياة الملايين من الأحياء من جهة أخرى فضلاً عن المفارقة غير المضحكة المتمثلة فى أن يكون منتهى التنازل هو إنزال تمثال الأب المفروض وليس تنازل الابن عن الحكم  , رغم ارتفاع كلفة المذابح التى يمسح استمرارها تلك الصورة الأيقونية المسكينة للابن الأشقر الوسيم الذى فُرِضت عليه السلطة بعد مقتل الأخ قديماً , ما يعزز إدعاء آلة الدعاية البعثية بزهده الأصلى فى السلطة.

الانجذاب والتصديق ليسا مرهونين بالشكل آسر الطيبة وحده .  يمكن لنوع آخر من الوسامة أن يحقق ذات الهدف التعبوى . ففى الوسامة القديمة لعقيد ليبيا أو مجرمها , ما يجيب على حيرة فتاة كانت بجوارى فى أمسية فنية مؤخراً . تساءلت الفتاة " كيف يتغيرون ؟ , كانوا محبوبين !" .

لم تنتبه إلى شراكتنا فى تأصيل المشكلة , إلى اشتياق كل منا – عدا رجال الأعمال مثلاً – لصورة جيفارا ,لرمز يدغدغنا , الحاجة إلى نبى جديد كل فترة والاستمتاع بحالة الانبهار أمام من يبادر بالقيادة والمغامرة بثقة القادرين على الوعد والإنشاد والتغيير , تلك القلة التى تُخرّج أنبياء كذبة و ممثلين محترفين ليقدموا عرضهم أمام بشرية شاخصة .

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل