المحتوى الرئيسى

الشاعر الفلسطيني محمد ذياب المسكي عبقرية فجرها الإحساس بالألم بقلم: ياسين السعدي

06/17 20:19

هدير الضمير

الشاعر الفلسطيني؛ محمد ذياب المِسْكي

عبقرية فجرها الإحساس بالألم

ياسين السعدي

النبوغ، لغة، مأخوذة من الماضي الثلاثي (نبغ) وتعني بان وظهر. ونبغ في القول أو الفعل تعني أحسن وأجاد كما يقول المنجد: (نبغ الرجل: قال الشعر وأجاده، ونبغ في العلم وغيره: أجاد). وفي الشعر العربي أكثر من نابغة، لكن أشهرهم هو النابغة الذبياني. ومنهم النابغة الجعدي والنابغة الشيباني وغيرهم

وأطلقت العرب لقب النابغة في الأغلب على من يقول الشعر على الكبر، وهو ما ينطبق على شاعرنا الذي كنت أداعبه كلما التقينا أو زارني في مكتبتي التجارية في جنين وأقول له: أيها النابغة الموهوب، والعبقري متعدد المواهب يا أبا سمير. وقد كان، رحمه الله، كذلك.

والإحساس بالألم الذي أحس به الشاعر الفلسطيني المرحوم، الأستاذ محمد ذياب محمود إسماعيل أحمد إبراهيم الديخ، كما يعرف بنفسه في ديوانه، نسبة إلى قريته التي هُجِّرَ منها عام النكبة، هو إحساسه كفرد في مجتمع عاش المحنة وعايش الألم منذ ظهور قضيته بما قام به الاستعمار البريطاني من تبني الأطماع الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وما ترتب على ذلك من خطوات لتنفيذ وعد بلفور الذي يعتبر الركيزة الأساسية للبدء بتنفيذ المخطط الصهيوني.

كانت بريطانيا القوة العظمى المسيطرة في المنطقة، وخصوصاً بعد نهاية الحرب العالمية الأولى والقضاء على الدولة العثمانية ووضع فلسطين تحت سيطرتها بما أطلق عليه صك الانتداب الذي فوض بريطانيا حق التصرف بالشأن الفلسطيني والبدء بتنفيذ وعد بلفور المشئوم.

في هذه الفترة الزمنية المضطربة والعصيبة من حياة الشعب الفلسطيني، وبداية مقارعة الاحتلال البريطاني ومقاومة المخطط الصهيوني ولد الشاعر محمد ذياب محمود في قرية مِسْكَة قضاء طولكرم عام 1919م ونشأ في هذه الأجواء.

نشأ، وتربّى وتعلّم المرحلة الابتدائية في قريته مِسْكَة، وأكمل تعليمه الأساسي في قلقيلية، ثم انتقل في بعثة حكومية إلى الكلية العربية في القدس بسبب نبوغه، وتخرّج منها بتفوق عام 1941م. بدأ حياته العملية معلماً لمادة اللغة الإنجليزية، متنقلاً بين قرى وبلدات فلسطين قبل النكبة. وبعد النكبة، انتقل للتدريس في لواء جنين عام 1949م، متنقلاً بين القرى: جبع ودير أبو ضعيف وفقوعة وكفردان، ثم إلى مدينة جنين عام 1959م. وبعد العام 1969م عمل موجهاً للغة الإنجليزية لجميع المراحل إلى أن تقاعد عام 1979م، وتوفي عام 2002م بعد عطاء يستحق التقدير الذي توجته وزارة الثقافة الفلسطينية مشكورة بطبع ديوانه.

كان أبو سمير يتقن اللغات العبرية واللاتينية، بالإضافة إلى الإنجليزية والعربية.

أتقن الإنجليزية، حتى الغريب من مفرداتها. فقد حدثني الزميل والصديق المرحوم الأستاذ محمد خلف، أحد معلمي اللغة الإنجليزية، بأنه حضر دورة في اللغة الإنجليزية عقدت في الجامعة الأمريكية في بيروت قبل العام 1967م، وكان شاعرنا أحد المشاركين. سأل المحاضر الإنجليزي عن اسم عظمة في نهاية العمود الفقري في جسم الإنسان، فلم يجبه أحد من الحضور الذين كانوا من كثير من البلاد العربية والأجنبية. لكن أبا سمير أجاب على سؤال المحاضر، مما كان له وقع كبير في نفوس الحاضرين تقديراً لسعة إطلاعه وعمق معرفته، ولذلك كان يلقب بالقاموس المتحرك.

. ولا بد من التنويه أن ما يطبق من طريقة حفظ الطلاب لأبجدية الحروف في اللغة الإنجليزية في مدارس الوطن، وحتى في الأردن، كما لاحظت ذلك، هي من ابتكار الأستاذ محمد ذياب، حيث يرددها الطلاب بطريقة غنائية محببة تجعل الحفظ سهلاً.

الشعر ترجمة الشعور

وبقدر ما في الشعور من الإحساس، يكون الشعر صادقاً وله القبول الحسن وله التقدير الكبير. ومع أن شاعرنا كان يهوى اللغة العربية، وله إلمام جيد بها منذ بداية تفاعله مع الحياة، وما فيها من المسرات والمنغصات، إلا إنه لم ينظم الشعر قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره، ولم يخطر بباله أنه سوف يكون شاعراً، ويكون له ديوان كامل من الشعر متعدد الأغراض.

قال يعبر عن بدايات نشاطه في نظم الشعر:

بلغـتُ الثـلاثين عـامـاً ومــا ***** عـرفـتُ الطـويل ولا المقتضــب

إلى أن دهـتني صـروفُ الليـــالي ***** بـكلِّ ضُـــروب الضًّـنى والتعـــبِ

فقـلت القـريـض ولـيس لميـــل ***** لــه لا ولا قـــــلته للطـــــرب

ولا لمجـــاراة مـن ســـبقوني ***** مـن الشـــعراء هـــــــواة الأدب

ولكــن لإطفـــاء نـــار لـها ***** حشــــاي وعظمـي ولحمـي حطــب.

وفي هذه المقطوعة ما يفيد ما ذهبنا إليه من غرضه من نظم الشعر. فهو لم يقله إلا ترجمة لشعوره بالألم، وبعد أن بلغ الثلاثين من عمره وذلك في نهاية 1949م، بعد أن ذاق مرارة التشرد، وبعد أن حلت النكبة بوطنه فلسطين وهُجِّرَ من قريته وصار يحمل صفة (لاجئ).

يشير أبو سمير في معظم قصائده إلى تاريخ النظم والمناسبة التي نظم فيها مما أعتبره (شهادة ميلاد)، كما أحب أن أسمي تاريخ النظم والذي أعتبره ضرورياً لمعرفة الظروف التي قيلت فيها القصيدة، وملاحظة تطور الشاعر من حيث الأغراض التي نظم الشاعر بها.

واشتمل ديوانه على جميع فنون الشعر وأغراضه؛ من مديح وهجاء ووصف ورثاء وحكم وأمثال ومناجاة ومسرحيات شعرية وقصائد فكاهية وأحاجي، بالإضافة إلى قصائد في المعارضات الشعرية.

مثلما يبدأ الشباب في مقتبل العمر بالتعبير عن عواطفهم، فإن شاعرنا عبر عن مشاعره بشعر يتصف بالعفة وفيه لوعة وفيه حرقة وفيه تعبير صادق، فقال من بواكير شعره، كما يقول في تقديم قصيدة له بعنوان: (في الشوق والغزل)، ويشير إلى أنها أول عهده بالشعر، وأول قصيدة قالها في الغزل، وذلك سنة 1950م:

ذنبي عظيمٌ هل أفوزُ بعفوِكمْ ***** فالعفوُ من شِيَم الكرام ولا عَجَبْ

ردّوا علـيّ فمِـنْ هـَوى قلْبـي جَرى ***** دمعـي على خَدّي كأفواه القِرَبْ

زال السرورُ بهَجْركم لي إنَّني ***** وحيـاتُكم مِن هَجْركم أنـا في وَصَبْ

سـيْفُ الهـوى أمضـى السيـوفِ وإنَّه ***** لوَميضِه جـيْشُ القلـوب قد اضطَربْ

صَبٌّ يرومُ الوصل هل مِن راحمٍ ***** حقاً لقد هامَ الفؤاد وما كَذَبْ

ضنيَ الفؤادُ من الهَوى حتى غَدا ***** من وَجْدِه لا يَنطفي منه اللهَبْ

ويقول في قصيدة عاطفية أخرى بعنوان: (في الغزل) يظهر فيها تطور أسلوبه وسمو تعبيره:

ملاكَ الروح لا أهوى سِواكِ ***** فقد أضنَيْتُ جِسمي في هواكِ

طلوعُ البَدر لَيْلاً في تمامٍ ***** يُذكِّرني بحُسنكِ واجتلاكِ

ويشرقُ وَسْطَ لَيلكِ نورُ بَدرٍ ***** يسار لدى الظلام على ضِياكِ

فإنْ تَمَسْسكِ أيُّ يدٍ بِسوءٍ ***** فَرُوحي، وهي غاليةٌ، فِداكِ

بِثَغْرِكِ تَمرحُ البَسَماتُ تِيهاً ***** رضابُ الشهْد ينقُطُ مِن لَماكِ

وعَيْني ما رأتْ لكِ مِن مَثيلٍ ***** وما من غادةٍ في مُستواكِ

وله في الشعر الديني نظم جميل ومعبر على منهاج (نهج البردة) ويبدو فيه صدق التوجه إلى الرسول الكريم، وفيه التضرع إلى الله، نقتبس منه:

خَصَصتُ مَـدحي بخَيرِ الخَلْقِ قاطبَةً ***** وأفضلُ الخَلْقِ مِن عُرْبٍ ومِن عَجَمِ

لَولاهُ ما وُجِدتْ شَمسٌ ولا قَمرٌ ***** ولا سماءٌ ولا أرضٌ من العَدَمِ

ما أنجَبتْ قَطُّ أنثَى كابْن آمنَةٍ ***** بِمِثْلهِ باءَت الأرحامُ بالعُقـمِ

فليسَ مِثلِ ابْنِ عبدِ الله في خُلُقٍ ***** سامٍ كريمٍ عظيمٍ واسعٍ هَشِمِ

قد زانَهُ خُلُقٌ قد كَلَّ واصِفُهُ ***** ناهيكَ وصفاً بما في سورةِ القَلمِ

وقال في ذكرى المولد النبوي الشريف:

ذِكْرى لَها شَوْقي يَقُومُ ويَقْعُدُ ***** وَالقَلبُ بُرْكانٌ يَثُورُ ويَخْمَدُ

ذِكْرى النبيِّ محمَّدٍ و صِحابِه ***** نَفْسي بِذكْراهُم تَطيبُ فَأُنْشِدُ

فمُحمَّدٌ عَلَمُ الهُدى وشِهـابُهُ ***** رَجَمَ الضَلالَ بِثاقِبٍ يَتَوقَّدُ

مَلأَ الدُنى بالنـورِ بَعدَ ظَلامِها ***** نِعْمَ النَبيُّ الهاشِمِيُّ مُحمَّدُ

أصْحابُهُ سَرْجُ البَرِيَّةِ في الدُجَى ***** وهُمُ الهُداةُ لِمَنْ يُغيرُ ويُنْجِدُ

بالصْبرِ وَالإيمانِ قَد بَلَغُوا الذُرَى ***** بهِما مَعاً صَعْبُ الأمُور يُمَهَّدُ

وقال بمناسبة رأس السنة الهجرية في شهر محرم سنة 1372هـ الموافق 1953م.

وكـيفَ يكـون المرء حُرّاً وليْس مِنْ ***** سلاحٍ له عند المَظالمِ يُشهَرُ؟

لكُـم في رسـولِ اللهِ والصَحب أسْوةٌ ***** فعضُّوا عليها بالنواجد تَظفَروا

وكونوا يَداً يا قومُ لا تَتفرَّقوا ***** فبالوحدة الكبرى العُروبة تُنصَرُ

ولا نصْرَ إلا باتِّباعِ نَبيّـكُـم ***** بما جاء فيه من تَعالـيمَ تُنْشَرُ

وقال في 2/12/1965م تحت عنوان: (المسجد الأقصى ينادي):

هَيْهـاتَ يوجدُ مَنْ يَعي أو يَسمعُ ***** حَفِيَ اللسانُ فما كلامٌ يَنفَعُ

كمْ خُطبةٍ فوق المنابرِ ألقِـيَتْ ***** وكأنّ في الآذانِ وَقَراً يَمنعُ

وفي الشعر الوطني يتحدث في قصيدة طويلة عن: (ماضي العرب وحاضرهم)، ومن باب إحساسه الديني يتحدث في قصيدة أخرى عن (ماضي المسلمين وحاضرهـم). ويلاحظ أن الشاعر يمتاز بطول النفس وتمكنه من لغته.

لا يغفل الشاعر عن مشاركة أمته العربية همومها، وليس شعبه الفلسطيني فقط. فنظم في العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956م قصيدة بعنوان (دول الثالوث الغاشمة).

ورثى والده الذي توفي عام 1954م، فقال:

إنّ الحياةَ وإن طالتْ لنا حيناً ***** يزفُّها أجلٌ لا بدَّ آتينا

الناسُ تَضحكُ والأيّامُ ساخرةٌ ***** منهم وهـم عن صُروف الدهر لاهونا

وفي باب الصداقة الصادقة له مجموعة من القصائد التي تنم عن نفس صافية وضمير يعشق الوفاء للأصدقاء.

الفائز الأول في مسابقة شعرية دولية

أجرت هيئة الإذاعة البريطانية مسابقة شعرية أواخر 1959م، وظهرت نتائجها في 31/3/1960م وكانت المسابقة في أحد موضوعات ثلاثة وهي: 1) الحرية، 2) والإنسان والفضاء الخارجي، 3) والإنسان والدولة. وقد نظم في الحرية، ونالت القصيدة الجائزة الأولى من بين القصائد التي قدمت في هذا الموضوع على مستوى الوطن العربي والمهجر، وشارك فيها أكثر من ستمائة شاعر، وتتألف من 38 بيتاً منها:

إنّ ابن آدمَ في الحياة مقيَّدُ ***** ولَو اْنَّ منزلَه السُها والفَرقَدُ

قد جاء كَرْهاً للحياة وإنّه ***** كَرْهاً كذلكَ وَسْطَ رَمْسٍ يُلحَدُ

كلّ البَريَّة ليسَ فيها واحدٌ ***** حرٌّ فكلٌّ عابدٌ ما يَعبُدُ

أينَ الذي هو في الوَرى متصرِّفٌ ***** أو مُطْلقٌ في أمرهِ متَفرِّدُ؟

كلٌّ له حريَّةٌ محدودةٌ ***** وإذا تَعدّاها فمِنه تُفْقَدُ

الناس مرتَبطون فيما بَينهم ***** حريّةٌ فرديّةٌ لا توجَدُ

ناسٌ أساؤوا فهمَها فتنَصّلوا ***** مِن كلّ مَكرُمةٍ لهم وتَجَرّدوا

صاروا مِن الأنعام أدنَى رُتبةً ***** بَل منهم الأنعامُ عَيشاً أسعَدُ

هل كان حرّاً مطلَقاً في الناس مَن ***** بالشَرع والقانونِ لا يَتقـيَّدُ؟

أيُقالُ إنّ المَرء حُرٌّ مطلَقٌ ***** حين انطلاقِ النفسِ فيما يُفسِدُ؟

للنفس طَبْعٌ ضدّ كلّ تَقيّدٍ ***** فعَلى القُيود جميعِها تَتمرّدُ

ليسَ الذي خَلع العَذارَ تَهتّكاً ***** حُرّاً ولا هَوى في البريَّة يُحمَدُ

وللشاعر الكثير من القصائد المنشورة في العديد من الصحف و المجلات المحلية والعربية.

وفي ديوانه مسرحية شعرية قصيرة بعنوان: (بطولة أم فلسطينية) تتحدث عن الصراع العربي الإسرائيلي تمجد الجهاد وتحض عليه

ويكثر عند الشاعر باب الإخوانيات. وفي قصيدة يرد على الشيخ عكرمة صبري، وقد أهداه كتاباً من تأليفه فقال في ذلك:

مَنْ ذا أتى بمِثلِ هذي المَكرمهْ؟ ***** إلا كريمٌ طيّبٌ ( كعِكْرمَهْ)

وقال في قصيدة نظمها إلى الدكتور ناصر الدين الأسد، وزير التربية والتعليم العالي في عمان، بمناسبة قبول ولديه الاثنين، إبراهيم ومضر في جامعة اليرموك سنة 1988م، وكان ناصر الدين الأسد زميله وابن صفه في الكلية العربية في القدس عام 1939م، 1940م، 1941م، كما يشير بمناسبة القصيدة:

لمَنْ اشْتَكي أمْري وحالي أبا بِشْرِ ***** سوى لأخٍ قد فَرجّ الهمّ عن صَدري؟

أخي أنتَ تَدري أنّني لسْتُ شاعِراً ***** فكـيْفَ إذنْ أصبحتُ مِن قائلي الشِعْر؟

لقد عَرَكَتْني النائباتُ فصَيّرتْ ***** فؤاديَ بالأشعارِ يَزخرُ كالبحرِ

فيا ليْتَ لي مِن جَلسةٍ مَعكم بها ***** نَعودُ لأيامِ الدراسةِ بالذِكْرِ

سَقى الله عهْداً كان فيه شبابُنا ***** وكنّا بلا همّ لدَيْنا ولا فِكْرِ

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل