الحكومة اللبنانية في الحسابات الأمريكية
رغيد الصلح
بعد ساعات من تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، صرح مارك تونر الناطق بلسان وزارة الخارجية الأمريكية، أن واشنطن سوف تقيم العلاقة مع حكومة الميقاتي على أساس أعمالها . فهم من هذا التصريح أن الإدارة الأمريكية سوف تقرر موقفها النهائي من هذه الحكومة، في ضوء السياسة التي سوف تتبعها تجاه المحكمة الدولية الخاصة بالتحقيق في اغتيال رئيس الحكومة اللبناني الراحل رفيق الحريري، وفي ضوء التزام حكومة الميقاتي بالقرارات الدولية .
قبل ذلك بشهرين تقريباً وخلال زيارته الأخيرة إلى لبنان، سئل جيفري فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وسفير واشنطن السابق في لبنان، عن موقف الإدارة الأمريكية تجاه حكومة الميقاتي المتوقعة فكان أقل تواضعاً وأكثر وضوحاً وتصريحاً في رده على السؤال . تحدث فليتمان باسم “المجتمع الدولي” وليس باسم الإدارة الأمريكية فحسب قائلاً إن هذا المجتمع سوف يقيم علاقاته بالحكومة اللبنانية الجديدة وفقاً لثلاثة اعتبارات رئيسة: أولاً، تركيب الحكومة أي خلفيات الوزراء الذين سوف يدخلونها، خاصة لجهة علاقتهم بحزب الله، والمناصب الوزارية التي يشغلونها . ثانياً، البرنامج الوزاري الذي تتقدم به الحكومة إلى البرلمان اللبناني، ثالثاً، مواقف الحكومة تجاه التزامات لبنان الدولية، خاصة المحكمة الدولية . في ضوء هذا التصريح والمحددات كيف يكون رد فعل “المجتمع الدولي” الذي تطوع فيلتمان للنطق باسمه على تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة؟
لقد خالفت حكومة الميقاتي الشرط الأول الذي وضعه فيلتمان لحسن العلاقة بين المجتمع “الدولي” والحكومة الجديدة، عندما شكلت من فريق الثامن من آذار . إن إعطاء 11 وزيراً إلى “كتلة الاصلاح والتغيير”، مقابل وزيرين فقط إلى حزب الله، لن يغير من نظرة الإدارة الأمريكية السلبية إلى الحكومة الجديدة . يعلم المسؤولون المعنيون بالشؤون اللبنانية في الخارجية الأمريكية أن ميشال عون يتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية قد لا يتمتع بها أي زعيم سياسي لبناني حالي، وأن التحالف بينه وبين حزب الله قائم على أسس سياسية ومحدودة تشبه التحالفات بين بعض فرقاء الرابع عشر من آذار . هذا النوع من التحالفات السياسية ينسحب أيضاً على نمط العلاقة بين شركاء آخرين في الحكومة الجديدة، منهم رئيسها تحديداً، ووزراء جبهة النضال الوطني .
إذا أخذت الإدارة الأمريكية هذه المعطيات في الاعتبار، فستجد في حكومة الميقاتي ما يطمئنها إلى الوضع في لبنان . إلا أن الإدارة الأمريكية لن تنظر إلى الحكومة الجديدة بهذا المنظار . إن نظرتها إلى الأوضاع اللبنانية تبدو أقرب إلى الأولويات التي وضعتها إدارة جورج بوش تجاه المسألة اللبنانية . في هذه الأولويات يتقدم هدف عزل حزب الله وتجريده من التحالفات المحلية على أي هدف آخر . وفيما تراجع باراك أوباما عن سياسة بوش التي قررت أن “كل من لا يقف معنا فهو ضدنا” وأنه لا “توسط بين الخير والشر”، فإن هذه السياسة لاتزال تطبق في لبنان .
إذا كانت المكاتيب تقرأ من عناوينها، فإنه من الأرجح أن تتجه الحكومة اللبنانية الجديدة إلى مخالفة البندين الثاني والثالث من دفتر الشروط الذي وضعه فيلتمان لحسن العلاقة مع هذه الحكومة . من الصعب، في تقديري، أن تضع الحكومة اللبنانية الجديدة بياناً وزارياً يرضي مساعد وزير الخارجية الأمريكية، مهما شدد البيان على أهمية وضرورة محاربة الإرهاب الدولي، وعلى دور لبنان في هذا المضمار . فعند فيلتمان أن حزب الله هو أحد رموز وأعمدة الإرهاب الدولي . ألم يتمكن مقاتلو حزب الله من التصدي بنجاح للاجتياح “الإسرائيلي” لجنوب لبنان عام 2006؟ كذلك من الصعب أن تتعاون حكومة الميقاتي الجديدة مع المحكمة الدولية إذا تم إشهار القرار الظني، وجاء فيه أن عناصر من حزب الله أسهمت في اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري . وإذا كان لحلفاء حزب الله، مهما كان مستوى استقلاليتهم، مكانة كبرى في الحكومة الجديدة، فإن هذا العامل سوف يشكل سبباً مهماً لوقوف الإدارة الأمريكية و”المجتمع الدولي” ضدها . لقد أكد حلفاء واشنطن في بيروت أن الحرب الأمريكية والدولية على حكومة الميقاتي آتية لا ريب فيها، أطلقوا إنذارات كثيرة، داعين الرأي العام اللبناني إلى الوعي بهذا الخطر الأكيد . فالاقتصاد سوف ينهار . وإذا انهار الاقتصاد وعم الفقر والشقاء والبطالة البلاد دخلتها الاضطرابات والتصدعات الأمنية . إذاً الذين ناصروا حكومة الميقاتي وانتصروا بها لن يهنؤوا - أو هكذا يقول أرباب الأكثرية القديمة - بانتصارهم ولسوف يدفعون الثمن باهظاً . يدفعون الثمن حتى يكفوا عن تحدي واشنطن وحلفائها في بيروت .
في هذه الإنذارات الكثير من التهويل، ولكن فيها أيضاً بعض الصواب . واشنطن سوف ترد على تشكيل حكومة الميقاتي بممارسة ضغوط متصاعدة على لبنان . الاتحاد الأوروبي سوف يسير على الطريق نفسه، طالما أن نيكولا ساركوزي يحكم فرنسا، وأنجيلا مريكل تحكم ألمانيا، وكل منهما يحرص على سلامة “إسرائيل” واستقرارها، وعلى استمرار الهدوء على حدودها الشمالية . هذه الضغوط سوف تقدم الغطاء “الدولي” لجهات إقليمية حتى تخوض حرب استنزاف اقتصادي وسياسي ضد لبنان . هذه الضغوط سوف توجع اللبنانيين وتؤثر في مواقفهم تجاه الحكومة .
إن مواجهة هذه الضغوط أمر ممكن، ولكنه يحتاج إلى سعة صدر ومرونة عالية، وإلى إبقاء الباب مفتوحاً أمام تفاهم اللبنانيين بين بعضهم بعضاً . قبل ولادة الحكومة الجديدة طرحت فكرة تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم الكتل السياسية الرئيسة في البلاد . هذا الاقتراح استقطب تأييداً من جهات متضاربة، ولكنه لم يعط حظه من الاهتمام . فريقا 8 و14 آذار تعاونا على دفنه مع سعي من قبل كل من الفريقين إلى تحميل الفريق الثاني مسؤولية تعطيله . هذا الاقتراح لايزال، في تقديري، المخرج الأفضل لمعالجة الوضع اللبناني الراهن . الحكومة الجديدة سوف تنال الثقة في المجلس، وسوف تتمتع بالمشروعية الكاملة للحكم . ولكنه من المستطاع استبدالها بحكومة ائتلاف وطني إذا ما تم التفاهم بين فريقي السياسة اللبنانية على هذا المبدأ، وإذا تفاهم الفريقان على ضرورة النأي بلبنان عن الأخطار المحدقة به .
نقلا عن (الخليج) الإماراتية
Comments