المحتوى الرئيسى

نكبة فهزيمة فانتصار.. الشاذلي والإخوان

06/16 13:34

بقلم: رجب الدمنهوري*

عشنا قبل أيام ذكرى هزيمة الهزائم 5 يونيو 1967م، ومن قبلها نكبة 15 مايو 1948م ولا ريب أن هذه أحداث فارقة ومفصلية في تاريخ الأمة، كلما حلت ذكراها، اجترت الآلام، واستدعت الكثير من المواقف، المشرِّف منها وسيئ الذكر، لا سيما أن الأراضي المقدسة ما زالت ترزح تحت نير الاحتلال الصهيوني الغاشم، والمسجد الأقصى مازال يئنُّ تحت وطأة التقويض والتهويد، والتوسع الاستيطاني لا يكاد يتوقف، وغير ذلك من الجرائم الصهيونية التي تطال البشر والحجر والشجر.

 

ذكرى هذه الانكسارات النكراء طلت هذه المرة بمراراتها، والعالم العربي يشهد بشائر فجر جديد، يمور بتسونامي من الثورات الشعبية العارمة على الأنظمة المستبدة والفاسدة التي لعبت دورًا كبيرًا في تمكين الصهاينة من إقامة كيانهم الغاصب، وأذاقت شعوبها ويلات الديكتاتورية والاضطهاد والتبعية والتخلف، وأقصت الوطنيين والشرفاء، وحالت بينهم وبين تحرير الأوطان من المغتصب الأجنبي.

 

كنت قد تشرفت بإجراء ثلاثة حوارات مع رئيس أركان حرب 1973م الفريق سعد الدين الشاذلي- رحمه الله-، أحدها كان بناءً على طلبه؛ لتوضيح موقفه من الانفجارات النووية الباكستانية في أعقاب إشادته بنظيرتها الهندية، أحد هذه الحوارات نشر في تقرير "قضايا دولية" الذي كان يصدره مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في إسلام أباد، وكان تقريرًا شهريًّا رصينًا يهتم بشئون الحركة الإسلامية رصدًا وتحليلاً واستشرافًا للمستقبل، ترأس تحريره الأستاذ توفيق غانم، أما الحواران الآخران فنشرا في مجلتي المجتمع الكويتية والدعوة، وقدَّم الراحل في هذه الحوارات شهادةً مهمةً وجديرةً بالاهتمام حول دور كتائب الإخوان المسلمين في حرب 1948م، وأبعاد هزيمة 1967م وتداعياتها، وحيثيات انتصار أكتوبر 1973م من منطلق رؤيته العسكرية والإستراتيجية.

 

لن أتحدث عن تواضع الرجل وأدبه الجم طوال ساعات جلستها مع قامة كبيرة من ذوات الوزن الثقيل في العسكرية الوطنية المصرية، فقد سبقني إلى ذلك كثيرون، والمؤكد أن الرجل كان مسكونًا بحب مصر وشديد الحرص على أمنها القومي، وكان صاحب رؤية وطنية إسلامية تجلت في أفكاره وتقييمه للمواقف وتحليله للأحداث، ولعل هذا ما يفسر سر إقصائه وتهميش دوره ونفيه ثم سجنه في عهد النظام المخلوع؛ حيث تؤكد الشواهد أن النظام البائد كان حريصًا على استبعاد كل صاحب فكر واع ورأي وطني.

 

القدر لم يمهل الفريق سعد الشاذلي حتى يرى النصر المؤزر الذي صنعته ثورة 25 يناير، فقد واكبت وفاته تنحية الرئيس المخلوع حسني مبارك، لكن شتان بين قائد عسكري كان بطلاً حقيقيًّا من أبطال نصر أكتوبر المجيد، وآخر اختزل حرب العاشر من رمضان فيما سمي بالضربة الجوية التي شكك فيها خبراء وإستراتيجيون، ومنهم وزير الحربية الأسبق أمين هويدي في كتابه "الفرص الضائعة"، وتدثر بشعارات رنانة، روجها الخطاب الإعلامي والسياسي على مدى 30 سنة، وانفرد وعصابته الفاسدة بحكم مصر حتى أعادوها إلى الوراء عقودًا.

 

وقبل أن أسترسل في تناول هذه الشهادة التاريخية لرجل بحجم ومكانة الفريق الشاذلي، كنت قد سألته على هامش أحد الحوارات عن علاقته بالرئيس المخلوع حسني مبارك، وحتى أزيل عنه الحرج أغلقت "الكاسيت"، خاصةً أن الرجل كان قد خرج لتوه من السجن بعد قضائه قرابة ثلاث سنوات، فقال الشاذلي كلامًا شديدًا لو نشرته وقتها لذهبنا معًا وراء الشمس دون رجعة، وإن كنت ما زلت أتحفظ على نشره؛ لأن الأمر فيه مساس بعقيدته، وهذا أمر موكول إلى الله سبحانه وتعالى يوم اللقاء، إن شاء غفر له، وإن شاء حاسبه.

 

المشروع الإسلامي هو الخيار البديل لمواجهة المشروع الصهيوني في المنطقة، هذا ما يراه الفريق الشاذلي، ويؤسس ذلك على أن الفكر الإسلامي هو المحرك الرئيس في جمع شتات الأمة، وتقوية شوكتها في مواجهة الأخطار والتحديات، وأن المؤمن بالقرآن الكريم والسنة النبوية- قولاً وسلوكًا- هو رجل هذا الزمان الذي انتشر فيه الظلم، وهضمت فيه الحقوق، وانتهكت فيه الحرمات، ورأى أن الحركة الإسلامية نموذج يحتذى، فقد بذلت مجهودًا كبيرًا في بعث الإسلام وإيقاظه من جديد، كونه مطلبًا ملحًّا لإخراج الأمة إلى دائرة الفعل والقوة وامتلاك زمام المبادرة.

 

شهادة الشاذلي كخبير وقائد عسكري تزيل القناع عن كثير من الحقائق، وتضع النقاط على الحروف، وتتعامل بإنصاف ومهنية لدى قراءة الأحداث الكبيرة، فنكبة 1948م يراها الشاذلي بداية للامتداد السرطاني الصهيوني في الجسد العربي الإسلامي، إلا أنها في تقديره لم تكن أخطر النكبات والهزائم؛ نظرًا لأن عددًا كبيرًا من الدول العربية واجهت الكيان الصهيوني مجتمعةً رغم أنها كانت واقعةً فعليًّا تحت الاحتلال الأجنبي، معتبرًا أن الموقف العربي حينئذ "تجسدت فيه الوطنية إذا ما قورن بما قامت به الأنظمة بعد ذلك من خيانات وجرائم لا تغتفر".

 

ولأن العمل الفدائي ظهر جليًّا في حرب 1948م، وكان من الأعمال العسكرية التي يمكن أن تسهم في حسم المعركة ضد الصهاينة لولا تخاذل النظام المصري حينذاك وانقلابه ضد مجاهدي الإخوان، ينطلق الشاذلي في تقييمه لهذا الأمر من أن الأعمال الفدائية في المعارك مهمة ومطلوبة إلى جانب الجيوش النظامية الوطنية لما تثيره في صفوف العدو من رعب وفزع، وفي هذا الإطار يقول الفريق الشاذلي: "لا أحد ينكر الدور الرائد والأداء العظيم الذي قامت به مجموعات الفدائيين، وفي مقدمتهم كتائب الإخوان المسلمين، الذين كانوا من أفضل العناصر القتالية؛ لأنهم كانوا لا يهابون الموت سعيًا إلى النصر أو الشهادة في سبيل الله، وانطلاقًا من إيمانه بالعمل الفدائي يرى الشاذلي أن الحركات والفصائل الفلسطينية، وخاصةً حماس والجهاد الإسلامي تواصل ما قام به متطوعو الإخوان المسلمين في 1948م، وعليها ألا تتوقف عن خلخلة استقرار العدو حتى يدفع ثمن احتلاله غاليًا.

 

ولم تكد الأمة تستعيد عافيتها وتلملم جراحاتها من آثار نكبة 48 وعدوان 56 الثلاثي حتى منيت بهزيمة ساحقة في عام 1967م على وقع الشعارات الجوفاء والخطابات الرنانة وأحاديث القومية الزائفة، ففي هذه الهزيمة تجمَّعت عوامل عدة جعلت من الانتصار أمرًا مستحيلاً- كما ينظر إليها الشاذلي- حيث كان ولا بد أن نُهْزَمَ في هذه المعركة- على حدِّ تعبيره- لما حدث من خلاف حاد وانفصال تام بين القيادة السياسية ونظيرتها العسكرية، ونظرًا لوجود جزء كبير من القوات المسلحة المصرية على أرض اليمن، بالإضافة إلى سلسلةٍ من الأخطاء أبرزها التحضير السيئ للحرب، وغياب التخطيط الإستراتيجي، والفجوة بين الشعارات المرفوعة والسياسات الموضوعة، واعتبر الشاذلي أن هذه الهزيمة أحدثت انكسارًا هائلاً في الأمة، وتركت جرحًا غائرًا في جسدها، وفي المقابل قويت شوكة الكيان الصهيوني، ومضى في تحقيق أطماعه التوسعية أفقيًّا ورأسيًّا، حتى أصبحت قدراته العسكرية تفوق إمكانات العرب مجتمعة.

 

نداء "الله أكبر" الذي زلزل أركان العدو الصهيوني في حرب العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر 1973م كان الشعار الذي رفعه الفريق الشاذلي، إبَّان عبور القوات المسلحة المصرية القناة وتحطيمها خط بارليف، وفي هذا الصدد يقول الشاذلي: "لقد أعددت كتابًا من القطع الصغير تحت عنوان "عقيدتنا القتالية هي وسيلتنا لتحقيق النصر"، وجمعت فيه الآيات والأحاديث والمواقف التي تحض على الجهاد، وطبعت منه أكثر من مليون نسخة، وتم توزيعها على جميع الجنود في القوات المسلحة، وكان لهذا الكتاب صدى كبير وأثر فاعل في رفع روحهم المعنوية وشحنهم بالزاد الإيماني".

 

إن العقيدة الإيمانية كانت المدخل الفعال في قهر العدو الصهيوني- كما ذهب إلى ذلك الفريق الشاذلي في خطته العسكرية- حيث كان الجندي المصري مؤمنًا بأنه إذا قُتل فهو شهيد، وإذا نجا فهو منتصر، والأمران محمودان، ولا يمكن أن يهزم من كان هدفه النصر أو الشهادة في مواجهة عدو غاصب أحرص الناس على الحياة.

 

ولم يكن الشاذلي راضيًا عن ماراثونات التسوية والمفاوضات مع الكيان الصهيوني، والبديل في رأيه هو السعي لإرساء منهجية ضامنة لكل الحقوق الفلسطينية، ومن ملامح رؤيته في هذا الشأن التشبث بالحق ما دمنا نؤمن أنه حق، وعدم قبول أي قرار من شأنه التفريط في حقوقنا، ورفض أي اتفاقات مع كيان استيطاني لا عهد له ولا ذمة، معتبرًا أن الحق إما أن نحصل عليه كاملاً، أو على الأقل عدم التوقيع على أي اتفاقات استسلام أو القبول بالحلول الناقصة، حتى نترك الباب مفتوحًا أمام الأجيال القادمة لاسترداد ما عجز الآباء والأجداد عن تحقيقه، وليأخذ الساسة الدروس من الهزيمة الساحقة التي مني بها الصليبيون على يد البطل صلاح الدين الأيوبي بعد أن احتلوا القدس قرابة 90 عامًا.

 

ما أوردته في هذه السطور شهادة حق أردت تسجيل بعض ملامحها للتاريخ ليميز الناس بين صاحب المبادئ والمواقف الوطنية وبين من اختطف الوطن وخان الأمانة وعاث وعصابته فيه فسادًا، والله الموفق

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل