المحتوى الرئيسى

من الطرف الآخر للمجرة

06/16 10:03

الليلة، وللمرة الألف لم يستطع النوم. غادر السرير فى رفق، وفتح النافذة على مصراعيها. كان الجو ربيعيا، وضوء القمر يتسلل برفق عبر النافذة المفتوحة، ليرسم نقوشا بديعة الزخرفة على السجادة المنقوشة. جلس على المقعد المواجه للشباك دون أن يُضىء النور. وخامره إحساس عذب أنها الليلة الموعودة التى سيتم فيها الاتصال.

بدأت الحكاية بأصوات غامضة يسمعها. فى البدء تصور أنه يتوهم أو لديه مرض فى الأذن. شُبهة المرض النفسى كانت حاضرة باستمرار، لرجل أعزب يقيم بمفرده، يقترب من خريف العمر، لكنه استعصم باليقين حين توالت الأصوات وكأنها تستميت فى محاولة الاتصال به.

بالتدريج، بدأ يلاحظ أشياء. الأصوات يسمعها فقط فى الليالى الصافية، تتدفق عبر النافذة، فى النصف الثانى من الليل. فى البدء كانت مُشوّشة وغير واضحة المعالم، ثم بدأ يُميّز صوتا ناعما يهمس فى رقة ولهفة، يدلله، يلاطفه، يتحبب إليه. اللغة التى تتحدث بها غير أرضية لم يسمع مثيلها فى حياته.

وحيد بكل ما فى الكلمة من معانٍ. غريب يعيش فى عالم شديد الفراغ والصمت. حتى المرأة الوحيدة التى أحبها فى حياته لم تبادله الحب. انطوى على صمته وجرحه، وتعمقت غربته عن العالم كله، لكن حياته تغيرت تماما منذ ليلة الاتصال. لأول مرة يرحب بالأرق! لأول مرة يعيش قصة حب!

أقنع نفسه بأن هذا الصوت لامرأة فى الطرف الآخر من المجرة، تحاول - رغم المسافات السحيقة - الاتصال به. منذ ذلك الحين استحوذت النافذة على انتباهه. يقضى أوقاتاً طويلة يحملق فى الظلام بمفرده، ناظرا عبر النافذة المفتوحة إلى السماء الصافية المُكدّسة بالنجوم.

الصوت لا يفنى. لا شىء يفنى فى الكون. موجات كهرومغناطيسية تنتشر فى كل مكان، تنتقل عبر الفراغ، تسافر بسرعة الضوء. تطوف الفضاء من أجله، وكأنها تعرف أنه بحاجة إلى حبيبة، ولو فى آخر الكون.

لماذا لا يفترض أن قلبه مثل مكثف الراديو، يُصغى بصبر إلى الموجات الودودة فى زحام الكون. يلتقط موجة معينة، يُضخّمها، حتى تصبح واضحة فيسمعها؟!

ولماذا لا يفترض أنها تراه من مجرتها البعيدة، وترغب فى الاتصال به؟

ولماذا لا يفترض أنهما ينتميان إلى موجة واحدة، ذات تردد واحد، تشق طريقها عبر الكون؟!

هذه الليلة جاء الاتصال كأوضح ما يكون. وكأن الأرواح تبارك حبهما من بروج أعاليها السماوية. كان الهواء النقى يتدفق عبر النافذة، ويحمل معه الاتصال ويحمل معه الصوت. راحت تخاطبه بأرق لهجة ممكنة، وكأنها تُعلنه الحب. ذاب فى روعة الصوت. تبخر فى حلم سماوى، تطاير مع الهواء الطلق. غاب فى سبات من الذهول التام. طاف بكل أنحاء المجرة.

 تخطى ما وراء الكون. على هذا النحو أنفق ليلته فى غبطة سماوية حتى بزغت أولى طلائع الفجر. ذهب إلى سريره هادئا مطمئنا، واستغرق فى النوم بمجرد وضع رأسه على الوسادة، سعيدا بأمسية قضاها فى رفقة حلم.

[email protected]

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل