المحتوى الرئيسى

سقوط الإيديولوجية وصعود الجماهير

06/16 05:36

السيد ياسين

ثورة 25 يناير بلا قيادة كما هو إجماع المحللين السياسيين. وقد حاولنا من قبل تفسير هذه الظاهرة في ضوء طبيعة التفاعلات الأفقية في مجتمع الشبكة، ونعني شبكة الإنترنت، حيث إن جميع المتفاعلين معها يعتبرون أنداداً، وبالتالي ليس هناك رئيس ومرؤوسون ولا زعيم وأتباع. غير أن الثورة أيضاً بلا إيديولوجية، بمعنى أنها لم تنطلق من مذهب سياسي ورؤية اجتماعية محددة، مما يكفل لها اتساق التطبيق بعد نجاحها في إسقاط النظام القديم.

والسؤال المحوري هنا ما هي صحة الزعم بأن الثورة بلا إيديولوجية؟ وألا تكون شعاراتها الأساسية وهي الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية واحترام الكرامة الإنسانية إيديولوجية في حد ذاتها، حتى لو لم تتشكل في بنية فكرية متسقة لها جذورها المعرفية ومنطلقاتها النظرية؟#

لقد انطلقنا من قبل في تحليل الطبيعة التاريخية لثورة 25 يناير المصرية من النظرية الكونية بأبعادها الثلاثة السياسية المتمثلة في تحقيق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وفي بعدها القيمي ونعني صعود القيم ما بعد المادية على حساب القيم المادية، ومن هنا السعي إلى تحقيق الكرامة الإنسانية باعتبارها قيمة عليا، وأخيراً في بعدها المعرفي ونعني الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.

ومشروع الحداثة الغربي قام على أساس عدة دعائم رئيسية أهمها على الإطلاق الفردية والعقلانية والإيمان بفكرة التقدم الإنساني المطرد والحتمية في التاريخ والطبيعة. والمؤلف البارز الذي أصدر البيان "المانيفستو" الخاص بما بعد الحداثة، الذي أعلن موت عصر الحداثة، هو الفيلسوف الفرنسي "ليوتار" في كتابه الشهير "الظرف ما بعد الحداثي: تقرير عن المعرفة"، الذي نشره بالفرنسية عام 1979. وقد قرر "ليوتار" في هذا الكتاب أن أهم معالم المرحلة الراهنة في مجال المعرفة الإنسانية، هو سقوط النظريات الكبرى وعجزها عن قراءة العالم، ويقصد بها أساساً الأنساق الفكرية المغلقة المتسمة بالجمود، وإن كانت تزعم قدرتها على التفسير الكلي للمجتمع، ومن أمثلتها البارزة الإيديولوجيات، وربما كانت الماركسية -في رأيه- هي الحالة النموذجية. ومن ناحية أخرى سقطت فكرة الحتمية سواء في العلوم الطبيعية -كما عبرت عن ذلك فلسفة العلوم المعاصرة- أو في التاريخ الإنساني. فليست هناك -كما أثبتت الأحداث- حتمية في التطور التاريخي من مرحلة إلى مرحلة، بل على العكس -كما تدعو إلى ذلك حركة ما بعد الحداثة- فالتاريخ الإنساني مفتوح على احتمالات متعددة، ومن هنا رفض فكرة "التقدم" الكلاسيكية التي كانت تتصور تاريخ الإنسانية وفق نموذج خطي صاعد من الأدنى إلى الأعلى. وعلى العكس ترى حركة ما بعد الحداثة، أنه ليس هناك دليل على ذلك، فالتاريخ الإنساني قد يتقدم، ولكنه أيضاً قد يتراجع.

وحركة ما بعد الحداثة، أشبه ما تكون بفعل رمزي بارز، يشير إلى سقوط النماذج النظرية التي سادت الفكر والعلم الاجتماعي في القرن العشرين، لأنها عجزت عن قراءة العالم وتفسيره والتنبؤ بمصيره. وجاءت أحداث الانهيار السريع للاتحاد السوفييتي، لكي تؤكد عجز هذه النماذج عن الوصف والتفسير والتنبؤ.

وإذا أردنا أن نشير إشارة موجزة إلى المبادئ الأساسية التي تدعو إليها حركة ما بعد الحداثة، بعد نقدها العنيف لمبادئ الحداثة، يمكننا أن نوجزها في ستة مبادئ رئيسية، لها آثار عميقة على النظرية ومناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وتشهد على ذلك الخلافات العميقة التي تدور حولها في الوقت الراهن.

فقد سعت حركة ما بعد الحداثة إلى تحطيم السلطة الفكرية القاهرة للأنساق الفكرية الكبرى المغلقة، التي عادة ما تأخذ شكل الإيديولوجيات، على أساس أنها في زعمها تقديم تفسير كلي للظواهر، قد ألغت حقيقة التنوع الإنساني، وانطلقت من حتمية وهمية لا أساس لها. ومن هنا لم تقنع الحركة بمجرد إعلان سقوط هذه الأنساق الفكرية المغلقة، بل إنها انطلقت -في دراستها لثلاثية المؤلف والنص والقارئ- إلى إعلان يبدو مستفزاً للكثيرين، وهو أن المؤلف قد مات! وتعني الحركة بموت المؤلف، أنه -وعلى هدى مبادئ حركة الحداثة- نحن لا يعنينا تاريخ حياة المؤلف أو المفكر أو ميوله الفكرية أو اتجاهاته السياسية، أو العصر الذي عاش فيه. ذلك أن دوره ينتهي بكتابة النص، والعبء يقع بعد ذلك على القارئ، الذي من خلال تأويل النص يشارك في كتابته في الواقع. فلا هيمنة من المؤلف إذن على النص، وليس من حقه أن يصدر بياناً يحدد فيه المعاني التي قصدها، ولا نياته من كتابته، فالنص يصبح مِلكاً للقارئ. بل إن النص نفسه -فيما ترى حركة ما بعد الحداثة- لا يكتبه في العادة مؤلف واحد، ذلك أن أي نص هو عملية تفاعل بين نصوص متعددة يستشهد بها أو يستحضرها المؤلف، بكل ما يترتب على كلمة التفاعل من نفي لبعض النصوص، أو المزاوجة بينها، أو إزاحتها.

وفي إطار مشروع الحداثة الغربي لعب المؤلف دور المشرع في المجتمع، بمعنى طرح القيم والأفكار والمعايير التي على الناس أن يتبعوها. وترى حركة ما بعد الحداثة أن موت المؤلف الذي أعلنته، بمعنى زوال سلطته الفكرية، لا يعادله إلا انهيار دور المشرع في المجتمع، وسقوط الإيديولوجيات.

في ضوء هذا كله نستطيع أن نفهم لماذا ثورة 25 يناير بغير إيديولوجية. لأنها ببساطة تعبير بليغ عن حركة "ما بعد الحداثة" التي ترفض الإيديولوجيات الجاهزة المدعية امتلاك الحقيقة المطلقة، وتنطلق من شعارات أساسية استطاعت بها أن تحرك الملايين من جماهير المصريين.

وهي في ذلك تتفق تماماً مع الاتجاه الغالب في حركة ما بعد الحداثة وهو معاداة النظريات باعتبارها أنساقاً مجردة ومغلقة، وتريد استبدالها بحركة الحياة اليومية والتركيز على ديناميات التفاعل في المجتمعات المحلية تلافيّاً لعملية التعميميات الجارفة التي تلجأ إليها النظريات، مما يؤدي إلى تغيب الفروق النوعية وإلغاء كل صور التعددية الثقافية والاجتماعية والسياسية.

ثورة 25 يناير بلا إيديولوجية هذا صحيح، ولكنها انطلقت من شعارات أساسية هي الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية واحترام الكرامة الإنسانية تصلح في المدى الطويل، ومن خلال الممارسات النظرية للمفكرين من كافة الاتجاهات السياسية، وفي ضوء الخبرات الجماهيرية التي تتراكم كل يوم في ميدان التحرير وفي غيره من ميادين مصر الثائرة، أن يتم التأليف بين عناصرها تأليفاً خلاقاً لتصبح هي بذاتها الموجِّه الرئيسي لعملية التغيير الاجتماعي والثقافي الجذري التي تستهدف الثورة تحقيقها. إن الثورة لم تقم لمجرد إسقاط النظام القديم، ولكنها قامت أساساً لبناء مجتمع إنساني جديد!

*نقلا عن "الاتحاد" الإماراتية

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل