المحتوى الرئيسى

د. حلمي محمد القاعود يكتب: نجوم مصر ورموزها!

06/15 17:38

في عصور الانحطاط والتردي تفقد اللغة دلالتها الدقيقة، وتتبدل المواقع والأماكن بالنسبة للقيم، وينزل الأعلى إلى أسفل، ويصعد الأسفل إلى أعلى، وهو ما ينطبق على ما جرى في الستين عامًا الماضية؛ حيث انهارت القيم، وتغيرت المفاهيم وتبدلت، بعد أن كان رموز مصر ونجومها قبل ستين عامًا من عينة العقاد، والرافعي، والزيات، ومصطفى مشرفة، وحسن البنا، ومصطفى النحاس، ومحمود حسن إسماعيل، وإبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، ورياض السنباطي، وأشباههم.. عشنا حتى رأينا زمنًا صار أبطاله ونجومه ورموزه- مع احترامنا لأشخاصهم- من عينة شعبان عبد الرحيم، وأبو الليف، ومطربة الحنطور، ومطربة الحصان، وأشباه الممثلين والممثلات ولاعبي الكرة وسماسرة النوادي الرياضية ومثقفي الحظيرة وأشباههم!.

 

والمشكل في الأمر، أن السلطة المستبدة في العالم العربي كله، وليس مصر وحدها؛ تستمد الدعم والتأييد والشعبية من هؤلاء النجوم، فتتبناهم وتحتفي بهم وتقوم بتلميعهم باستمرار، مع استضافتهم الدائمة في وسائل الدعاية المختلفة من إذاعة وتلفزة وصحافة ومهرجانات ومناسبات مختلفة، ونشر أخبارهم الشخصية وصورهم وأنماط حياتهم وسلوكهم، حتى صاروا يقدمون للأجيال الجديدة على أنهم المثال والقدوة التي يجب أن تُحتذى وتقلد ويُقتدى بها، ثم تغدق عليهم السلطة المستبدة من أموال الشعب الفقير نظير أعمال رديئة هابطة.

 

ولم يعد غريبًا أن يستفتى هؤلاء النجوم والرموز أو الذين صاروا كذلك في أمور السياسة والحكم والقضايا العامة، حتى لو كان المستفتى لا يجيد القراءة والكتابة؛ فرأيه مهم بالنسبة للنظام ويتأثر به الشعب سلبًا أو إيجابًا، وخاصة بالنسبة للأجيال الجديدة التي تسطّح وعيها، وقلّت ثقافتها، وهؤلاء النجوم والرموز يقومون بتأليف الأغاني والأناشيد وتقديمها مدحًا في الحاكم الملهم، الذي ينطق بالحكمة، ويرتبط مصير البلاد والعباد بمولده ووجوده، وصحته ومرضه، وفرحه وحزنه وسروره وغضبه..

 

وفي الحملات التي تشنها الأنظمة الاستبدادية على قيم الشعب، أو على بعض القوى التي لا ترضى عنها السلطة المستبدة أو تسعى لإقصائها واستئصالها، يقوم هؤلاء النجوم والرموز بإنتاج الأفلام والمسلسلات والمسرحيات تأييدًا لهذه الأنظمة ودعمًا لها، وفي المقابل تغدق الأنظمة من أموال الشعوب الفقيرة المحرومة على أصحاب هذه الأعمال، بل إنها تخصص لهم حراسة شخصية من أموال دافعي الضرائب؛ تحميهم في مواجهة الجماهير المظلومة، وخوفًا من غضبها المشروع.

 

المفارقة أن هؤلاء النجوم والرموز ليسوا من الفن الحقيقي بمكان، بل هم في الغالب أقرب إلى التجار الغشاشين الذين يقدمون سلعة مغشوشة، وكل هدفهم هو الحصول على مقابل السلعة المغشوشة بأسرع ما يمكن، وأكبر قدر من المقابل، الذي يكون عادةً من المال السائب في وزارات صنعت خصيصى لرعاية الفن المغشوش، وإلهاء الناس به من أجل عيون الزعيم الملهم والحاكم المنتصر دائمًا!.

 

وللأسف الشديد؛ فإن الأنظمة المستبدة أبعدت العلماء والباحثين والمفكرين والأدباء والفنانين الحقيقيين عن مجال اهتمامها ورعايتها، بل أزرت بهم، وقللت من وضعهم المادي والاجتماعي حتى صارت الهجرة أو الخروج من الوطن أمرًا طبيعيًّا من أجل البحث عن حياة فيها بعض الكرامة وبعض التقدير، وتم تفريغ الوطن، بل الأمة من أبنائها الصالحين، لحساب المنافقين والأفاقين الذين يعدون أنفسهم نجومًا ورموزًا بقوة الاستبداد والقهر!.

 

في الثورة الجديدة التي قامت في تونس ومصر ودول عربية أخرى، انكشف دور هؤلاء النجوم والرموز المزيف؛ حيث ظنوا أن الطغاة الذين صنعوهم سينتصرون على الشعوب كما هي العادة، بحكم امتلاكهم للسلاح وأدوات القهر وأبواق الكذب والتضليل؛ فوقفوا إلى جانب الطغاة، وأهانوا الشعوب وحقَّروها ونالوا من كرامتها، ودافعوا عن آلهتهم العجزة، وفراعنتهم المهزومين، ونادى بعضهم بحرق الشعب المصري مثلاً، ووصف بعضهم الثوار بأوصاف مخلِّة بالشرف، وقال بعضهم كلامًا رديئًا لا يعبر عن نجوم حقيقية، ولا رموز أصيلة، وحين انتصر الشعب كما في تونس ومصر، تراجع بعضهم، وحاول التنصل من مواقفه المشينة في مساندة الطغاة والجلادين، وسعى بعضهم لغسل سمعته الملوثة، ولكن هيهات، فقد عرف الناس أن ذلك من أجل مصالحهم المادية الرخيصة، وليس من أجل الوطن المظلوم، وهناك مَن يحاول أن يبدو صاحب موقف؛ فتحدى الشعور العام، وأهان الشعب مرة أخرى في تحدٍّ صارخٍ، وكأن الأمور ملك يديه، وكأن المواطنين مجموعة من الدُّمى البلاستيكية تتحرك بأمر هذه النجوم المزيفة والرموز الضالة..

 

أن تخرج واحدة منهن وتنادي بحرق الثوار بـ"جاز"؛ لأنهم على غير رغبتها في مطالبتهم بالحرية وإنهاء الاستبداد، وإسقاط النظام البوليسي الفاشي .. فهذا تحدٍّ صارخ لإرادة الشعب .
أو تخرج أخرى لتندد بالقوائم السوداء التي ضمَّت أعداء الثورة، وأنصار الطغيان، وتقول: "طظ في القوائم ومَن وضعوها"، وتتحدى الثورة، وتعلن تأييدها للنظام السابق، وتعارض محاكمة الرئيس السابق، وتتجاهل ما فعله بالمصريين من قتل واعتقال وتعذيب بأوامر مباشرة، ثم تدميره لصحة ملايين المصريين بفيروس سي والفشل الكلوي والسل والسرطانات المتنوعة، فضلاً عن نهب مصر وتبديد ثرواتها الاقتصادية والعلمية وقدراتها السياسية والثقافية، والتفريط في حريتها واستقلالها؛ حتى صارت مجرد بلدية من بلديات تل أبيب المحتلة، وولاية من ولايات أمريكا المستباحة..!، فهذا إجرام في حق الشعب لا يغتفر!.

 

لا شأن لي بأن تعارض المذكورة الدكتور محمد البرادعي أو تؤيده، فهذا رأيها، والرجل يستطيع أن يدافع عن نفسه إذا شاء، ولكن الأمر يأخذ شأنًا عامًّا إذا أيدت من أذلوا الشعب وقهروه ودمروه، وأنفقوا عليها وعلى مثيلاتها وأهل حرفتها ملايين الشعب الفقير البائس، نظير أعمال رديئة، تحمل سمومًا فكرية وثقافية، وتروج لقيم هابطة، ونماذج اجتماعية لا تليق بالمجتمع المصري العربي المسلم..

 

إن إهانة الشعب بكلمة "طظ" لأنه يرفضها ويرفض أمثالها ممن يدعون أنهم رموز المجتمع ونجومه، وهم ليسوا كذلك ولن يكونوا، تطاول ووقاحة، يجب أن تحاسب عليها، هي ومن أتاح لها فرصة الإهانة!.

 

إن الشعب هو الذي يقول من هو النجم ومن هو الرمز.. فليست فلانة التي تزعم أنها نجمة الجماهير، أو نجمة مصر الأولى، أو راقصة مصر الأولى، وليس من يدعي أنه نجم الشباب، أو مطرب الجيل أو فنان المستقبل.., هذه أوصاف يمكن الضحك بها على بعض المراهقين، ولكنها لا تقنع شعبًا بأسره يعرف من هم نجومه ورموزه الأصلاء.

 

لقد قام عدد من الفنانين الحقيقيين بواجبهم الوطني، وبالمشاركة في الثورة، ليس استعراضًا أو طلبًا للشهرة؛ ولكنهم كانوا في وسط الناس مثلهم مثل أي شخص عادي لا يعرفه أحد، وأكتفي هنا بذكر الفنان الحقيقي عبد العزيز مخيون، صاحب الفكر والموقف، الذي دفع ثمنًا غاليًا نتيجة موقفه الشجاع، ليس في ثورة يناير فقط؛ ولكن في السنوات الماضية؛ حيث كان يشارك في الندوات والمؤتمرات والحركات الباحثة عن حرية الشعب وكرامته، وفي ثورة يناير انضم إلى اللجان الشعبية، ونزل إلى الشارع في مدينة دمنهور عاصمة المحافظة التي ينتمي إليها، دون أن يستدعي مصوري الصحف والتلفزة لتصويره والظهور أمام الجماهير!.

 

من المؤكد أن الفنان الحقيقي هو الذي ينحاز إلى الشعب حتى لو كان محدود الثقافة، وأتصور أن إسماعيل يس أكثر انتماءً للوطن، وأكثر تعبيرًا عن الشعب، من أولئك الذين تصوروا أنهم زعماء وقادة من خلال تقمص أدوار خيالية، وارتضوا أن يكونوا في حماية الشرطة بدلاً من حماية الشعب وحبه.

 

لقد قدم إسماعيل يس في زمانه أفلامًا- مع بساطتها وسذاجتها أحيانًا- أقرب لروح الشعب وأمانيه وقيمه، ولذا يشاهد الجيل الجديد أعماله أكثر مما يشاهد من أعمال بعض المعاصرين المتورمين نفسيًّا، والمتضخمين ذاتيًّا، والذين ينهبون أموال الشعب الفقير البائس من التلفزيون والإذاعة ووزارة الثقافة.

 

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل