المحتوى الرئيسى

الحد الأدني للأجور

06/15 10:27

شريف الشوباشي

برغم نجاح ثورة‏25‏ يناير في اقتلاع النظام السابق إلا إننا مازلنا نفكر بنفس المنطق وذات العقلية التي كانت سائدة في عصر مبارك ومازالت معظم المفاهيم والسلوكيات كما هي لم تتغير‏,‏

وأظن أنه إذا أردنا التقدم فإنه يتعين علينا أن نعترف بأننا في أمس الحاجة إلي ثورة في العقول والمواقف وأساليب التفكير وقواعد التعامل بين أبناء المجتمع.

ومن الواضح أنه بعد عقود طويلة من تضليل الرأي العام وخداع المواطنين بالكلمات المعسولة والشعارات البراقة أصبحت لدينا نزعة فطرية تجعلنا نفضل أن نعيش في دنيا الأوهام ونسعد بالوعود الزائفة والتصريحات الجوفاء التي تخدر النفوس, أصبحنا أسري للمظهر علي حساب الجوهر وللخيال علي حساب الواقع.. أصبحنا ننقاد للدجال والمنافق ونمقت من يدعونا إلي طريق العقل وحديث المنطق.

أقول هذا الكلام بمناسبة الغضب العارم الذي عم قطاعات واسعة من المجتمع بعد الإعلان عن الحد الأدني للأجور وتحديده بمبلغ700 جنيه شهريا في ميزانية الدولة الجديدة ووصل الأمر إلي رفع دعاوي قضائية ضد الحكومة.

وهذا يؤكد أننا كنا نريد أن نطنطن ونهتف ونهلل للحكومة لأنها رفعت الحد الأدني إلي1200 جنيه أو أكثر من ذلك دون أن ندرك أن مثل هذا الارتفاع سيكون كالديكور أو كالمساحيق التجميلية التي لا تغير الواقع بل سوف تنعكس سلبا علي كل هؤلاء الذين يهتفون ويهللون مطالبين برفع الحد الأدني إلي أكثر من ألف جنيه.

وهناك تعبير ينطبق تماما علي حالتنا بعد ثلاثين عاما من حكم مبارك وهي الانصياع للديماجوجية أي تملق الشعب وإثارة الغرائز الكامنة ودغدغة عواطفه بإطلاق العبارات الطنانة التي تسعده لكنها في واقع الأمر تؤدي إلي شقاء المجتمع والسقوط في هاوية التخلف. لكنه من الواضح أننا ادمنا الديماجوجية وصارت جزءا لا يتجزأ من شخصيتنا.

وأعلم أن كلامي قد يثير غضب الكثيرين لكني أقول بمنتهي الصراحة إنه إذا استطاعت الحكومة الجديدة أن تفرض هذا الحد الأدني وهو700 جنيه علي أرض الواقع فستكون قد حققت انجازا لا يستهان به ويكون نواة لانطلاقة في مستوي الأجور بصفة عامة في السنوات العشر القادمة مما يؤدي إلي انتشال الطبقات الكادحة من تحت خط الفقر إلي مستوي مقبول يلبي الاحتياجات الأساسية للأسر المصرية البسيطة.

لكنه يبدو أن اتجاه الرأي العام هو تفضيل رفع الحد الأدني علي الورق إلي1200 جنيه ثم يتمخض الأمر عن انهيار جديد في القوة الشرائية للمواطن وموجة غلاء غير مسبوقة في الأسعار. فرفع الحد الأدني إلي1200 جنيه فجأة ودون تدرج سيؤدي حتما إلي حالة من التضخم تجعل هذا المرتب بعد فترة قصيرة مماثلا في الواقع العملي لمبلغ700 جنيه المقترح حاليا لأن ما سيحدث هو أن أسعار السلع والخدمات سوف تقفز تلقائيا إلي الحد الذي يجعل ارتفاع الحد الأدني والأجور عموما مجرد وهم كبير وتصير العملة أقرب إلي أوراق بنكنوت انكمشت قيمتها ولم تعد تساوي شيئا.

وأذكر أنه عندما تخرجت في الجامعة في الستينات كان مرتبي الصافي22 جنيها وكانت تكفيني لسد احتياجاتي الأساسية. وعندما تزوجت وفتحت بيتا بعد ذلك بسنوات قليلة كان إجمالي دخلي مائة وعشرين جنيها وكنا نعيش في نوع من البحبوحة المادية. المسألة إذا ليست في رقم براق يفرح له الجميع ثم يكتشفون بعد ذلك أنه أكذوبة وأن الألف ومائتي جنيه التي يحلم بها الناس سوف تتبخر بسرعة جنونية بفعل الغلاء وارتفاع الأسعار في كل مكان وتعود الأمور إلي ما كانت عليه وكأنك ياابوزيد ما غزيت.

والحد الأدني للأجور في الدول المتقدمة نظام يستهدف مواجهة استغلال أصحاب العمل للعاملين غير المؤهلين وإتاحة الفرصة لمن فاتهم قطار التعليم من السقوط في براثن الفقر. وفي فرنسا يبلغ الحد الأدني الصافي للأجور الآن1073 يورو شهريا أي ما يوازي نحو9200 جنيه وهو يراجع بصفة سنوية بناء علي معايير مدروسة أهمها نسبة التضخم والقيمة الشرائية لليورو.

لكنه علينا أن ندرك أن الأسعار في فرنسا أعلي كثيرا من الأسعار في مصر. وأعلم أن بعض المزايدين سيطلقون الفتاوي بأن الأسعار عندنا أصبحت مطابقة لأسعار فرنسا وهو كلام بعيد عن الصحة. وسوف أعطي مثالا ملموسا بالطعام فأقل وجبة هناك لا تقل عما يوازي مائة جنيه مصري في حين أنه يمكنك تناول وجبة معقولة في مصر بنحو15 جنيها وهو أمر غير وارد في أي مكان بأوروبا.

ولعل مأساة الاقتصاد المصري التي نرفض الاعتراف بها هي أن أكثر من نصف التعاملات المالية التي تجري عندنا تتم بعيدا عن عيون الدولة ولا تعلم الحكومة عنها شيئا. وسأضرب مثالا صارخا هو الدروس الخصوصية التي تتعدي16 مليار جنيه سنويا ولا تحصل الحكومة منها علي أي ضرائب ولا تملك أية وسيلة لمراقبتها وحصرها ناهيك عن تقنينها.

كذلك فإن كل الذين يعملون في ورش النجارة والسيارات والمحال التجارية يحصلون علي رواتبهم نقدا من صاحب العمل وكأنهم يعملون في طابونة. وأنت إذا استدعيت في منزلك كهربائيا أو سباكا فإنك تدفع له أجره دون أي إثبات ورقي أو وثيقة.

ولا أنسي المرة الأولي التي استدعيت فيها فنيا فرنسيا في باريس لإصلاح سخان منزلي وعندما دفعت له أجره طلب مني التوقيع علي فاتورة بالمبلغ فأجبته بأنني لست في حاجة إلي فاتورة وكنت أتصور ساعتها أنني أسدي له خدمة كبيرة.

ونظر إلي الشاب شزرا وقدم لي قلما فقمت بالتوقيع علي الفاتورة وأنا في حالة حرج شديد. وفهمت بعد ذلك أن تلك الفاتورة الرسمية تحفظ له حقوقه وأنه لا توجد أية تعاملات في فرنسا ولا في أي دولة متقدمة تتم في الظلام كما هو الحال عندنا.

والطريف أن المصريين الذين يعملون في أوروبا في أعمال الكهرباء والبياض والسباكة قد استنوا قوانين جديدة حيث يرفضون التعامل بالفواتير ويحصلون علي أجورهم نقدا وليس عن طريق شيكات يمكن رصدها من خلال البنوك.

وقد قال لي مسئول بالخارجية الفرنسية في أحد الأيام إن الجالية المصرية لا تثير المشكلات وهي غير متورطة في الإرهاب والشغب مثل باقي الجاليات العربية لكن المشكلة أنها تلعب دورا سلبيا من خلال رفضها الانصياع لقواعد التعاملات المالية والتجارية وتحاول أن تعمل في الظلام لتحصل علي مكاسب مؤقتة, وأضاف أنهم الخاسرون علي المدي البعيد حيث لا يحصلون علي معاشات ولا ضمانات اجتماعية ولا تأمينات ويتركون كل ذلك لمشيئة الأقدار وهو عكس المفهوم الغربي الذي يكفل لكل مواطن الضمانات اللازمة لحياة كريمة في حالات المرض أو العجز أو الشيخوخة.

ولو استطاعت الحكومة الجديدة أن تضع الضوابط والضمانات بداية بحد أدني معقول يبدأ بسبعمائة جنيه ثم يرتفع بعد ذلك ثم تعمل علي إلغاء اقتصاد الظلام الذي يحرم المواطن من حقوقه الأساسية في الضمانات الصحية والاجتماعية تكون قد لعبت دورا تاريخيا في النهوض بمصر ووضعها في مصاف الدول المتقدمة.

*نقلا عن صحيفة الأهرام المصرية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل