المحتوى الرئيسى

إلى شركاء الوطن والتاريخ: تعالوا إلى كلمة سواء

06/14 17:42

بقلم: أ.د. زكريا سليمان بيومي

تتعرض العلاقة بين أهل مصر وشركاء الوطن والتاريخ فيها من مسيحيين ومسلمين في فترات الأزمات والاضطرابات السياسية لتلاعب المغرضين وسهام الكارهين لمصر، لكننا مع ذلك لا بدَّ أن نعترف بأن الأزمة التي تكمن وراء هذا الجانب سببًا ونتيجةً ليست وليدة اليوم من جانب، وأن بعض عناصر من المصريين يشاركون في صنعها وتضخيمها من جانب آخر.

 

أما عن البعد التاريخي فهي مرتبطة بالدور الاستعماري الغربي منذ قدوم الفرنسيين الغزاة إلى مصر؛ حيث استخدموها كورقة لتمزيق وإضعاف مصر، صحيح أن الهدف الاستعماري لم يحقق نجاحًا في شق عصا المصريين، وشارك الجميع في مقاومته؛ إلا أنه نجح في تجنيد قلة من المسيحيين بقيادة المعلم يعقوب تسانده ضد المقاومة الشعبية حاول من خلالها تمزيق صفوف الأمة، وطرح لأول مرة فكرة الاستقواء بالأجنبي؛ فحاولت هذه القوة أن تستأسد على بني وطنها؛ لكن هذه القوة وهذه الفكرة سرعان ما انتهت برحيل الفرنسيين والمعلم يعقوب معهم ثم موته، وعادت اللحمة لأبناء الوطن لولا بعض الكتابات المستفزة لبعض المفكرين المسيحيين الذين وصفوا دور المعلم يعقوب بالدور الوطني الساعي لفصل مصر عن دولة الخلافة واستقلالها؛ حيث كان دعاة القومية يعتبرونها دولة احتلال فهيئوا المناخ لهذه الأفكار التي لم تكن معبرة عن حقيقة توجه أغلبية شعب مصر.

 

 واعتبر كثير من المفكرين المسلمين أن مثل هذه الأفكار وغيرها والتي تهيأ لها المناخ في ظل الأنظمة القومية تعد نكرانًا لتاريخ طويل عاشها الجميع في ظل القوانين الإسلامية وحكومات الخلافة؛ حيث نعم الجميع من مسلمين ومسيحيين ويهود بالسماحة والتلاحم وحرية الاعتقاد والتملك والتنقل وكل ما من شأنه تحقيق الارتباط الكامل دون تفريق، وشاركوا طوال هذا التاريخ في بناء حضارة هذه الأمة من خلال تراث الكنيسة في الإسكندرية، وعلماء وفلاسفة اليهود مع نظرائهم المسلمين، وبلغة هذه الحضارة العربية بإبداع كان شاهدًا على هذا التلاقي والانصهار.

 

واعتلى كثير من اليهود والمسيحيين من المصريين والأجانب الساحة السياسية في عصر محمد علي، وشاركهم بعض المسلمين دون غضاضة في بناء النهضة التعليمية؛ لكن بعض المسيحيين واليهود قد عبروا عن بعض الأفكار التي تهاجم الرصيد التاريخي الثقافي للمسلمين، بعد أن تسيد الأجانب وفكرهم الساحة الثقافية، لكن مثل هذه الأفكار أيضًا لم تلق تجاوبًا من جموع المسيحيين في مصر، فكانت مشاركة عناصر من المسلمين في المحافل الماسونية المرتبطة باليهود أكثر من العناصر المسيحية خلال هذه الفترة.

 

وحين خضعت مصر للاحتلال البريطاني ومكّن لكثير من العناصر المسيحية في مواطن صنع القرار المتوافق مع سياسته، أسهم ذلك في إثارة الرأي العام الإسلامي بعد عودة فكرة الاستقواء بالأجنبي؛ فسيطر الكثير منهم على المصالح الاقتصادية ووسائل الإعلام والوزارات.

 

 وتزامن ذلك مع بدايات التخطيط الصهيوني للسيطرة على فلسطين واستخدامهم للتاريخ كوسيلة لتأكيد حقهم بعد تزييف الحقائق وتشويه كل شيء؛ فظهرت بدايات فكرة عند بعض الكتاب المسيحيين في إمكانية أن يسلكوا منهجًا مماثلاً لتشويه التاريخ؛ من أجل ادعاء أن المسلمين محتلين، وأن مصر الحقيقية لهم، وأن عليهم سلك سبيل المقاومة كلما أتيحت الفرصة لذلك.

 

 وبدأ يظهر تبعًا لذلك مصطلحات غريبة على الرصيد الثقافي الجامع لأهل مصر مثل الشعب القبطي والأمة القبطية، وأن "قبط" يعني مصري، وأن المسلمين عرب من أجلاف الجزيرة العربية، بل وبدأ بشكل مستتر فكرة التشويه للعقيدة الإسلامية.

 

وأسهم تنامي مثل هذه الأفكار والترويج لها في أن يشكل استفزازًا وجرس خطر لأتباع التيار الإسلامي، فيما يتعلق بعلاقتهم بشركاء الوطن والتاريخ، وأدركوا أن ذلك لا شك يعبر عن مكنون نفسي دخيل على هذا الرصيد، وراح بعض المفكرين المسلمين يعيد التفكير في أصل العلاقة من منظور الدين، وظهرت كتابات تشير إلى أن الإيمان بالمسيحية كدين من قِبَل المسلم هو جزء أساسي في إيمانه، وبغيره ينقص هذا الإيمان أو يختل؛ ولكن في نفس الوقت لا يقابله حتى مجرد اعتراف بالإسلام كدين بل يعتبرونه أكذوبة ونبيه مدعيًا كاذبًا وأن أتباعه مضللين موهومين، وقد سمعت هذا بنفسي حين كنت في مؤتمر في السودان من بعض القساوسة، كما سمعته من أحد كبار القساوسة العلماء في بطرخانة كلوت بك، حين كانت كنيسة العباسية يعاد ترميمها.

 

ولم يترك الإسلام كعقيدة لأبنائه مجالاً للاجتهاد في علاقتهم بالمسيحيين، بل هو التزام عقدي فالمسلم مطالب بأن يبر المسيحي ويقسط إليه في التعامل إذا كان يبتغي وجه الله ورضاه. لكن الأمر كان يفرض أيضًا ضرورة توضيح الحقائق لشركاء الوطن، حتى لا ينمو ما أريد تشويهه من الحقيقة والتاريخ.

 

فمصطلح قبطي مصطلح سياسي ثقافي وليس مصطلحًا دينيًّا أو عرقيًّا، وكل أبناء مصر هم من القبط، فمنهم من اهتدى إلى الإسلام ومنهم من ظل على دينه المسيحي، والمسلمون الذين وفدوا إلى مصر مع عمرو بن العاص كانوا بضعة آلاف سرعان ما خرج أغلبهم للجهاد في الشمال الإفريقي مع عقبة بن نافع وأبو المهاجر دينار، بل وشاركهم بعض أقباط مصر ممن هداهم الله للإسلام.

 

وظلت نسبة الجزية تشكل الوعاء الأكبر عن الزكاة في خراج مصر لعدة عقود كدليل على بطء انتشار الإسلام، وعدم الإجبار على اعتناقه، كما أن عدد سكان جزيرة العرب في هذه الفترة كان أقل من عدد سكان مصر في وقت أصبح فيه مسلمو مصر أكثر من المسيحيين فيها، فمن أين جاءت هذه الأكثرية؟

 

وإذا كانت مصر قد شهدت في المراحل التاريخية التالية هجرة بعض القبائل العربية المسلمة، فإن هناك قبائل عربية تدين بالمسيحية قد هاجرت هي الأخرى إلى مصر كقبائل نجران التي استوطنت وسط نجد وشمال الجزيرة منذ أواخر عصر عثمان بن عفان رضي الله عنه بناء على طلبهم بعد أن جدبت أرضهم، كما أن بعض القبائل الحبشية المسيحية قد هاجرت إلى مصر واستقر بعضها في بلاد النوبة في حين اتجه بعضها الآخر إلى وسط مصر وشمالها.

 

 ولو أضفنا إلى ذلك حركة الهجرات الدائمة وإن كانت محدودة في ظل الانتماء للدولة الواحدة الواسعة في ظل حكم المسلمين، وكذلك هجرة كثير من مسيحيي أوربا ومسيحيي الشرق، كالأرمن واليونانيين وسكان البحر المتوسط وغيرهم لأدركنا صعوبة نقاء العنصر القبطي في مصر بمسلميه ومسيحييه، وبالتالي يصبح استخدامه في التأصيل التاريخي استخدامًا غير موضوعي قاصر على المغرضين والجهلة والمدعين.

 

أما عن فكرة الاستقواء بالأجنبي لمجرد وحدة الدين لا المذهب فقد عادت مرة أخرى، كما سبق القول، في عصر الاستعمار البريطاني؛ فشاركت كوادر مسيحية في تحقيق هدف الإنجليز في إبعاد مصر عن السودان وإبرام اتفاقية الحكم الثنائي 1899م، ثم في الحكم على فلاحي دنشواي بالإعدام 1906م، ثم بإصدار القوانين المضيقة على الحركة الوطنية1910م، كما شارك العديد من كتاب التاريخ من المسيحيين التيار الليبرالي واليساري في تشويه تاريخ ثورة شعب مصر 1919م، وذكروا أن ظهور الوحدة الوطنية ومشاركة المسيحيين فيها ما كان إلا لانحسار المد الإسلامي، ولم يشر أي منهم بالطبع إلى أنها ثورة إسلامية بكل أبعادها، وهو ما أكده الزعيم المسيحي مكرم عبيد حين قال: "إنني مسيحي دينًا ومسلم وطنًا، ولا بدَّ أن أدافع عن دين هذا الوطن وهو الإسلام".

 

ثم عادت فكرة الاستقواء بالأجنبي في زماننا الحالي بعد أن سقط السوفييت وهيمن الأمريكيون على العالم، وامتدت يدهم داخل الشعوب بحجج من صنعهم: كحقوق الإنسان وجمعيات المجتمع المدني ومراكز البحث، وحرية الكلمة وغيرها من المصطلحات الفارغة من أي معني.

 

وظهر من خلال هذا الجو المسموم العكر ما سمي بأقباط المهجر الذي أفرز بعض الشخصيات كمايكل منير وغيره من الراغبين في الانسلاخ عن الوطن، وبخاصة بعد أن أقر الكونجرس الأمريكي قانونًا يسمح لأمريكا بالتدخل لحماية الأقليات في العالم والذي يستخدم كفزاعة للشعوب الإسلامية على وجه الخصوص.

 

والحقيقة أن الاستقواء بالأجنبي فكرة تافهة وساذجة، وتسهم في إيجاد شعور معادٍ بين عناصر الوطن الواحد من مسيحيين ومسلمين، وأن الأجانب يستخدمونها لتحقيق المصالح التي تنتهي مع انتهائها، والأولى أن يستقوي الشعب بكل عناصره وفئاته بالتاريخ والمستقبل المشترك والمصير الواحد، فاليهود حين كانوا يضربون قرى مصر بالطائرات في حروبهم كانوا لا يعزلون المسيحيين ويضربون المسلمين وحدهم، والنصر الذي تحقق في أكتوبر1973م دفع ثمنه المسيحي والمسلم، وثورة يناير العظيمة شهدت انصهارًا لا يستطيع أحد أن يميزه، وتحقق ما قاله القائد الإنجليزي اللينبي في الحرب الأولي: إنك لا تستطيع أن تفرق بين المصريين من حيث الدين في كل بقعة في مصر حتى ولو داخل دور العبادة.

 

 ولو صادفت مسيحيًّا يستقوي بالأجنبي فإنه غير ملتزم بما في المسيحية من سماحة بل تصبح ادعاءً، وتصبح سماحة المغلوب أو الأقلية التي تحكمها ظروف التاريخ وتدور في إطار التكتيك، وليست متوافقة مع التعاليم السمحة والواعية للمسيحية التي عرفها الأجانب من خلال أهل مصر.

 

ولا شك أن فكرة استقواء بعض المسيحيين بالأجنبي قد خلقت قدرًا من التحفز ورد الفعل الرافض لدى بعض المسلمين، بل ودعت بعضهم إلى التهيؤ للمقاومة أو الجهاد ضدَّ الأجانب وضدَّ من يستقوي بهم وهم من تسميهم أمريكا بالإرهابيين.

 

 وإذا كان ذلك يمثل قلة من المسلمين فإن بعض المسيحيين قد التقطوه لكي يسوقوه على أنه يدعو إلى الاستقواء وأنهم مضطهدون، ويدور الجانبان في حلقة تخالف طبيعتهم التاريخية بل والدينية.

 

وأصبح أمام هذه الأفكار المتصادمة ضرورة أن يسارع المفكرون المصريون من الجانبين إلى عقد ندوات حوارية بينهم تعيدهم لمسيرتهم الأولى ودون تدخل أجنبي مباشر أو غير مباشر يمثله عناصر من أبناء مصر في المهجر، وأن يكون التعليم والتربية وسيلتهم لذلك، فتعاد صياغة تاريخهم بالحقائق التي تصل بهم إلى العودة للتلاقي، فالبناء الحضاري يستوجب توضيح الفترة القبطية وقدر عطائها لحضارة المسلمين والعالم، ومن خلال المنهج الحضاري الإسلامي.

 

 كما ينبغي مناقشة وحدة تعامل الدولة في مصر مع الأوقاف المسيحية والأوقاف الإسلامية، وخضوع الجميع في كل تصرفاتهم البعيدة عن العبادة لسلطة الدولة، كما ينبغي تحديد البعد الديني في ممارسة الحياة السياسية وإقرار الدولة المدنية التي هي طبيعة الدولة في الإسلام والتي تحتمي بسلطة الأمة لا بإملاءات الأجانب وإدراك المسيحيين بالبعد التاريخي أن القوانين الإسلامية تحقق قدرًا أكبر من ضمان مصالحهم عن أية مرجعيات أخرى.

 

لقد أصبح على جميع المصريين الاحتماء برصيد المحبة أكثر من الاحتماء بالقوانين المنظمة للعلاقة بينهم، ولا بدَّ أن يدرك الجميع أنه لا خشية من الذي يذهب ليصلي، بل الخشية ممن لا يصلون فمنهم الجاحد والجاهل والبلطجي الذي يثير قلق الوطن.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل