المحتوى الرئيسى

حتى يكتمل الإيمان

06/14 15:38

بقلم: د. حمدي فتوح والي

الأمة كلها منتدبة اليوم لكي تقوم بواجبها نحو إعادة دين الله إلى الأرض، فمن يقوم بهذا الدور؟ أليس المؤمنون هم أولى الناس قيامًا بهذا الأمر؟ فمن إذن هم المؤمنون؟، ومتى يوصف المؤمن بكمال الإيمان؟

 

لقد نظرت في كتاب الله تبارك وتعالى؛ لأنظر مَن هم المؤمنون؛ فرأيت أربع آيات كل واحدة منها أخذت في وصف المؤمنين، وكل آية منها بدأت بأداة الحصر والقصر (إنما) فشعرت أن مَنْ وراء هذه الأداة هم المؤمنون الكاملون.

 

قرأت الآيات الأولى من صدر سورة الأنفال في قول الحق سبحانه وتعالى:

 

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال: 2-4).

 

فأدركتُ أن هؤلاء هم المؤمنون، بصفاتهم التي أجملها الحق تبارك وتعالى: وجل القلب عند ذكر الله، وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن، وحسن التوكل على الخالق سبحانه وتعالى، والحرص على إقامة الصلاة، والإنفاق من الأموال في سبيل الله.. ولئك هم المؤمنون حقًّا.

 

وعندما قرأت قول الله سبحانه وتعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: من الآية10) وجدت أن ما بعد أداة الحصر والقصر شيئًا يختلف عما كان في الآية الأولى؛ فقلت: فمن هم المؤمنون إذن؟

 

وعندما قرأت الآية الثالثة في سورة النور فوجدت قول الخالق سبحانه:

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)) (النور).

 

رأيت مضمون الآية يختلف عن مضمون آية الأنفال وعن مضمون آية الحجرات، ثم رأيت آية رابعة في سورة الحجرات أيضًا تخص المؤمنين، وتحدد صفاتهم مبدوءة بأداة الحصر والقصر أيضًا، وهي صفات تختلف تمامًا عن صفات المؤمنين في الآيات الثلاثة السابقة، وهي قول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ(15)) (الحجرات).

 

فقلت سبحان الله!! أي هؤلاء هم المؤمنون؟ أهم الذين ذكرت صفاتهم في سورة الأنفال؟ أم الذين ذكرت صفاتهم في سورة الحجرات، أم الذين ذكرت صفاتهم في سورة النور؟
وكيف نُوفِّق بين هذه الآيات؟

 

وعند التأمل والتدبر رأيت أن الله تبارك وتعالى قد جعل الإيمان لا يكتمل إلا بكمال هذه الآيات الأربعة في قلب كل مؤمن؛ أي أنه لكي يكون المؤمن مؤمنًا حقًّا لا بد أن يحقق في قلبه ونفسه كل ما ورد وراء أداة الحصر في جميع هذه الآيات.

 

ولكن كيف تتكامل الآيات وكل آية منها تمثل دائرة تتداخل مع الدائرة التي بعدها؟!!

 

لقد أدركت أن آيات الأنفال تحدد صفات الفرد المسلم، ولننظر معًا لنرى هل يتعسر أو يصعب على كل إنسان أن يستكمل في نفسه أوصاف آيات سورة الأنفال، ولنقرأها معًا: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)) (الأنفال).

 

يستطيع كل مسلم أن يستشعر في قلبه الوجل فردًا، وهل يحتاج إلى جهة أخرى حتى يحصل في نفسه هذا الشعور؟ إنه لا يحتاج إلى جهة أخرى حتى يحقق الوجل عند ذكر الله، وإنما الذي يحتاج إليه هو صدق اللجوء إلى الله، وعمق اليقين واستحضار هيبة الله وخشيته، كما أن كل فرد يستطيع وحده أن يحسن التلاوة والتدبر فيزداد إيمانه ويعمق يقينه، ولا يصعب على المسلم فردًا أن يحسن التوكل على الله وصدق التفويض إليه، ولا يحتاج لكي يحقق ذلك إلى مساعدة من أحد، كما أن كل مسلم يستطيع أن يؤدي ما شاء من الصلاة، وأن ينفق من أمواله ما يشاء.

 

فهذه الصفات الخمسة لا تحتاج إلى الجماعة لكي يقوم بها الأفراد؛ لكن الأفراد الذين استكملوا في أنفسهم تلك الصفات سيظلون أفرادًا مؤمنين، ولن يستطيع كل واحد منهم أن يستكمل في نفسه معنى الأخوة إلا إذا التقى مع أخيه المؤمن الذي استكمل مثله جميع صفات آية الأنفال، وعندما يتم هذا التلاقي ويقع بينهم هذا الالتحام والالتئام سيتكون من مجموع هؤلاء المؤمنين كيان واحد وبناء متين جميع أفراده قد استكملوا صفات الأفراد المؤمنين؛ عند ذلك يكون هذا الكيان قد ارتقى إلى الدائرة الثانية التي هي دائرة الأخوة، والتي أشارت إليها آية الحجرات (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: من الآية10).

 

لكنا نتساءل: وهل من الضروري أن ينتقل أصحاب آية الأنفال من دائرة الأفراد المؤمنين إلى دائرة الأخوة؟

 

وللإجابة عن هذا السؤال أردّك إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لترى كيف كانت بداية الدعوة، وهل كان يُكتفى من المسلم الذي أسلم أن يظل منغمسًا وحده في المجتمع الذي يخالفه الفكر والاعتقاد أم يضمه إلى إخوانه الذين سبقوه بالإيمان؛ ليزداد به عددهم، ويزداد هو بهم قوة، ويأمن على نفسه من الفتنة والضعف أمام كيد الشيطان ومكر الكفار.

 

لقد رأينا الإسلام ينتقل من دائرة الفرد إلى دائرة الجماعة انتقالاً آليًا تلقائيًّا في دار الأرقم بن أبي الأرقم؛ ولأن هذا الجمع الإيماني الأخوي لا يمكن أن يصلح أمرهم إلا بقيادة حكيمة رشيدة ربانية تقية، نزل قول الخالق الحكيم سبحانه يدعو إلى إيجاد هذه القيادة بقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور: 62).

 

فكانت هذه الآية من سورة النور هي الدائرة الثالثة التي هي دائرة القيادة.

 

والناس مجمعون بفطرتهم على أن أمر الجماعة لا يصلح إلا بقيادة.

 

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم         ولا سراةَ إذا جهالهم سادوا

ونبينا صلى الله عليه وسلم يرشد أمته إلى ضرورة القيادة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم".

 

وهكذا يلتئم الصف من أفراد مؤمنين صالحين، يلتقون في كيان أخوي حبيب تحت قيادة ربانية إيمانية تقية.

 

ولك أن تتصور جماعة لها عقيدتها وتتمايز في سلوكها وأخلاقها وتفطم وتتنامى في كيان واحد، وتحت قيادة واحدة، هل تظنها تخفى عن الأعين وتغيب عن الأعداء؟

 

إن ذلك ما لا يقبله العقل، وإنما الشيء البديهي أنها لا بد أن تظهر قوتها ويستهدف كيانها، وعند ذلك لا ينفعها إلا أن تتحقق بالآية الرابعة التي أوجبت على هذه الجماعة أمر الجهاد؛ وذلك في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ) (الحجرات).

 

عندها يكون الإسلام قد بلغ درجة النضج والاستقصاء والقوة، فلا يخشى من أية قوة في الأرض ما دام هذا الرباط قائمًا ووثيقًا بين أفراده وقيادته، وبين القيادة وبين ربها سبحانه، فيكون المجتمع كله مجتمعًا ربانيًّا يستمد القوة منه ويخلص الولاء له سبحانه.

 

هذا هو الإيمان كما قدَّمه القرآن في حلقاتٍ أربع يتداخل بعضها في بعض، إذا سقطت إحداها انفرطت جميعًا.

 

إنها صفات أفراد أولاً إذا نضجت أسلمته إلى الحلقة التالية ليشعر بكيانه الإيماني في جماعة تربط بين أفرادها وشيجة الأخوة، وهي وشيجة لا تكون إلا حيث تصفو القلوب وتنضج المشاعر، وتمتلئ الأحاسيس باليقين الصادق والإيمان العميق.

 

ولأن الأفراد في الجماعة يشبهون الأعضاء في الجسم الواحد؛ فلا بد للجسم من رأي يضبط تصرفاته ويحكم تحركاته ويحسن التدبير والتنظيم، كان لا بد للجماعة من رأي يقوم فيها بهذا الدور، وتلك هي الحلقة الثالثة.

 

ومع اكتمال هذا الكيان المكون من أفراد مؤمنين تجمعهم آصرة الأخوة ورابطة الحب؛ لا بد أن يملك القدرة على حماية نفسه وصيانة كيانه من أن تنال منه موجات الحقد الأسود التي دفعت إبليس إلى إعلان موقف العداوة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأعلن أعوان إبليس من الكافرين والمشركين أنهم لن يهدأ لهم بال ولن يقر لهم قرار حتى يحرموا هذا الكيان ثمرة تميزه وأسباب تفضيله وهو الإيمان بالله.

 

فهذا إبليس يعلن متبجحًا كافرًا (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ (83) (ص)، بل وبين وسائل عمله بتفعيل شديد، فيقول مخاطبًا ربنا سبحانه وتعالى: (وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء: من الآية 120).

 

وهؤلاء أتباع إبليس من اليهود والنصارى يعلنون إصرارهم على استئصال المسلمين، وأن يردوهم عن دينهم إن استطاعوا، ويحذرنا ربنا سبحانه وتعالى من كيدهم بقوله: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا) (البقرة: من الآية 217).

 

وحتى لا يتركنا الله سبحانه وتعالى في حيرة من هذا الأمر، يهيئ لنا أسباب ذلك بقوله: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) (النساء: من الآية 89)، ويبين العلة في ذلك بقوله: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ) (البقرة: من الآية 109).

 

من أجل هذا كانت الآية الرابعة التي كونت الحلقة الأخيرة في اكتمال الإيمان باشتراط الجهاد في سبيل الله شرطًا لكمال هذا الإيمان: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (15)) (الحجرات).

 

ومن يتأمل هذا التكامل الدقيق بين الآيات يدرك الفارق الكبير بين الإيمان الكامل وبين ما يمارسه الناس اليوم من عواطف منقوصة يغلب عليها الإلف والعادة بعد أن تحولت تلك العواطف إلى أصداء للممارسات الخاطئة والجاهلة التي كرسها الاستعمار وصبيانه من السفهاء الذين باعوا ضمائرهم وأوطانهم للشيطان، وأشعروا الناس أن الإسلام مجرد شعائر منقطعة الصلة عن الواقع يمارسها كل فرد وحده دون أية علاقة له بأخيه، ودون علاقة له ولأخيه بشئون الحكم ومجالات الحياة.

 

ولقد أنتجت هذه المؤامرة الفكرية والعقدية أجيالاً مشوهة الفكر، مهزوزة العقيدة، ضائعة الانتماء، ضعيفة الولاء، سلبية، خانعة، ذليلة.

 

وكانت هذه الحالة هي المطلب الأساس لطلاب السلطة والتحكم وسلب أقوات الشعوب من المغامرين والمقامرين ولصوص الأموال والأعراض، الذين وجد الاستعمار الصليبي الحاقد فيهم بغيته فآزرهم وساندهم واطمأن تمامًا إلى سلامة خططه وتنفيذ مآربه على أيدي هؤلاء، فسلّم السلطة إليهم، ومكّن أيديهم من رقاب الناس، ثم انسحب ليتابع مؤامرته من خارج البلاد، وهو مطمئن تمام الاطمئنان على أن المنظومة التي أوجدها ستحقق النتائج التي أرادها أكثر مئات المرات من قيامه هو بهذا الدور.

 

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل