المحتوى الرئيسى

غادة نبيل تكتب: وأبناؤكم ؟

06/10 20:45

الأطفال فى الثورات العربية .

منسيون حتى يذكرنا بهم حمزة الخطيب وثامر محمد الشرعى وغيرهم فى سوريا , وبلال سالم ومحمود سعيد هديه وإبراهيم صبحى عبد الصمد وكريم محمد وغيرهم فى مصر .. وأطفال سنعرف أسماءهم بعد ما تتوقف آلة القتل الشاذة فى ليبيا واليمن وسوريا .

ولأنهم مع النساء والشيوخ رموز للضعف وقلة الحيلة , تُختبَر الإنسانية فيهم , يحصلون على " استثناء " فى معاهدات واتفاقيات الحروب , استثناء تتعمق حمولته الرمزية فى تفاصيل الثقافة اليومية بكل مكان فى العالم حين ينهض رجل لامرأة فى المواصلات العامة  أو هو يتنحى عن مقعده فى صالات الإقلاع بالمطارات أو تنهض فتاة لشيخ أو لسيدة تحمل رضيعاً .

هذه الحمولة الرمزية التى تجسد معانى الأمومة والبنوة ثم صورة المرحلة الأخيرة فى حياة الإنسان , أى الشيخوخة / الأبوة والتى بها – شكلاً – ما ينكأ الإنسان بداخل كل منا حين نتأمل التجسد الحى لما قد نصبح عليه فى نفس العمر , هذه الصورة يُفترَض فيها استفزاز القاتل المحتمل , استثارة شئ ينوب عن غياب أشياء أخرى فى التكوين العنيف والسيكوباتى مثل النخوة والنبالة والرحمة : هذا الشئ هو بلا تسمية ربما لأنه بدائى أو يتصل بحالة أولية . أن تعقد الصلة , أو صلة ما بين الشيخ الذى تراه وأبيك , بين الطفل الذى أمامك فى مظاهرة وابنك , أو أخيك , وبين المرأة التى تهتف فى الشارع وأمك .

هذا الاستدعاء – المُفترَض – المستمر لأهل بيتك وعائلتك هو ما يُغذى تلك الحمولة الرمزية القائمة على ضعف هذه الفئات الثلاث . لهذا يموت , رمزياً , أكثر من طفل لدى قتل طفل واحد , يتعذب أكثر من حمزة وثامر حين يتعذبان , لأن الجريمة الكاملة ليست تلك التى لا تُكتشف فثمة اكتشاف دائماً مؤجل بصدد أية وكل جريمة : اكتشاف المجرم أو مرتكبها ربما فى لحظة وإن متأخرة لمعنى الندم , أو على الأقل لعدم " ضرورة " جريمته وقد يتطور بعدها حساب النفس كى يظل مشهد حفل التعذيب والقتل الجماعى لضحية عاجزة ماثلاً كل ليلة وصباح فى خياله . والاكتشاف الثانى يرتبط بجانب ما ورائى أكثر والمقصود أن كل جريمة معلومة ومرئية من الله ولأن معذبى الأطفال ومغتصبى النساء بالأمر قد لا يؤمنون بهذا لن نخوض فيه حيث يتدعم  إيمانهم بعدم وجوده حين يرون إكمالهم جريمتهم بلا تدخل إلهى .

إن فكرة ترويع كل الأطفال وأهاليهم بالإمعان فى إطلاق الوحش داخل مجموعة من القتلة علىطفل أعزل سيغلبه أى منهم جسدياً بالضرب المنفرد دون الحاجة لعنفٍ جماعى , هى فكرة بالحتم تقوم على تلذذ واستمتاع القتلة بأشرس أنواع الألعاب وأكثرها إثارة لذلك الوحش الداخلى : اللهو بالإنسان . ليس فقط الإنسان الذى وقع فى أيديهم أو اختاروه كموضوع للهو والتعذيب , بل الإنسان فى داخلهم الذى دُربوا على تقليص مساحته وحتى إلغائه .

إنه تحدٍ مثير ترتفع درجة سخونته حين يبدأ " اللعب " الجماعى بسلامة وحياة ضحية عاجزة حيث لا يترك الفعل الجماعى بعلاماته الاستعراضية فرصة كبيرة لنجاة الضحية طالما بدأت اللعبة , فى كثير من الأحيان , دون أوامر علنية محددة بالضرورة , لانتخاب طفل ما كما فى السيناريو السورى , لو شئنا الالتفات عن إمكان وجود أوامر بهذا على غرار ما كنا نتكهن به وظهرت أدلة عليه مؤخراً بشأن النساء فى ليبيا .

الأطفال والنساء كانوا دوماً هدفاً وتسلية للوحوش المطلوقة داخل جند وفرق الآخر المتسيد والمحتل . اللعبة تشتد هوساً وإثارة بموجب نفس قانون تحريمها : العجز الكامل للضحية التى يعكس عليها المعتدى حالة من الاقتدار والتمكن المطلقين حيث يسعى إلى لعب دور الإله على هدف حى متحرك يتسابق مع مجموعته فى استكشاف إلى أى مدى يمكن لكل منهم أن يفوق الآخر فى اختراع أساليب تعذيب فائقة على الخيال أكثر من رفاقه , وبنفس الوقت اختبار لمدى قدرة الضحية وهى تتأوه وتتلوى على تحمل التنكيل قبل أن تلفظ أنفاسها . القانون الآخر غير المكتوب هو : إظهار الرحمة عار كامل ومدعاة للتشكيك فى الوطنية والرجولة قد يتسبب فى " معايرة " بعض أو كل أفراد فريق القتل لأحد أفراده , وفى أحوال شاهدنا نتائجها فضائياً , قد يؤدى إلى قتله . غير مسموح بتغيير قواعد " اللعبة " من الداخل . بهذا تمُسى الرجولة التى يتم زرعها فى ثقافة تخليق الإجرام واستنساخه , رديفة للرغبة الحريصة , لا القدرة فقط , على محو الآخر وإزالته فعلياً من الوجود . الذى لم أستطع أبداً استيعابه هو كيف يفصلون , الآباء من بينهم خاصة , بين الانتهاء تواً من تعذيب وقتل طفل كحمزة الخطيب ثم العودة إلى بيوتهم لملاعبة أطفالهم وضمهم إلى صدورهم !!؟ .

الإجابة لدى من استقرت شيزوفرينيتهم الأكيدة ستكون سهلة سهولة ما لا يشعرون باقترافه : ليسوا  أولادنا .

طالما ما زال الاجتماع على تعذيب وقتل طفل يؤرق الإنسانية , ستظل اللعبة مثيرة لمرتكبيها لأن حمى التبارى والتنافس فى بَز الآخرين فى القسوة والخيال الأكثر مرضاً , لا يشتد إوارها إلا بيقين المجرمين لتحقق منتهى الصدم لمشاعر وخيال الواقفين على الضفة الأخرى ممن يرتعدون من فكرة العدوان على الحياة بالأصل , ومن لا يلعبون كرة القدم بكلمة " ضمير " .

لهذا فإن اكتساب أطفال لصالح قضايا معينة وتدريبهم على القتل وحمل السلاح كما يحدث فى الكثير من الصراعات القبلية فى إفريقيا يمثل الوجه الآخر من ذات اللعبة , التى تتحقق فيها النشوة أو اللذة بـ " استئصال " البراءة من الحياة , إما اغتصاباً وهتكاً لرموزها الأطفال , أو بتحويلهم إلى " كبار " ممسوخين وغير أسوياء يتعيشون على ابتعاث التلذذ بالقتل لذاته من داخلهم بغض النظر عن القضية الأصلية التى تم اختطافهم لصالحها , وذلك لزيادة عدد اللاعبين فى اللعبة الأصلية بعدما يكونواقد أُفقِدوا كل قدرة على التمييز بين ما هو صواب وما هو جريمة . فى الحالتين تكون البراءة المستفِزة ( بكسر الفاء)  الهدف , وفى الحالة الثانية تكسب اللعبة لاعبين ومدربين جدداً لكسر الرتابة فى حلقاتها العليا , وحيث فى السياق الثانى يتحقق بمعنى ما المثل المصرى القائل " اللى تغلب بُه العب بُه " .

لا أملك أدنى قدرة على تخيل حالة ومشاعر أهالى أطفال التعذيب المغدورين حين يتسلمون جثثهم . ومن يتسلم جثة ابنه أو ابنته أو شقيقه الآن هو من المحظوظين فى العالم العربى . أن تكون لديك جثة عزيز أصلاً لدفنها صار بمعنى ما " أمنية " فى ظل تزايد المقابر الجماعية التى نكتشفها وما زالت ستُكتشف فى ليبيا وسوريا والعراق واليمن , بينما فى مصر تم دفن 19  جثة وصفت بـ " مجهولة الهوية " كنت أشاهد ملصقات لوجوه أصحابها المنفجر بعضها والغارقة فى دمها كلما نزلنا ميدان التحرير قبل التنحى , هذا عدا المفقودين .

حظ الحصول على جثة هو القَدَر الأعلى للمواطن العربى وحجم حقه فى الحلم بامتداد عصور . والآن الثورات المندلعة تريد استبدال قواعد اللعبة من أساسها .

بشكل أو بآخر , كانت الشعوب " تلعب" فى ذات اللعبة المذكورة حين ينتخب الوحوش

فريستهم السهلة وبعدما تنتهى اللعبة بمقتل الضحية والتمثيل بها , يلهو العالم بالحياة المُزهقة التى صارت " خبراً " للفرجة والانزعاج المؤقت على الفضائيات ثم تهدأ المسائل ويعود القتلة للكمون والشعوب المنعوتة بالجرذان أو التى ليست أكثر من صراصير فى نظر حكامها إلى جحورها , إلى الصمت المشوَه والتآكل وصيغ التنفيس العبثية أو التى يتم مباركة ورعاية انتهاجها لضمان الوقوف عند ما قبل الثورة .

بفضل فعل الثورة استوطن الملايين شوارع بلادهم  باستماتة ضد التعب والتيئيس والاشتياق للعادى واليومى وللراحة , كى يفرضوا مكاناً جديداً لهم فى اللعبة المفروضة عليهم من أزمنة  وقد ملّوا .الملل التام , لا الغضب فقط , هو ما أخرج هذه الملايين العربية إلى ساحات الشمس الساطعة فى بلادهم , وللمطر الكثيف كما فى ثوراتنا الشتوية الحديثة فى تونس ومصر .

الاحتجاج على دورها فى مسرحية رديئة , تنتزع فيها الشعوب البطولة وتحيل الأبطال – الضد إلى أقل من " كومبارس " , يعنى أن الملل – أحد أقوى المشاعر الإنسانية – قد بلغ الذروة . نعم الإحساس بالظلم ومعاناة الفساد وإهدار الكرامة والعدوان على الحرية هى وقود الثورات , لكن الضجر من نفس الدور المفروض بالقوة المتوحشة صعد إلى مقدمة هذه الثورات / الانتفاضات أيضاً بما تمثله من ثورة على النفس لتوكيد حقيقة قديمة : الحى لا يقبل بتجميد مكانه وحصته من الهواء وحسبان خطواته واتجاهه . الحىّ يؤكد حيويته وحياته بالإصرار على وضع شروطه الإنسانية المتسقة مع سائر الأحياء مثله بكل مكان . بأقل من هذا هو فاعل رئيس فى تحقير الآخر له . وفى اللعبة تثبت الشعوب العربية أنها مُقامِرة (بكسر الميم) . ننزل الشوارع بعد تلاوة الشهادتين سراً وإخفاء الأمر عن إخوتنا أو بأداء الصلاة والدعاء من جانب غير المسلمين , لأننا حقاً لم نكن على ثقة أننا عائدون إلى البيوت . نودع أمهاتنا فيستغربن , يسألن هل نودعهن ؟ .. لكن لا يمنعننا . لا نعرف هل نحن أكثر حظاً أم أقل , من الذين لم يعودوا . لكن نعرف أن المواطن العربى لم يعد يقبل بأن يكون منتهى حظه , أن يعود من مظاهرة حياً أو إن تم قتله لا يكون تعرض للتعذيب أو إن مات لا يتم التمثيل بجثته .

كل هذه الشعوب العربية فى الشارع لنسف هذه المعادلة , للإطاحة باليأس السابق والإماتة المعنوية الزائدة على الأربعين عاماً كما فى ليبيا . كلها شعوب اهتدت اخيراً بعذاباتها إلى المعنى الحقيقى للحياة التى لا نريد إضاعة بهجتها وثورتها بالتحول التدريجى إلى أغانٍ .. أو شعرنة فارغة , التحول العميق إلى القدرة على الفرحة والإنجاز ضمن حياة لم تعشها الشعوب العربية بشرطيها : الحرية والكرامة . كلها شعوب تكتشف بذهول , ثمن وحيثيات سكوتها على الحاكم الإله : لماذا سكتنا كل هذه المدة ؟ . هكذا يسأل الليبيون والمصريون والتونسيون والسوريون واليمنيون أنفسهم , وقريباً ستطرح شعوب عربية مجاورة نفس الأسئلة على نفسها .

تبديل قواعد اللعبة يتضمن أثماناً واضحة وأخرى لم تتحدد ملامحها بعد . جيل النساء المغتصبات كما فى ليبيا والأطفال غير معلومى الآباء كما فى اغتصابات الصرب لمسلمات البوسنة بهدف التطهير العرقى  ثم جيل الأطفال الشهود على ما حدث لرفاقهم من تنكيل وقتل والشهود على بكاء آبائهم كما نرى أطفال ليبيا الرضع يحملهم آباؤهم الذين يبكون فيبدأون البكاء , والرجال الشرفاء صاروا داخل اللعبة / اللعنة , يريدون كما صرحوا فى الفضائيات نبش ولو عظام القذافى من القبر لحرقها . هكذا يفرض المريض المرض على ضحيته لضمان استمراره الأبدى داخلها وفق شروطه , وهو ما يعنى أن الثورات هى أجمل وأرقى ما فى النفس ضد ما تم تقنينه قسراً على وجدان أجيال , أوحت لجلاديها بأنها ستظل فى الجحور بلا استحقاق للنور فى الخارج . كل المتوقع المُتعايش معه ينهار . فتحدث الصدمة الكهربائية للحكام التى يخرجون بعدها الشياطين .

لكن الشياطين كانت موجودة على أية حال قبل الثورات , فلم لا نثور ؟ .

الغِل سيأكل وجدان أهالى المغدورين , الذين انتقلت إليهم الجرثومة من النظام الفاسد . يتعاملون مع الشر بلا ميكانيزمات دفاع نفسى . يستجيبون برد الفعل الطبيعى الذى يحتاج عصوراً وجهوداً للتفكيك والشفاء . لا أحد يملك الجزم هل تحقُق مقتل أو إعدام اللاعب الرئيس الآمر بقذف شهوة التذبيح كفيل بإطفاء الغِل الذى صرنا كمتفرجين تليفزيونيين متورطين فيه بدورنا حيث نتحول إلى مثطالبين بالثأر والعدل ولا نفرق بينهما أم أن كل يريد قصاصه بيده . أميل إلى تصديق الهول الثانى , أى التشبع بالغِل حد أن لا يكتفى كل فرد فى ليبيا أو اليمن بغير ممارسة العنف على جسد الطاغية لو استطاعوا إلى ذلك سبيلاً . هناك نظرية فى الاستشفاء عبر جسر الأهوال ذاك لكن سيترك كل فعل أثره على فاعله وقد سمعنا عن بدايات جرائم ضد الإنسانية بدأ ثورا ليبيا يمارسونها . حين يجتمع الملل والغِل لا تملك قوة الوقوف فى طريقهما .

كنتُ ألاحظ النضج المعنوى المبكر فى الكثير من أطفال فلسطين والمخيمات . كان يفرحنى ويحزننى , ففيه إشارة تطمينية أن من كبر قبل الأوان لن يتنازل عن القضية والأرض والكرامة . لكن بنفس المعنى هو نفس الطفل الليبى أو اليمنى الذى لم تسمح له الظروف أن يحيا براءته رغم اختلاف المواقف والأوضاع .

أشاهد تليفزيونياً بنات ليبيا وصبية اليمن وأطفال سوريا فأرى علامات الغِل والحزن المصاحبة لأجيال تالية, أراهم كباراً يتوعدون بالثأر , ملامحهم عجوز مكفهرة , الغيظ يأكل الوجوه ماحياً البراءة - الهدف الرئيس للعبة أعدائهم - الذكريات والحكايات والتجارب الشخصية بويلاتها ستمكث , عصوراً .

ولكن لأنهم لم يعودوا أطفالاً فهذا الثمن – ها هى المفارقة – يستوجب بكل ما أدى إليه , تغيير قواعد اللعبة كى لا يظل " الملك هو الملك " كما نتذكر للسورى الرائع سعد الله ونوس ولا " الرئيس هو الرئيس " وخاصة إذا كان الأخير مثل مبارك , الذى قال لدى انفجار ثورة 25 يناير فى البداية جملة لا تختلف عن مقولة مارى أنطوانيت لدى علمها بثورة الجماهير الفرنسية الجائعة لكونها بلا خبز " فليأكلوا البسكوت ", إذ قال المخلوع " خليهم يتسلوا " . فاته أن أول شروط التسلية التى كنا نمارسها فى ميدان التحرير كما قلت لشباب بجانبى لا أعرفهم هو أن تتغير صيغة اللعبة وعلاقات اللاعبين  لصالح تمكين ديمقراطى عميق ودائم ( كنا نتحدث عن نيكولاى شاوشيسكو وزوجته ) ومع اندساس عنصر أمن دولة عرفناه أمامنا فجأة ومطاردته لنا باستجوابات خشنة كمجس وتشكيكه فيما بيننا وفى جنسيتى , قلت : " عملنا بنصيحته .... أدينا بنتسلى " .

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل