المحتوى الرئيسى

> فتنة الأجيال

06/09 21:09

كتب : أحمد زكي عثمان

قبل خمس سنوات، أرجع الراحل د. محمد السيد سعيد جزءا من أزمة التعايش الحالية ما بين المسلمين والمسيحيين في البلاد إلي التحولات الجيلية التي أفرزت قطاعات سكانية شابة رأي أنها لم تنصهر في "تجربة وطنية عميقة وأصيلة تدفعها لاستيعاب التراث الخالد من المودة المتبادلة" بين الطرفين المسلم والمسيحي.

في مصر الآن هرم سكاني تهيمن عليه الأجيال الشابة. وهذه الأجيال هي التي صنعت الثورة، لكنها خلقت في الوقت ذاته المناخ المسئول عن بلوغ العنف الطائفي مستويات لم تشهدها مصر القرن العشرين.

لم تخض هذه الفئات معارك عميقة ومتواصلة في العمل الوطني العام. فلا هي اختبرت قسوة رؤية الوطن وهو محتل علي غرار جيل اللجنة الوطنية للطلاب والعمال بعد الحرب العالمية الثانية، ولا هي شاركت بسواعدها في إنجاز أحلام الدولة الناصرية من تحرر وطني وتنمية مستقلة ودور ومكانة إقليميين، ولا هي أيضا شاركت في العمل المسلح- مثل محمد السيد سعيد نفسه- لإجبار المحتل علي الجلاء من سيناء.

في هذه التجارب لم يكن متوقعا ببساطة أن تسود حالة من الفرز الطائفي داخل هذه الأجيال. فحالة التوحد نحو تحقيق أهداف محددة صهرت الجميع تقريبا ودفعتهم للبحث عن سبل للتعايش لا تعطي وزنا لفكرة الاختلاف الديني.

هذه القراءة لا تعني أن التوترات الطائفية كانت منعدمة. فالواقع أن بذور التوترات الطائفية بشكلها الحالي قد بدأت قبل نصر أكتوبر (حادثة الخانكة 1972) واستمرت طيلة سني السبعينيات من حالات وثقتها الصحف للاعتداء علي دور العبادة المسيحية.

وقد يدفع البعض أيضا أن صيحة "الله أكبر" التي أضحت من أيقونات نصر حرب أكتوبر كانت في حد ذاتها تحولا نحو صيغة لـ "أسلمة المجتمع" التي تقصي طائفيا أتباع الديانة الأخري والذين شاركوا بنفس العزم في جلاء المحتل.

لكن عموما يختلف ذلك الجو الطائفي "القديم" عن مثيله الحالي. ويكمن السبب ببساطة في التحولات الجيلية التي عصفت بالبلاد.

خلال العقدين الأخيرين اختبرت مصر حالة مركبة من الاستبعاد الاجتماعي. فمن ناحية أولي أقصي النظام الحاكم الشباب من معظم مصادر الفعل الاجتماعي، ومن ناحية أخري حدد للمسيحيين "كوتا" لحضورهم في المجال العام.

سأرسم هنا صورة مبسطة لزمن الإقصاء هذا.

شهدنا نحن-الأجيال التي ولدت عقب نصر أكتوبر- الحرب الضروس التي شنها نظام مبارك علي السياسة. في الجامعة لم يكن هناك أي مساحة للعمل العام. وتمكن البوليس السري من السيطرة علي كل منافذ النشاط الطلابي. وفي المدينة الجامعية وضع المسئولون قاعدة طائفية بموجبها لا يمكن للطالب المسلم أن يقطن مع الطالب المسيحي في غرفة واحدة.

وبالتزامن، أثمرت حرب مبارك علي السياسة خارج الجامعة. فقد جري تفريغ الأحزاب السياسية من أي أفق لتجنيد أعضاء جدد. ورزحت النقابات المهنية تحت أغلال الحراسات القضائية.

وعانت باقي تكوينات المجتمع المدني الأمرين من القوانين التي تكبل حركتها.

الحيز الوحيد الذي كان متاحا لهذه الأجيال الجديدة هو حيز المؤسسات الدينية. أضحي المسجد أداة التجنيد المفضلة لجماعة الإخوان المسلمين التي ظهرت وكأنها المستفيد المركزي من سياسات مبارك. وظهرت الكنيسة بوصفها ملاذا للشباب المسيحي الذي لا يجد متنفسًا في مجتمع بات يخطو أكثر نحو أفكار الإقصاء المبني علي الدين.

ولتعميق الأزمة الطائفية خاض المجتمعان الشابان (المسلم والمسيحي) حربا طائفية إعلامية دارت رحاها علي مواقع التواصل الاجتماعي (مدونات، وفيس بوك، ويوتيوب،و تويتر). ولأول مرة وجدنا منابر مفتوحة للتنابذ والصراع الديني في البلاد. هذا المسلم يشكك في المسيحية وذاك المسيحي يطعن في الإسلام.

ودعم موقف الدولة "الملتبس" حجة كل طائفة.

الشباب المسلم (إخوانيا أو سلفيا) رأي في الدولة طرفا متواطئا مع الكنيسة التي تحولت حسب زعم البعض إلي دولة داخل الدولة.

وفي المقابل، اتهم الجيل المسيحي الشاب الدولة أيضا بالتراخي عن حماية المسيحيين، قبل أن يرتفع سقف الاتهام إلي كون الدولة نفسها طرفا في عملية تصفية المسيحيين في الداخل.

لم تكتف هذه الأجيال بصراع الأفكار والعقائد علي الفضاء الإلكتروني، فقد نزلت إلي الشارع لتعلن عن مطالبها. الشباب السلفي طيلة عام كامل تقريبا لم يجد قضية تستحق الخروج إلي الشارع سوي قضية كاميليا شحاته.

أما الشباب المسيحي فقد خرج للتظاهر أيضا، لكنه نقل أماكن تظاهراته من وراء أسوار الكنائس إلي الشارع-لأول مرة- في إعلان صريح لتحدي النظام الحاكم ومواجهته.

في أعقاب الاعتداء علي كنائس الإسكندرية الثلاث في 2006 خرج الجيل الجديد من المسيحيين في تظاهرة عابرة، لكنهم عادوا في عام 2010 ليحتلوا شوارع نجع حمادي تنديدا بعملية القتل الهمجي للمصلين في كنيسة هذه المدينة التي راح ضحيتها ستة مسيحيين وفرد الشرطة المسلم.

كانت الرسالة- كما قال لي شاب مسيحي من نجع حمادي- هي إعلان ملكية هذا الجيل المسيحي الشاب للشارع مثلما هو ملك المسلمين.

وحين هز التفجير الإرهابي كنيسة القديسين في الإسكندرية، كان عشرات الآلاف من الأجيال الجديدة تعتصم وتتظاهر في الشارع. تهتف "بالروح بالدم نفديك يا صليب" و "ارفع راسك فوق أنت قبطي."

وفي نفس اليوم الذي شهد الاعتداء علي كنيسة مار مينا وحرق كنيسة العذراء في إمبابة، خرجت دعوة للاعتصام أمام مبني التليفزيون.وخلال ساعات قليلة كان آلاف يترجلون في مسيرة من أمام دار القضاء العالي إلي ماسبيرو.

المشهد هنا ببساطة يعني أن هناك حالة مزاحمة علي احتلال الشارع بالتظاهرات. وهذا في حد ذاته تطور إيجابي ، ذلك لأنه في رحلة ذهاب هذا الجيل إلي الشارع، ظهرت قيادات ميدانية علي الأرض أثبتت قدرة علي الاعتصام وبلورة المطالب (فتح كنائس ومحاسبة المسئولين عن جرائم الاعتداء علي الكنائس).

لكن الخطر يكمن في ألا تتجاوز تظاهرات الشوارع هذه الأبعاد الطائفية التي خرجت من أجلها.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل